هل ثمة علاقة بين معرفة المستقبل ومعرفة الماضي؟ وإذا كانت معرفة الماضي صعبة من حيث ندرة المعطيات أو من حيث زيفها من جهة، ومن حيث جودة أو رداءة قراءتها وتحليلها من جهة ثانية، فكيف تكون معرفة المستقبل متاحة؟ وكيف يعرف المستقبل من يفشل في معرفة الماضي ومعرفة الزمن الذي يعيش فيه؟
على مستوى الحياة الفردية والشخصية، من يرتبط بالماضي ارتباطا خاطئا، حتما، سيرتبط بالمستقبل بشكل خاطئ، ويبدو أن من يرتبط بالماضي بشكل واع وعقلاني، و/أومن يفك ارتباطه بالماضي بشكل عقلاني، كلاهما سيسهل عليه تصميم رؤية إلى المستقبل ويسهل عليه تأمين شروط تحقيق ما يتطلع إليه، من منطلق أن كليهما تحرر من الماضي بطريقته الخاصة، عكس من يربط نفسه بالماضي أو يتنكر له، دون دراية وإحاطة ودون وعي، ومن حيث أن هذا الأخير أكثر ارتهانا للماضي وأكثر استلابا.
لا يختلف الأمر على مستوى الجماعة (سواء كانت وحدة صغرى كالأسرة والطائفة والحزب..، أو وحدة كبرى كالدولة والعالم)، وتكون مهمة تحرر أعضاء هذه الجماعة من الماضي أكثر صعوبة كلما كانت جماعتهم مرتهنة إلى الماضي، بينما تكون أكثر سهولة كلما كانت جماعتهم قد فكت ارتباطها بالماضي.
لذلك نجد أغلب الناس لهم ارتباط سحري بالماضي وبالمستقبل، وأكثر رغبة في معرفة مستقبلهم ومستقبل العالم. أن نعرف، وأن نكون على بيّنة هو بداية الحل، أما أن نتوهم أننا نعرف فهذا معناه أننا نزداد تورطا في المشكل. ويكفي أن نلقي بنظرة على الجدل المغاربي حول الهوية لنعرف حجم الأزمة التي تعيق عملية الحوار والتواصل بين المتجادلين، وتحجب عن الشعوب إحداثيات التفكير العقلاني الذي من شأنه أن يسمح لهذه الشعوب بأن تنعم بحياة تسود فيها الحرية والعدالة والأمن والكرامة.
منذ أن لمعت الفكرة المغاربية في ذهن الحركة القومية المغاربية مطلع القرن العشرين في سياق النضال التحرري، بقي الحلم المغاربي سرابا يحسبه الظمآن ماء. وبعد أن مضت ستة عقود من الاستقلال، وجدت الشعوب المغاربية نفسها اليوم تحلم بما هو أدنى. لقد اتضح أن الأقطار المستقلة لم تتمرن على "الأوتونوميا" وظلت تعاني من قصور سياسي فادح.
اتضح أن مشروع الاتحاد المغاربي كان يفتقد إلى شروط تحققه. كان المؤمنون بهذا المشروع يتغنون بوحدة المصير والتاريخ ووحدة الدين واللسان ووحدة الجغرافيا، لم ينتبهوا أن ما يتغنون به ويدبجون به خطبهم، مجرد عوامل. ومثلما يكون الدين واللسان والثقافة... عوامل تواصل وتفاهم واستقرار وقوة، يكون أيضا عوامل صراع وتفرقة وضعف. بينما الاتحاد لا يتأسس إلا وفق شرطه السياسي العقلاني (الدولة الديمقراطية العلمانية، دولة الحق والقانون).
اتضح أن كل قطر كان يعاني من أمراض عديدة، وكان يحمل في صلبه بذور تخلفه وتفككه؛ ومنطقيا لا يمكن للأقطار الخمسة أن تتحد مادامت، كلها، تعاني من هشاشة جبهتها الداخلية وقابلية انفجارها، أو مادامت تعاني من احتقان سياسي والتباس هوياتي. فحتى تتحد مع غيرك يتوجب أن تكون متحدا مع نفسك، أي أن تكون (أنت أنت) وهذا ما يسمى في المنطق بمبدأ الهوية أو التطابق وأن لا يكون (أنت) (لست أنت) وهذا ما يسمى بمبدأ عدم التناقض.
فمن العبث أن تدخل في مشروع اتحادي مع شخص يعاني من تناقضات منطقية، ينام على شيء ويصبح على نقيضه؛ ذلك هو حال أغلب العلاقات الشخصية والأوضاع الداخلية للجمعيات والأحزاب وحتى الشراكات والمشاريع المقاولاتية والاقتصادية.
تعطّل الاتحاد المغاربي في بداية نشأته، وازدادت البلدان المغاربية تشرذما وتنابذا، وعلى سبيل المقارنة، استمر مجلس التعاون الخليجي وصمد رغم كل الخلافات، وسيكون أكثر قوة وأكثر اتساعا قبل نهاية هذا العقد.
هذا هو الخلل، فأين الحل؟ هل أدرك كل قطر أن رهانه هو إعادة بناء نفسه على أسس صلبة؟ هل ثمة ما يؤشر في أوساط النخب على تحول في تفكير الأولويات؟ ما هي الرهانات التي تبقت لكل قطر؟ ما هي الرهانات الليبية اليوم؟ والرهانات التونسية؟ والجزائرية؟ والموريتانية؟
ما هي رهانات أنصار 25 يوليو في تونس؟ ورهانات حزب النهضة مثلا؟ ما هي رهانات حكومة دبيبة؟ وحكومة باشاغا في ليبيا؟ وما هي رهانات المغرب في علاقته بإسرائيل ورهانات المناهضين للتطبيع؟ ما هي رهانات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ورهانات الأحزاب الموالية له والأحزاب المقاطعة لسياسته؟ ما هي رهانات موريتانيا؟ ما هي رهانات دعاة التطبيع ورهانات مناهضي التطبيع؟ ما هي رهانات البوليساريو؟ وما هي رهانات دعاة استقلال الصحراء ورهانات دعاة الحكم الذاتي؟