في حوار أجرته معه بوابة أفريقيا الإخبارية، قال أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية عبدالله أبوعوض الحسني أن الدول المغاربية ليست بمنأى عن مطامع الدول التي سبق أن استعمرتها. الأستاذ الذي أشاد بالعلاقة الودية بين الشعوب وانتقد الدول وحكوماتها، أغفل، في رأيي، أن الشعوب والدول والحكومات ضحية ما تستهلكه من طبيخ نخبها الفكرية والأكاديمية، وحتى الشعوب ليست في منأى عن المشاعر المحتقنة التي يصفو طقسها حينا ويتعكر بخطاب الكراهية حينا آخر. وبناء على تاريخ الشعوب والحضارات وما نعايشه في راهننا المغاربي، فلن يستقيم أمر السياسة في البلدان المغاربية إلا إذا استقامت المؤسسات العلمية والفكرية والتربوية والإعلامية التي مازالت تحت إشراف نخبة/زمرة من قصار النظر وطوال اللسان. سيقول قائل، بأن هذه المؤسسات مسؤولية الدول والحكومات والنخب العلمية لا حيلة لها وهي بريئة مما يحدث. من جهتي، أرى أن كل ما يحدث فبسبب النخب العلمية التي عشش في وسطها الجهل والطمع والحقد، وموضوع النخب المغاربية موضوع ذو شجون سنخصص له ملفا من عدة حلقات في أعدادنا اللاحقة.
أما بخصوص الأطماع الاستعمارية، فلا جدال في ذلك، وأتفق مع الأستاذ جملة وتفصيلا، لكن ما نوعية هذه الأطماع؟ ولماذا؟ وكيف؟ وهل الطامعون يستندون على ما يبرر مخططاتهم ويعرفون متى وكيف يعودون إلى ديار مستعمراتهم، أم هم مجرد معتدين بلداء لا يقيمون حرمة لبلدان تحترم نفسها وتحرص على العدل والحرية والمساواة بين مواطنيها؟ ليس بالضرورة أن يعود الاستعمار القديم، فقد يأتينا استعمار جديد بحجة أننا أصبحنا عبئا على العالم وعائقا في وجه الأمن والسلام، وبدعوى أن دولنا فاشلة تحتاج إلى إعادة تأهيل.
ما هي الدولة الفاشلة؟ لا يسلط الإعلام ضوءه، إلا نادرا، على جملة من المفاهيم المفتاحية ذات الصلة بعصرنا وقضايانا الراهنة. ولعل من أهم المفاهيم الغائبة عن الإعلام، بل غائبة حتى عن الانشغال الأكاديمي، مفهوم الدولة الفاشلة.
والدولة الفاشلة مفهوم حديث النشأة ينطبق في بعض مؤشراته حتى على بعض البلدان الغربية، ويدل على فشل الدولة كليا أو جزئيا في تدبير مجالها الترابي أمنيا وتنمويا. وهي التي تواجه مشاكل تهدد تماسكها واستمراريتها.
يمكن أن تجد الدولة صعوبات في تأكيد احتكار العنف الشرعي (كما هو موضح من قبل ماكس فيبر) على سبيل المثال: إذا غاب الشعور بالأمن وساد الشعور بالخوف، أو إذا انعدمت الثقة فيها وأصبح مشكوكا في قدرتها على فرض نفسها في تنافس على الحكم مع بعض الفاعلين المحليين جراء ضعف الكفاءة لدى الإدارة، النسق القضائي، طغيان الاقتصاد غير المهيكل وتدخل الجيش في السياسة، حتى في حالة عدم وجود تمرد مسلح.
تعود جذور هذا المفهوم المثير للجدل إلى عام 1990، بعد نهاية الحرب الباردة، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتحلله السريع، وفي سياق تصنيف العالم إلى مناطق للسلام وأخرى للفوضى (الكاوس)، وتحت اسم (الدولة الشبه). وظهر مفهوم الدولة الفاشلة عام 2005، حيث شرع صندوق السلام ومجلة السياسة الخارجية فوريغن بوليسي في إصدار مؤشر سنوي حول لائحة الدول الفاشلة والتي تشمل فقط البلدان الأعضاء في الأمم المتحدة.
وعندما تصبح دولتك فاشلة، وتبقى مشغولا بأوهامك من أمجاد وبطولات أسلافك، وتصر على أنك الأفضل والأجمل، وأنك محسود.... في هذه الحالة ماذا تريد من الآخرين؟ عندما تفشل في تأسيس دولة بمقاييس العصر، تفشل في الوقت القانوني، ثم يمهلك التاريخ أو العناية وقتا بدل الضائع لإصلاح ما أفسدته بجهلك، ولا تفعل، بل تراكم فشلك، ماذا تريد؟ عندما تهدر فرصا من ذهب، فتضيق عليك السبل من كل جهة ولا تسأل نفسك عن السبب، لماذا تلوم الآخرين؟
بعد انفجار ثورات 2011 انكشفت عورة الأنساق السياسية، وانهارت عدة دول كليا أو جزئيا، ودخلت بلدان أخرى في إصلاحات سياسية ظلت تراوح مكانها بسبب الجهل والكسل والقصور العلمي وطغيان الخطاب الشعبوي.
