مع تشكيل حكومة مهدي جمعة الجديدة في تونس والتي كانت أبرز الثمرات التي قطفها السّاسة التّونسيون من مداولات الحوار الوطني الذي رعاه الرباعي المُشكّل من منظمات المجتمع المدني على رأسه الإتحاد العام التّونسي للشّغل ,بدأ الحديث عن الإستعداد للانتخابات القادمة خاصة بعد التّوافق على تركيبة الهيئة العليا المُستقلّة للإنتخابات التي ستُشرف على تحضير و مراقبة و فرز النتائج  و لم يبقى غير تحديد الموعد و التواريخ النهائيّة ,و قد بدأ الحديث عن تحالفات و جبهات إنتخابية و قوائم  موحّدة فالإتّحاد من أجل تونس قرّر يوم 6 فبراير 2014 الدّخول للإنتخابات التشريعيّة و الرئاسية القادة بقائمة موحّدة إثر إجتماع له في مقرّ حزب نداء تونس كما صرّح بذلك جنيدي عبد الجواد عضو الأمانة العامة لحزب المسار في إذاعة خاصة ,و الإتحاد من أجل تونس هو تحالف متكوّن من أربعة أحزاب سياسية و هي :حركة نداء تونس ,المسار الدّيمقراطي الإجتماعي ,الحزب الإشتراكي ,حزب العل الوطني الدّيمقراطي بعد إنسحاب الحزب الجمهوري منذ مدّة .
كما أنّ الجبهة الشّعبيّة و هي تكتّل لأكثر من عشرة أحزاب يساريّة و قوميّة أعلنت منذ تأسيسها في أكتوبر 2012 أنّها ستكون جبهة إنتخابيّة موحّدة و ستكون بمثابة "الخط الثالث" في السّاحة السياسية لكسر حدّة الإستقطاب بين الإسلاميين و حلفائهم من جهة و باقي الأحزاب الليبرالية على السّاحة و على رأسها نداء تونس الذي جمعها معه تحالف وصف بالمؤقّت في إطار جبهة الإنقاذ الوطني إبّان حكم التّرويكا التي تتزعمها حركة النّهضة الإسلاميّة .
و تضع إستطلاعات الرأي الأخيرة كلاَّ من حزب النّهضة و حركة نداء تونس ثمّ الجبهة الشّعبيّة كأبرز ثلاثة أحزاب في الساحة غير أن الفارق في نوايا التّصويت يبدو كبيرًا نسبيًا بين الجبهة من جهة و جزبي النّداء و النّهضة ن جهة أخرى المتقاربين كثيرًا حسب معظم الإستطلاعات ,ما يجعل الكثير من المراقبين يتحدّثون على إمكانية تحالف بين هاذين الحزبين إمّا قبل أو بعد الإنتخابات القادمة ,غير أنّ فرضيات التحالف الإنتخابي أي على اساس قوائم مُشتركة أو جبهة انتخابيّة واحدة يبدو أمرًا صعبًا جدًّا لعدّ عوامل منها أنّ نداء تونس قد حسم مسألة التحالف الإنتخابي لفائدة "الإتحاد من أجل تونس" كما ذكرنا ,وثانيًا بسبب الرّفض الذي يجده هذه التّحالف الإنتخابي  لدى قطاع كبير و واسع من قواعد و أنصار الحزبين و حتي من قبل بعض القيادات ,فرياض الشعيبي مثلاً أحد قيادات الصف الثاني في حركة النّهضة إستقال مؤخّرًا لأسباب ذكر منها ما سمّاه "تقارب الحركة مع بعض بقايا النّظام السّابق" في إشارة الى حركة نداء تونس و اللقاءات التي جمعت راشد الغنّوشي و الباجي قايد و أشهرها لقاء باريس الذي جاء في فترة توتّر حاد في الشّارع على إثر إغتيال النّائب في المجلس الوطني التّأسيسي محمّد البراهمي ,اللّقاء الذي أشّر حينها الى قُرب إنفراج الأزمة السياسية في البلاد ,بل يذهب البعض إلى حدّ القول بأن نتائج الحوار الوطني نفسه و النجاح الذي حقّقه لم تكن سوى نتيجة عوامل كثيرة منها تلك اللقاءات التي جمعت الطّرفين وجها لوجه لأوّل مرّة بعد أن كانت بعض القيادات النّهضاويّة ترفض حتّى مجرّد الحضور في برامج تلفزيّة يكون طرفًا فيها أحد الوجوه من حزب نداء تونس معتبرين ذلك "تطبيعًا مع بقايا النّظام السّابق" ,فهذه الإستقالة و الكثير من التّصريحات الرّافضة لهذا التّقارب و الرّفض القَاعدي له يجعل من إمكانيّة التّحالف بين الحزبين أمرًا مستبعدًا جدًّا قبل الإنتخابات .
