خارج التعريفات الفنية، تعدّ السينما سلاحا إبداعيا ورائدا وفعالا نظرا لقدرة هذا الفنّ على  تمثل القضايا الإنسانية ، وذلك على جميع الأصعدة الاجتماعية والثقافية والسياسية والإنسانية. هذا لأنه يرجع إلى مدى تأثيرها على المتلقي، وقدرتها على التلميح إلى  انشغالات الذات الإنسانية بمجموعة من الهموم التي يعيش الإنسان حرقتها على المستوى الكوني.

 والسينما المغربية، باعتبارها تشهد تحولات إبداعية ومراكمات مكنتها من الابتعاد عن غيرها في البلدان الإفريقية،  انشغلت بدورها على قضايا إنسانية عامة وبقضايا وطنية خاصة، وافريقية أيضا. وهذه القضايا متعددة  كالقضية الأمازيغية، والاعتقال السياسي، والإرهاب ومكانة المرأة. وربما يعود تمكنها من ملامسة العديد من الإشكالات، إلى أنها خاضت تجربة تاريخية متميزة، جعلت منها تستفيد من أخطائها وتحتك بالتجارب الغربية الأخرى، فصارت جاهزة لترسم لنفسها مسارا يميزها. وهو ما سيدفعنا إلى الخوض في البحث عن تاريخ هذه السينما، ثم ننتقل فيما بعد إلى رصد القضايا التي عالجتها، ومن ثمة التساؤل عن الصعوبات التي تواجهها ومحاولة التنبؤ بمستقبلها.

المسار التاريخي للتجربة السينمائية

البدايات

تكشف معظم البحوث المهتمة بالسينما المغربية، أن أول شركة تعنى بالأفلام، كانت قد أسست في سنة 1939 بالدار البيضاء، ومن بعدها تم تأسيس أستوديو في الرباط، ومبنى إداري للخدمات السينمائية تابع لوزارة الإعلام وقد كان ذلك في سنة 1944. أمّا في سنة 1953، فقد أسس المركز السينمائي المغربي الجريدة السينمائية للدولة بالتعاون مع الفرنسيين. وهذا الاحتكاك والتفاعل مع الآخر الغربي، مكّنا المغاربة الذين وجدوا مساندة، من إنتاج العديد من الأفلام في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ونذكر على سبيل المثال فيلم "الباب السابع"، وفيلم "زواج الصحراء".تكشف نفس البحوث، عن تزايد عدد دور العرض السينمائي التي ظهرت بالمغرب، من فترة إلى أخرى تليها، إذ تطورت لتشهد قفزة نوعية من حيث الأرقام، فمن حوالي 80 دار عرض عام 1945 إلى حوالي 150 دار عرض عام 1956. و استمر التزايد، إلى أن بلغ عدد دور العرض 250 دار عرض في بداية التسعينات، أغلبها في المناطق الحضرية. هذا الإقبال السريع على تشييد الفضاءات، لم يمكن المهتمين بالإنتاج السينمائي، من خلق أفلام مغربية مستقلة عن غيرها من الأفلام الوافدة، فلقد تواصل الغزو الثقافي إلى حدود ما بعد 12 سنة من خروج الاستعمار، حيث بدأت أولى التجارب في الظهور.إن البداية الحقيقية، على مستوى الكتابة والإخراج والتصوير والمونتاج، ترجع إلى منتصف الستينات كما تتفق على ذلك معظم الآراء التي أشادت بالفيلم الذي حمل عنوان "الحياة كفاح"، وهو من إخراج محمد التازي، وفيلم "عندما يثمر النخيل"، وهو من إخراج مشترك بين السينمائيين، عبد العزيز رمضاني والعربي بناني.