من الأمثلة التي نسوقها، تمثيلا لا حصرا، حول الكيفية التي قاربت من خلالها النخب العربية هذا المفهوم، دراسة أعدها ضابط لبناني عام 2017، أي قبل انفجار مرفأ بيروت بحوالي ثلاث أعوام. الدراسة مهمة من حيث وفرة المعلومات والإحالات والدقة الكرونولوجية للمفهوم؛ غير أنها تفتقر إلى التماسك المنطقي من حيث التحليل والخلفية والغاية. ويعتبر صاحب الدراسة أن مفهوم الدولة الفاشلة، وعلى غرار الدولة المارقة والدولة الراعية للإرهاب، مفهوم اختلقته جهات "للتدخّل في شؤون الدول الأخرى بهدف تحقيق مصالح سياسية واقتصادية على وجه الخصوص، عبر مجهودات مختلفة، منها اتّهام الدول بالفشل."
وفي هذه الدراسة المسهبة، لم يمنح بلده لبنان إلا بضعة سطور، ليتهم جهات تسعى إلى النيل من سمعة لبنان عبر وصفه بالدولة الفاشلة تمهيدا للإجهاز عليه. وبدل أن يقف وقفة تحليل وتشخيص للوضع السياسي في لبنان لمعرفة مكامن الخلل، راح يكيل التهم لـ"مفهوم الدولة الفاشلة" وللدوائر التي اصطنعته، وكان يكفيه أن يقرأ السياق الذي جعل من حزب الله تنظيما عسكريا، ليكتشف دون عناء أن لبنان دولة فاشلة لسبب بسيط وهو أنها تعترف بأنشطة عسكرية لتنظيم حزبي من المفترض أنها من مهام الجيش اللبناني.
على المستوى المغاربي وبحسب تصنيف منظمة(Fund For Peace)لعام 2021، تُمثّل ليبيا أكثر الدول هشاشة، حيث تدحرجت من المرتبة 25 عام 2018 إلى المرتبة 20 عام 2020 إلى المرتبة 17 عام 2021 بينما تحسن موقع موريتانيا في سلم الترتيب من المرتبة 31 إلى المرتبة 33. أما مراتب الجزائر والمغرب وتونس لم تتغير، حيث بقيت الجزائر في المرتبة 73، والمغرب في المرتبة 83، وتونس كانت الأفضل في التصنيف على المستوى المغاربي برتبة 93. وتضمنت المراتب العشر الأولى من بين 179 دولة 4 دول عربية كأكثر الدول هشاشة، تصدّرتها اليمن كأكثر دولة هشة في العالم، وتلتها الصومال وسوريا، وجنوب السودان، والكونغو الديمقراطية، وأفريقيا الوسطى، وتشاد، والسودان، وأفغانستان، وزيمبابوي. التي شهدت جميعها صراعًا و/أو انهيارًا اقتصاديًا على مدار العقد الماضي.
والدول الأقل هشاشة في العالم هي فنلندا بترتيب 179 وتلتها النرويج، وأيسلندا، ونيوزيلاندا، والدنمارك. وحققت الإمارات أقل مرتبة بين الدول العربية من ناحية الهشاشة بترتيب 151.
تحت عنوان "الاتجاهات العالمية في 2025: العالم المتحوّل" أصدرت الاستخبارات الأمريكية، شهر نوفمبر 2008، تقريرا حول وضع العالم في العام 2025. و قد رسم التقرير صورة سوداوية ومخيفة لمستقبل العالم الذي سيكون محل تهديد من الصين وبعض الدول الأخرى الصاعدة وبلدان المغرب العربي والشرق الأوسط. ومكمن الخطورة-حسب التقرير- هو تحوّل الإرهاب من شكله التقليدي الحالي إلى إرهابيين من مستوى "عال"، حيث سيسعى "الجيل الجديد من الإرهابيين إلى امتلاك أسلحة نووية، وإذ ذاك يكون تنظيم "القاعدة" قد اندحر بفعل "الفشل في تحقيق استراتيجياته وعجزه عن جذب الدعم الخارجي ويُصرّ التقرير على أن لا تغادر عين أمريكا منطقة الشروق الأوسط والمغرب العربي، كما أكد على انبعاث السباق نحو التسلح من جديد وانطلاق "المد الاستعماري" باشتداد المنافسة العسكرية بين قوى عديدة في سبيل السيطرة على مناطق النفوذ. قبل ذلك بحوالي شهر حذرت الاستخبارات الأوربية من تنامي الإرهاب في المغرب العربي حيث أعرب خبراء غربيون في مجال الاستخبارات خلال اجتماع لهم عقد ببرلين عن خشيتهم من امتداد الشبكات الإرهابية في المغرب وتنامي نفوذ تنظيم القاعدة في الساحل الإفريقي إلى أوروبا، وأن شمال إفريقيا يمثل اليوم «مزيجا متفجرا». وهناك من رأى "أن مثل هذه التقارير تهيئ الإمبرياليا إلى الخروج السافر لتحقيق مخططاتها"، بينما هناك من رأى أن الغرب لن يبقى مكتوف الأيدي أمام الفشل السياسي والأمني في المنطقة المغاربية، وأنه سيتدخل بشكل أو بآخر لإخراج دول المنطقة من فشلها.