غير أنّ إمكانيات التّحالف بعد الإنتخابات تبقى قائمة بقوةّ إذا ما قدّرت الصّناديق فوز النّهضة و النّداء بالمراتب الأولى و هو أمرٌ يعتبره الكثيرون من التّحصيل الحاصل بحكم القاعدة الشّعبية التي يمتلكها الحزبان و الدّعم الخارجي الذي يحضيان به ,فمؤشّرات هذه التّحالف تبدو واضحة من خلال تصريحات القيادات من الجانبين فراشد الغنّوشي نفسه صرّح مؤخّرًا بأنّ قاعدة تحالفات النّهضة قد تتوسّع في المستقبل و قد تشمل حتّى حزب حركة نداء تونس ,و هو مؤشّر يعتبر مهمًا جدًّا في تطوّر العلاقة بين الحزبين التي كانت حتّى وقت قريب تتّسم بعدائية كبيرة تُصاغ في شكل تصريحات حادة و ملاسنات إعلاميّة و تبادل للتّهم ,كما أنّ لطفي زيتون المحسوب في نظر المراقبين على جناح "الصّقور" داخل حركة النّهضة و من قيادات الصفّ الأوّل فيها و أحد الذين يصوغون استراتيجياتها السياسية و أحد أبرز المقربين  من رئيسها راشد الغنّوشي صرّح مؤخّرًا و في مرّات عديدة بأنّه لا يُمانع بالتحالف مع نداء تونس ,كما خفّت كثيرًا حدّة خطابه إتجاه هذه الحركة و مواقفها السّياسيّة ,كما أنّ عامر العريّض رئيس المكتب السياسي لحركة النّهضة  صرّح يوم  6 فبراير 2014 لجريدة الشّروق اليوميّة التّونسيّة و في إجابة عن سُؤال حول العلاقة بنداء تونس أجاب :" حزب نداء تونس حزب معترف به وقد حصلت لنا لقاءات معه ولكن مازالت بعض المواقف في نداء تونس غير واضحة اذ هناك تصريحات ايجابية ونتفاعل معها بشكل ايجابي ولكن هناك ايضا بعض التصريحات متوترة ومؤدلجة وهذا ربما يؤثر احيانا ويعود الى ان حزب نداء تونس لم يعقد بعد مؤتمره ولم تتضح بعد رؤيته وقادته السياسيون ولكن العلاقة موجودة ودعم هذه العلاقة من اطراف دولية ايضا موجود باعتبار ان استطلاعات الراي تعطي المرتبتين الاولى والثانية للنهضة والنداء" .
ثمّ و في إجابةٍ عن سؤال حول إمكانيّة التحالف مع هذا حزب نداء تونس كانت إجابة العريّض غائمة بشكل يُبقي الباب مفتوحًا على كلِّ الإحتمالات حيث قال :" نحن ما زلنا في مرحلة اولى خرجنا اثرها من المصادقة على الدستور والحوار الوطني ومازلنا نستقبل مرحلة عنوانها استعداد البلاد الى الانتخابات وبالتالي امامنا خيارات كثيرة وهي في طور التبلور".
من جهتها لم تنفي حركة نداء تونس و قياداتها هذا التّقارب و لم توصد الباب في وجه أي إمكانية لتحالف مُستقبلي مع حركة النّهضة فالباجي قايد السّبسي رئيس الحزب أكّد في مرّات كثيرة أنّ علاقة الحزبين أصبحت جيّدة خاصة بعد لقاء باريس مع راشد الغنّوشي الذي أعقبه لقاء آخر في الجزائر برعاية الرّئيس عبد العزيز بو تفليقة .