فترة السبعينات 

لم يقترن السينما في فترة السبعينات بنظام معيّن، ولا بمسار ثقافي شهدته المغرب، وإنما ظل رهين الإبداعات الذاتية، فقد استطاع البعض من المخرجين التأسيس لأنفسهم بإنتاج أفلام معظمها روائية. وعلى سبيل الذكر، يمكننا تسليط الضوء على تجربة عبد الله المصباحي وسهيل بن بركة.ذهب الأول للاقتداء بالنموذج المصري المتعلق بأفلام الميلودراما الموسيقية، وأنتج فيلم "الصمت، اتجاه ممنوع" في سنة 1973، وفي السنة الموالية أقدم على مغامرة قوامها إنتاج فيلم تجاري حمل عنوان "غدا تتبدل الأرض". هذا وقد اشترك مع الليبيين في إنتاج فيلم "الضوء الأخضر" وذلك في سنة 1976.كما أنه عمل لفترة طويلة في الأستديوهات المصرية.أمّا  الثاني فقد حاول التأسيس لمسار فكري يهتم بصناعة السينما المغربية، دون الوقوع في التقليد واجترار ما أنتجه الآخر، ويذكر أنه درس علم الاجتماع في روما، كما عمل مساعدا للعديد من المخرجين الايطاليين. أنتج فيلم الأول في بداية السبعينات من القرن الماضي وحمل عنوان "ألف يد ويد"، نقد من خلاله العديد من القضايا، ومن بعده أنتج فيلمين آخرين وهما "حرب البترول لن تقع" سنة 1974، و"عرس الدم" في أواخر السبعينات.

فترة الثمانينات 

شهدت فترة الثمانينات تحوّلات كبيرة، ومنعطفا نوعيا في تاريخ السينما المغربية، إذ تدخلت الحكومة لتقدم نظاما معينا للإنتاج الفنّي، وهو ما أثر على العديد من الفنانين حيث حصل التشجيع النشاط الإنتاجي. وهذا الأمر تكشفه الأرقام وحدها بعد أن تم إنتاج حوالي 50 فيلما روائيا معظمها لمخرجين جدد.مكن هذا الأمر، العديد من المخرجين، على فرص انتاج أكبر، حيث أنتج نبيل لحلو مجموعة من الأفلام على غرار "الحاكم العام" و"نهيق الروح" وكوماني" في فترة ما بين 1980 و1989.  وأنتج محمد التازي هو الآخر مجموعة من الأعمال السينمائية في بداية الثمانينات ومن بينها "امينة" و"للا الشافية". أما عبد الله المصباحي وسهيل بن بركة، اللذين عرفا بغزارة انتاجهما، فقد أخرج كلّ منهما فيلما واحدا، ليكون من نصيب الأول فيلم "أرض التحدي"، أما الثاني فقد كان له فيلم "آموك" الذي تناول قضية العنصرية بتمويل سينغالي وغيني ومغربي.

