في الوقت الذي تتصاعد فيه التحركات الاقليمية والدولية لدفع الحل السياسي في ليبيا،تسعى تركيا جاهدة لإعادة التموضع في الساحة الليبية، بما يضمن استمرار نفوذها في البلاد وخاصة بعد أن وضعت كل ثقلها وراء حكومة الوفاق التي باتت تمثل البوابة الرئيسية لأنقرة للتوغل في الداخل الليبي على جميع الأصعدة وخاصة الاقتصادية بهدف الحفاظ على مصالحها في السوق الليبية والمشاركة في رسم مستقبل المنطقة بصفة عامة.

إلى ذلك،بحث وزير الداخلية بحكومة الوفاق الوطني الليبية، فتحي باشاغا، مع السفير التركي لدى طرابلس سرهاد اكسن، إمكانية عودة الشركات التركية للعمل في ليبيا من جديد.جاء ذلك خلال لقاء جمعهما الأربعاء، في العاصمة طرابلس، حسب بيان نشرته وزارة الداخلية الليبية عبر صفحتها على "فيسبوك".وحسب البيان، بحث الطرفان "قضايا التعاون المشترك في التدريب والاقتصاد، وعودة الشركات التركية إلى العمل في ليبيا".

ويأتي هذا اللقاء بعد أيام قليلة من لقاء آخر جمع السفير التركي في ليبيا مع عضو المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق محمد عماري زايد،الذي أكد حينها على ضرورة العمل لاستكمال المشاريع المتوقفة في مجال المواصلات والكهرباء بعودة الشركات التركية وتسريع عمل لجنة مراجعة العقود المتعثرة مع الشركات التركية.

يشار إلى أن القطاعات الاقتصادية في ليبيا،تضررت خلال السنوات الماضية نتيجة تردي الأوضاع الأمنية في ظل الصراعات والحروب التي أحدثها الأنتشار الكبير للميليشيات والسلاح، وأدت إلى خروج غالبية الاستثمارات الأجنبية في البلاد فضلا عن تضرر استثمارات الشركات الأجنبية بما فيها التركية.

وتشير هذه التحركات الى رغبة تركية في الاستحواذ على أكبر مقدار ممكن من مشاريع إعادة الإعمار في ليبيا، بما ينعكس بالإيجاب على الاقتصاد التركي الذي يُعاني منذ محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تموز (يوليو) 2016، وذلك من خلال الدفع بشركات المقاولات التركية للعمل في ليبيا، فضلاً عن تعويض الخسائر الاقتصادية التي تعرّضت لها تركيا في ليبيا بعد العام 2011،سواء لتدهور الأوضاع الأمنية أو لقرار حكومة الشرق الليبي بإيقاف التعامل مع الشركات التركية بسبب دعم تركيا للإسلاميين في الغرب.

ورغم أن التحرك التركي باتجاه تعزيز الاستثمارات في ليبيا أمر طبيعي في ظل سباق نحو السوق الليبية للظفر بحصص من مشاريع الطاقة والكهرباء والبنية التحتية، إلا أن الدور التركي في دعم جماعات اسلامية ليبية يثير الريبة من أي تحرك استثماري ويوحي بمحاولة تعزيز أنقرة أقدامها في الساحة الليبية المضطربة.

وتأتي هذه المحاولات التركية لتدعيم استثماراتها في ليبيا،في وقت تواصل فيه الظهور في ساحة القتال بين الفرقاء الليبيين.فمجددا أعلنت غرفة عمليات الكرامة التابعة للجيش الليبي  إنه تم اليوم الاربعاء استهداف  وضرب غرفة عمليات تركية بالقرب من ابوقرين ،كما استطاعت المضادات الارضية في محاور طرابلس اسقاط طائرة تركية كانت تستهدف قوات الجيش.

وكان المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قال، الأحد الماضي "إن معركة طرابلس ستشهد خلال الأيام القليلة المقبلة ارتفاعاً في وتيرة الاشتباكات، وستدخل مرحلة حاسمة جداً".وأوضح المسماري، في مؤتمر صحفي من بنغازي، أن تركيا لا تزال تواصل دعم المليشيات الإرهابية، خاصة الطائرات المسيرة، مشيراً إلى خطين جوي وبحري مفتوحين بين أنقرة ومصراتة.

وخلال أغسطس الماضي، دمر الجيش الوطني طائرة شحن تركية كانت محملة بأسلحة وذخائر في مطار مصراتة. كما استهدف مطار زوارة الدولي الذي يستخدم لإقلاع الطائرات المسيرة التركية.وفي سبتمبر الجاري، أسقط الجيش الوطني ثلاث طائرات مسيرة تركية في مصراتة، وطائرتين أخرتين فوق قاعدة الجفرة الجوية، كما دمر ثكنات أقلعت منها الطائرات التركية المسيرة، في الكلية الجوية في مصراتة.

ومثلت الأراضي الليبية مسرحا لتجريب تركيا لطائراتها المسيرة على غرار طائرات مقاتلة جديدة من نوع "بيرقدار تي بي 2"،التي كشف موقع أفريكا أنتلجنس -الوكالة المتخصصة في الأخبار السرية – مطلع يوليو الماضي،عن أن تركيا تستعد لمنح حكومة السراج ثماني منها،رغم استمرار الحظر على توريد السلاح إلى ليبيا الذي فرضه مجلس الأمن منذ 2011.

لكن الأخطر من ذلك جاء مع تأكيد الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، لأول مرة منذ بدء الحرب في طرابلس،أنه رصد قوات تركية خاصة تقاتل الى جانب ميليشيات  طرابلس.حيث كشف مدير إدارة التوجيه المعنوي في الجيش الوطني الليبي العميد خالد المحجوب،في تصريح لسكاي نيوز عربية،الأحد،عن وجود قوات تركية خاصة تقاتل إلى جانب الميليشيات المتطرفة في العاصمة طرابلس.