كما أنّ الأسباب و الظّروف الموضوعيّة  لتحالف النّهضة ونداء تونس بعد الإنتخابات و التقارب على الأقل قبل العمليّة الإنتخابيّة ,تبدو قائمة بشكل يُسهّل تسريع عمليّة إعادة صياغة مشهد سياسي جديد في تونس أبرز معالمه هذا التقارب بين الحزبين و حدّة نبرة المواجهة بين الطّرفين في مرحلة أولى على الأقل و أبرزها التقاطع على مُستوى المنهج اللإقنصادي الذي يتركز عليه كلا الحزبين من خلال تبنّيهما لخيار إقتصاد السّوق و هو أمرٌ مهم جدًّا في مسأل العلاقة الخارجيّة خاصة مع الدّول الغربيّة التي يبدو أنّها تضغط و داخل هذا الإطار من أجل تسهيل عمليّة التقارب بين الحزبين و دعمها كما أكّد ذلك عامر العريّض في تصريحه المذكور حين أشار بالقول:"العلاقة موجودة ودعم هذه العلاقة من اطراف دولية ايضا موجود" و هو ما يصبّ في خانة ما ذكرته صحيفة "البيان الإمارتيّة" مؤخّرًا في عددها الصّادر في 3 فبراير 2014 نقلاً عن مصادر ديبلوماسيّة وصفتها بالموثوقة :" أن الولايات المتحدة الأميركية تدعم وبقوة فكرة التحالف السياسي بين حركتي «نداء تونس» الليبرالية و«النهضة» ذات المرجعية الإسلامية خلال مرحلة الاستقرار السياسي. وأوضحت المصادر أن نائب وزير الخارجية الأميركي، وليام بيرنز، أكد خلال زيارته لتونس على ضرورة التوافق بين القوى العلمانية والإسلامية لضمان نجاح التجربة الديمقراطية، وأضافت أن الإدارة الأميركية تثق في إمكانية التحالف السياسي بين حركة النهضة وحركة نداء تونس التي تعتمد على فكرة استمرارية الدولة والنموذج المجتمعي والتوجه السياسي والخارجي المعتمد فيها سابقاً" .

خلفية تاريخية

كما أنّ نظرة قصيرة في تاريخ تونس الحديث ستؤكّد أنّ التحالف بين الحركة الإسلاميّة و الحركة الدّستوريّة –نسبة للحزب الدّستوري الذي قاد البلاد من الإستقلال إلى الثّورة- ليست أمرًا مُستحيلاً إذا تقاطعت المصالح و الأجندات السياسيّة , فحزب نداء تونس لا يُخفي أبدًا مرجعيّته الدّستوريّة رغم وجود عناصر نقابيّة و يساريّة كثيرة في مكتبه التّنفيذي و هي عناصر بدأ الكثير منها يتململ من محاولة الدّساترة/التّجمّعيين السيطرة على مفاصل القرار داخل الحزب الذي يؤكّد في كل مرّة على مرجعيّته البورقيبيّة/الدّوستوريّة ,ففي سبعينيات القرن الماضي و بداية الثمانينات و خاصة في عهد رئيس الوزراء محمّد مزالي كانت العلاقة بين الدّستوريين و الإسلاميين تتّسم بالكثير من الوديّة التي يحكمها تبادل المنافع المتمثّل في الإعتراف و حريّة النّشاط السياسي و الدّعوي بالنّسبة للحركة الإسلاميّة و صدّ المد اليساري و القومي الذي إستشرى في ساحة الجامعة التّونسيّة بالنّسبة للحكومة ,فحركة الإتّجاه  الإسلامي حينها (حركة النّهضة الآن) كانت تُصدر مجلتها الشّهريّة"المعرفة"  لصاحبها "عبد القادر سلامة" في مطابع الحزب الإشتراكي الدّستوري الحاكم آنذاك ,كما سمحت الدّولة في العام 1985 بتأسيس الجناح الطلابي للحركة الإسلاميّة في الجامعة "الإتحاد العام التّونسي للطلبة" المتكوّن من إسلاميين و مستقلين و في ذهنها مواجهة المد الماركسي و القومي الذي طغى في الجامعة التّونسيّة وقتها خاصة مع إنفراط عقد التّحالف في 5 فيفيري 1972 الذي كان يبني جسم "الإتحاد العام لطلبة تونس" المنظمة النقابية