فترة التسعينات 

شهدت السينما المغربية بداية من تسعينات القرن الماضي حتى هذه اللحظة، طوفانا غزيرا من حيث الإنتاج، إذ تعددت الأفلام، وزاد الإقبال على هذا الفن، وتعدد الباحثون والدارسون والمخرجون، وهو ما مكن المغرب من تحقيق إقلاع فنّي تجاوز التجار العربية والإفريقية بأشواط. وربما من الأفضل أن تجدر الإشارة إلى نماذج وتجارب معينة حتى يمكننا إثبات صحة ما ذهبنا إليه. فقد أنتج سهيل بن بركة فيلما تاريخا حمل عنوان "فرسان المجد"، وأنتج نبيل لحلو فيلم "ليلة القتل"، أما مصطفى الدرقاوي فقد قدم "قصة أولى"، وعلى غرارهم أخرج الجيلاني فرحاتي فيلم "شاطئ الأطفال الضائعين".أما من حيث الجانب الإبداعي، فقد أشارت العديد من الدراسات النقدية الى فيلم روائي وصفته بالمدهش، وهو بمثابة العمل الأول لمجموعة من المخرجين الذين حاولوا تجاوز التجارب الراهنة، وحمل هذا الفيلم عنوان "رماد الزريبة"، وبالرغم من أنه كان في فترة السبعينات إلا أنه كان منطلقا  للتأسيس والتجاوز والتخطي لتجربة التسعينات وما بعدها، حيث شهدت هذه الفترة عناوينا مثيرة أهمها فيلم " يوميات حياة عادية" لسعد الشرايبي، وفيلم "حب في الدار البيضاء" لعبد القادر لقطع، وفيلم "عرس الآخرين" لحسن بن جلون الذي درس في باريس، وفيلم "من الجنة إلى النار"  لسعيد سودة.وبالرغم من هذا الإقلاع الفني، الذي شهده القطاع السينمائي في المغرب، الا أنه هو الآخر، وعلى غرار التجارب العربية والإفريقية، بقي يعاني من هموم كثيرة ومتشعبة، ويواجه تحديات مختلفة منها ما يتعلق بالمؤسسات، ومنها ما يرتبط بالظروف المهنية المحيطة بالعمل السينمائي، ومنها ما يرتبط بتكوين المخرج وقدراته الإبداعية. لكننا هنا لن نحاول الدخول في تفاصيل تقنية وإدارية، بقدر ما  سنركز على القضايا التي تناولها هذا القطاع باعتباره آلة وسلاح نقدي من شأنه أن يؤثر على المجتمعات ويثوّر العقول ويفتح مجالات أخرى للإبداع والحرية.

السينما المغربية ومساءلة الواقع ونقده

الواقع الاجتماعي

تناولت السينما المغربية العديد من القضايا من الاجتماعية، ونقدت طيلة مسارها الفني جملة من المظاهر المغربية ذات الخصوصية المحلية، كالنزوح والهجرة القروية، وما انجر عنها من تبعات اجتماعية وسياسية واقتصادية. ذلك أن معظم الأفلام تناولت مسألة الفرو قات الاجتماعية بين الفقراء والمحرومين والمشردين والمعطلين عن العمل والأغنياء والأثرياء، ونذكر على سبيل الذكر فيلم "الخبز الحافي" الذي اقتبس من رواية محمد شكري، ونقد بضراوة وحدّة تلك الأوضاع الاجتماعية المتردية. إضافة إلى ذلك ساهمت السينما المغربية في تعرية العديد من الحقائق الاجتماعية هناك، وذلك بالكشف عن المخفي وعن الوجه الآخر للعالم المغربي وواقعه، فأشارت إلى قضايا الطلاق وأسبابها، ومسألة الانتحار ودوافعها، وإشكالية الفقر ومتسببيها، محاولة بذلك إيجاد فتحة للوصول إلى الشعب المغربي وتوعيته ووضع الإصبع على موطن علّته ومشاكله التي يتخبط فيها، فكان أن تمّ الوصول إلى التحدث عن التحولات السياسية وتجاذباتها من قبيل دراسة جلّ القيم المدنية كالمواطنة والمساواة وحقوق الإنسان والتكافل والتضامن.

قضية الإرهاب السياسي

يستطيع المتتبع للسينما المغربية، أن يحصد عددا كبيرا من عناوين الأفلام التي تناولت مسألة الاعتقال السياسي، وظاهرة التعذيب والقمع داخل السجون المغربية، وربما في ذلك نستطيع الخروج بنتيجة مفادها أن هذا الفن ساهم بشكل كبير في نقد الواقع السياسي، وإدانته في سبيل تعرية الحقائق، ومحاولة تثوير عموم الشعب على الأجهزة القمعية من أجل الحرية والكرامة والمواطنة. ومن بين هذه الأفلام نذكر على سبيل المثال فيلم "علي، ربيعة والآخرون" للمخرج أحمد بولان، و"ضفائر" لصاحبه الجيلاني فرحاني، و "وجها لوجه" للمخرج عبد القادر لقطع، والفيلم الوثائقي "أشلاء" لحكيم بلعباس".واشتركت هذه الأفلام، في تنوعها من حيث طرح هذه القضية، حيث أشارت معظمها إلى أثر القمع على المساجين والملاحقين وتشرد عائلاتهم، مركزة في ذلك على الأبعاد السياسية والاجتماعية وتأثيراتها النفسية على المتعرضين لأعمال العنف والقهر.