ولطالما أعلن قادة الجيش الوطني الليبي عن الدعم التركي لميليشيات طرابلس، لكن تصريح المحجوب بوجود قوات على الأرض يعد الأول من نوعه.ويعزو متابعون للشأن الليبي هذا التطور الجديد الى الخسائر المتتالية للمليشيات وتراجعها الميداني الكبير وهو ما دفع أردوغان للدفع بقواته بشكل مباشر أملا في انقاذ المليشيات الموالية له في العاصمة الليبية التي تمثل آخر معاقل "الاخوان" ومليشياتهم.

وبعد أن كانت تدخلات تركيا لدعم المتطرفين في ليبيا سرية،باتت في الأشهر الأخيرة علنية وأكثر فظاظة،حيث انتقل أردوغان من التسليح السرّي للميليشيات المتطرفة إلى التسليح العلني منتهكا القرار الدولي بحظر السلاح على ليبيا بإرساله طائرات مسيرة وشحنات ذخيرة على أمل تغيير موازين القوى لصالح حكومة الوفاق.

وتفاخرت حكومة السراج بالدعم الذي تلقته من أنقرة، حيث نشرت صوراً للمركبات المدرعة التركية الصنع، بعد عدة أسابيع من الإفصاح عن قيام الجانب التركي بتسليح قواتها.ورداً على أسئلة حول شحنات الأسلحة المعلن عنها، صرح أردوغان للصحافيين في 20 يونيو/حزيران قائلا: "إننا نقدم بعض الدعم بما يتوافق مع طلباتهم".

ويعد النظام التركي من أكبر الداعمين لتيار الاسلام السياسي وعلى رأسه "الاخوان"، إذ قدم لهم الدعم غير المحدود لبسط سيطرتهم على عدد من المناطق في ليبيا.وعلاوة على ذلك فقد أعتبرت تركيا بمثابة ملجأ لجهاديي ليبيا الذين إرتبطوا معها بعلاقات كبيرة،وخاصة  قيادات الجماعة الليبية المقاتلة، كعبد الحكيم بلحاج وخالد الشريف، اللذين يملكان استثمارات مالية وعقارية كبيرة في تركيا، تقول تقارير ورسائل سربها موقع ويكيليكس إنهما قد نهباها من أموال مؤسسات الدولة الليبية في أعقاب سيطرتهما على العاصمة طرابلس.

يشار إلى أن تركيا سعت إلى توثيق علاقاتها بليبيا منذ الأزمة التي شهدتها البلاد فى العام 2011،فكانت أولى الدول التي عينت سفيرا لها لدى السلطات الجديدة في طرابلس في سبتمبر/أيلول من العام نفسه.ومع تردى الأوضاع الأمنية نتيجة إحتدام القتال، أغلقت تركيا سفارتها في طرابلس وقنصليتها في بنغازي عام 2014،فيما بقيت قنصليتها في مصراتة (200 كلم شرق طرابلس) مفتوحة.

وفى أواخر يناير 2017،أعادت تركيا فتح سفارتها في العاصمة الليبية، بعدما أغلقتها لأكثر من ثلاثة أعوام إثر تردي الوضع الأمني في البلاد.وإعتبرت وزارة الخارجية التركية  أن "إعادة فتح السفارة سيسمح لتركيا بالإسهام بشكل أقوى في جهود بناء السلام والاستقرار" في ليبيا.

وتكشف التحركات الأخيرة للسفير التركي والحديث عن عودة الشركات التركية الى ليبيا،الهدف الحقيقي وراء دعم أنقرة لحكومة فايز السراج، التي تتخذ من طرابلس مقراً لها،حيث تمثل الأطماع احدى أهم الدوافع.وهو ما أكده تقرير لموقع "بلومبيرغ"،في يوليو الماضي،حين نقل عن مسؤولين تركيين أن دعم تركيا للحكومة الليبية، المدعومة دولياً،يهدف لإنقاذ مليارات الدولارات من العقود التجارية التي تتعرض للخطر بسبب النزاع، ولتأمين المزيد من النفوذ في التدافع على النفط والغاز في البحر المتوسط.

وقال المسؤولان ان تركيا تهدف بشكل رئيسي من دعم حكومة فايز السراج، التي تتخذ من طرابلس مقراً لها، إلى ضمان قدرتها في نهاية المطاف على استئناف مشروعات البناء، التي تبلغ قيمتها حوالي 18 مليار دولار.وأضاف المسؤولان التركيان أن استعادة الهدوء والحفاظ على بقاء حكومة السراج ستجعل من السهل أيضًا ترسيم الحدود البحرية، ومساعدة تركيا على توسيع مناطقها الاقتصادية الخالصة، وتقوية يدها في المنافسة من أجل السيطرة على موارد الطاقة، وطرق الإمداد في شرق البحر الأبيض المتوسط.

ويرى مراقبون،أن تحركات تركيا في ليبيا، ومحاولات توسيع منافذها الاقتصادية في طرابلس، تستهدف بالأساس تنشيط دورها في ليبيا،والانخراط في التحركات الإقليمية والدولية المكثفة في ليبيا، بما يحول دون تجاهلها أو استبعادها من المشاركة في رسم مستقبل ليبيا، أو تبني حلول لا تتفق بالضرورة مع المصالح التركية هناك، كتقليص نفوذ حلفائها من الإسلاميين في الحكم، وذلك بما يضمن في النهاية نفوذ أنقرة ومصالحها في ليبيا، والمشاركة في رسم مستقبل المنطقة بصفة عامة.