الطلابيّة الأعرق في البلاد بين الطلبة الدّستوريين و بقية الطلبة القوميين و اليساريين حين حاولت الدّولة فرض قيادة دستوريّة على الإتحاد في ذلك المؤتمر الثامن عشر الذي عقد بنفس التاريخ الشيء الذي رفضته الفصائل اليسارية و القوميّة ما أدى الى عدم الإعتراف بنتائج ذلك المؤتمر الذي لم تنجح القوى اليساريّة من عقده إلا العام 1988 حيث كانت الدّولة تحاول طيلة 16 سنة و بكل الوسائل تعطيل إنعقاده ,كما يضع المؤرّخون وقوف الحركة الإسلاميّة في صف الحكومة في إضراب جانفي 1978 داخل نفس هذا الإطار من التحالف ,غير أن العلاقة بين الدّستوريين و الحركة الإسلاميّة التي كانت محكومة بمنطق النّفعيّة المتبادلة كانت تشهد فترات شدّ و جذب لتصل في النّهاية الى حالة القطيعة التامة و المواجهة عندما تحسّس بورقيبة خطر الحركة الإسلاميّة الناشئة و إتّساع قاعدتها الشّعبيّة و فهم أنّه لا يُمكنه القضاء على اليساريين بواسطة الإسلاميين لأّنّ كلاهما في النّهاية يُهدّد حكمه المتداعي بطبيعته ,قبل أن يزيحه بن علي عن كرسي السّلطة لتعود العلاقة من جديد الى الوديّة مع وعود الانفتاح الدّيمقراطي الذي أطلقها بن علي و لتمضي حركة النّهضة حينها على وثيقة "الميثاق الوطني" التي تؤطّر العمليّة السياسيّة في البلاد ظنًّا منها أن ذلك سيكون بداية حياةٍ ديمقراطيّة في تونس ستسهّل لها عمليّة الوصول للسّلطة خاصة أنّها كانت تتمتّع بقاعدة شعبيّة كبيرة كانت تسمح لها بالفوز في أي إنتخابات بصورة كاسحة ,و في ذلك الإطار كانت التّصريحات المادحة لبن علي من قبل قيادات الحركة قبل أن يلتف عن وعوده التي أطلقها في بيان 7 نوفمبر 1987 و يؤسّس لحكم ديكتاتوري وفيّ لعقيدة الحزب الواحد التي أنشأها الحزب الدّستوري و واصلها وريثه التّجمّع الشيء الذي كلّف الحركة سنوات من السّجون و المنافي و التهجير و الملاحقات الأمنيّة.
و هذه النّبذة التّاريخيذة ليست سوى تأكيد على أنّ إمكانيّة التحالف تجد لها جذورًا تاريخيّة يجب أن تتجاوز أخطاء الماضي و منطق الإقصاء و الإستبداد الذي لن تكون نتائجه إلاّ سنوات أخرى من المواجهة و العنف و القمع .
كما أنّ شواهد التّاريخ تؤشّر إلى حقيقة يُدركها الجميع في تونس و تجعل من مسألة التحالف في الحكم أمرًا لا بديل عنه و هي أنّ تونس لا يُمكن أن تُحكم من طرف واحد فضرورة التّحالف بين جميع الأطراف هو السّبيل الوحيد لدرء خيارات المواجهة و تعطيل المسار الإقتصادي و التنموي و السّلم الإجتماعي في البلاد ,فالإستئثار بالسّلطة لن يكون في النّهاية غير طريق مُباشر و قصير نحو الإستبداد السياسي و القمع و هي تجربة تعرفها تونس جيّدًا و لا تُريد خوضها من الجديد ,وهذا المُعطى يبدو أن كلا الطّرفين في النّهضة أو نداء تونس يدركه جيّدًا فتصريحات قيادات الحزبين تؤكّد في كلّ مرّة على هذا المعنى  ليقينها -الذي ترسَّخ بفعل التّجربة التاريخيّة كما ذكرنا-  أنّ أي طرف مهما كان لن يستطيع حكم البلاد إلاّ في إطار توافق تام مع بقيّة الأطراف السياسيّة ,و هو السبيل الوحيد الذي سيجنّب البلاد كلّ خيارات العنف و الإحتكام الى الشّارع و التجاذب الفكري و السياسي الذي لن يتوانى عن توظيف مؤسّسات الدّولة في صراع قد يدخل بالبلاد في نفق مظلم يعود بها عُقودًا إلى الوراء .