 قضية المرأة

شهدت  صورة المرأة في السينما المغربية، حضورا مكثفا، لكنها ظلت رهينة الالتباس ، فقد عمد الكثير من المخرجين إلى استباحة جسد المرأة وموضوعها في اليومي، دون الإشارة إلى قضاياها الحقيقية بجدية، فكان أن تمّ التركيز على الجانب الجنسي دون مراعاة أو البحث في أسبابه ودوافعه ومبرراته الاجتماعية والاقتصادية. إن تناول قضية المرأة كما أشار إلى ذلك الناقد السينمائي المغربي، محمد أشويكة، يجب أن يكون جادا، فهي فاعل حقيقي ومكون له دوره في التأسيس للروابط الاجتماعية داخل المجتمع المغربي، وبالتالي لا بد من تخليصها من الهيمنة الذكورية ومن دورها التقليدي، عبر التركيز والتأثير على المتلقي كي يتجاوز العقلية الراهنة والمتسمة بأحقية الرجل على الأنثى.هذا الأمر لا يتحمل مسؤوليته المخرجون وحدهم، فهناك العديد من المخرجات قد ساهمن بشكل أو بآخر في تكريس هذه العقلية، والصورة النمطية للمرأة وان حاولن الخروج عن المألوف بعض الشيء، عبر رسمها في شكل شيطان يهوى فعل الشر كردّة فعل بافلوفية على سيطرة الرجل، وليس ذلك بحل، لأنه ليس بديلا عقلانيا من خلاله يتم التأسيس للتجاوز والتخطّي.

مستقبل السينما المغربية

لا يمكننا إطلاقا التنبؤ بمصير السينما المغربية في المستقبل، وحدودها الجمالية وإمكانياتها من حيث الكمّ والنوع، ولكننا نستطيع القول أنه برغم العديد من الصعوبات والهنّات التي تشهدها اليوم، إلا أنها تشهد نوعا من التطوّر، لأنها تتحرك في نظام موازي يصحبها بالدراسة والنقد، وهو ما يمكنها من تصحيح أخطائها وتجاوزها في كل مرة.فهي تحظى باهتمامات كبيرة ضمن بقية سينما العالم، ويشهد لها العديد من النقاد بأنها الأولى إفريقيا وعربيا، وقد سبق لجريدة الأهرام المصرية أن صرحت بالقول بأن السينما المغربية قد تجاوزت المصرية وسحبت من تحتها البساط، مستشهدة في ذلك بالإشارة إلى المهرجانات التي تقام في المغرب كمهرجان تطوان ومراكش والرباط وأغادير، حيث أنه هناك أكثر من 25 مهرجان يقام هناك، وتصحبهم في ذلك ورشات نقدية وندوات أكاديمية وتعليمية وتكوينية، كما تشتمل على مراكز للدراسات والبحث حول سبل التمويل والتوزيع.لقد أصبحت المغرب وجهة للعديد من الطلاب والباحثين في شأن فن السينما، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على نجاحها المستمر والمتزايد، وهو ما سيمكنها من نقد تجاربها باستمرار، فهي الآن تغرق في المحلّية، كي تؤسس خصوصيتها من أجل فتح الطريق أمام العالمية، حيث أنها ركزت على تاريخ المغرب الحافل بالأحداث والمجاعات والبطولات والأساطير والعادات والتقاليد. كما أنها أولت المسألة النقدية حقها حتى تتمكن من تجاوز جلّ ثغراتها.