غير بعيد عن الحدود التونسية الليبية شرق مدينة بنقردان تنتصب جبال التوي، وهي محمية وطنية تحت رعاية السلط الرسمية في البلاد. على قمم تلك الجبال يرقد أربعة عشر وليّا صالحا، ممن تكثر حولهم الروايات التي يختلط في الواقعي بالأسطوري. أربعة عشر وليا تخصص لهم زيارة سنويّة يأتيها المئات وربما الآلاف من تونس وليبيا والجزائر، في حالة أشبه بالتعلق الروحي أو الوجداني بذلك المكان بكل ما يعنيه لزائريه من بركة وهويّة.
تلك المقامات تقول الروايات الشعبية إنها لأشخاص ذوي بركة توفوا في ذلك المكان. تقام لهم الذبائح و"الحضاري" التي تلقى فيها الأناشيد المغناة بهم وبكراماتهم. ربما لا يعرف الكثير من زائري تلك المقامات المعاني الفلسفية للتصوّف لكنهم مارسوه بمعرفتهم، ويكفي للمستمع أن يركّز في كلمات الأناشيد ليعرف أن هؤلاء بالفعل متصوّفة بطريقتهم الخاصة. هو تصوّف شعبي يظهر التعلّق الكبير بأولئك الأولياء إلى درجة تقرب الاعتقاد في قدراتهم الخارقة، فتجدهم يعددون لك الكثير من المناقب والكرامات التي قد يصدّق بعضها ولكن الكثير من الروايات تحتاج إلى التدقيق لدرجة المبالغة التي فيها.
وغير بعيد عن مدينة بنقردان يوجد ضريح لولي آخر في منطقة تطاوين. ينتصب المقام في قلب المدينة لم تغيّر من قيمته تحولات العصر. بقي إلى اليوم مزارا لمئات العائلات التي تأتيه أسبوعيا لقراءة القرآن والدعاء، وربما الكثيرون في قلوبهم يطلبون "سرّه". ففي ذهنهم لصاحب المقام بركة تجعله أقرب إلى الواسطة بين الله والبشر. يقول البعض إن الزائرين يأتون حتى من العاصمة منذ عشرات السنين، من أولئك الذين تعود أصولهم إليه، زياراتهم فيها الكثير من الوفاء، هو ليس وليّا صالحا فحسب، بل هو رابطة روحيّة بالمكان وعدم نسيان للمكان الذين غادروه.
في العاصمة أيضا تنتشر هذه الأضرحة، من مقامات سيدي بلحسن الشاذلي النتصب في المدخل الجنوبي، إلى مقام سيدي محرز الموجود في قلب المدينة إلى غيرهما ممن تُروى عنهم القصص وممن تجتمع عندهم العائلات تبركا ودعاء. الفرق أن أولياء العاصمة عادة ما توجد حولهم المعلومات والوثائق على عكس مقامات المدن الداخلية التي تعتمد الروايات حولها عن الجانب الشفوي ومن النادر توفر وثائق دقيقة وثابته.
ليست هذه المناطق فقط تحتوي على أشكال التصوّف الشعبي، فأغلب المدن التونسية من قفصة إلى سيدي بوزيد إلى الساحل والشمال الغربي، تنتشر المقامات التي يطلقون على المدفون فيها اسم "سيدي" إذا كان رجلا و"أمي" أو "أمّيمتي" إذا كانت امرأة. هناك اعتقاد سائد لدى قطاع كبير من التونسيين أن الأولياء الصالحين يحرسون البلاد من كل شر. هذا الاعتقاد لا يحمله البسطاء بل قد يوجد حتى عند بعض المثقفين، ففي حوار تلفزي لقائد الجيش التونسي السابق والمتقاعد حاليا أشار إلى أن تونس يحرسها الأولياء الصالحون، هو تصريح خلّف ردود فعل متباينة، لكنه في الأخير يحمل دلالة عن تأثير التصوّف الشعبي في النّاس.
والزائر للمقامات التونسية المنتشرة حتى في قلب العاصمة، سيكتشف عادة "الحضرة"، وهي عبارة عن ضرب "البندير" وإلقاء الذكر المعدد لصفات الولي، وفي الكثير من المرات يكون المشهد أشبه بالتخميرة من الحاضرين، وهي حالة هستيريا يحس من خلالها الزائر بنشوة وبحالة انصهار مع ذلك الولي إلى درجة يخيّل له أنه يشفيه من الأمراض أو أنه قادر على مساعدته في المشاكل التي يعانيها.
التصوّف الشعبي ظاهرة منتشرة بشكل لافت في تونس، لكن هناك فرقا بين مكان وآخر. ففي المدن الكبرى أو التقليدية هناك نوع من الفهم لمعاني التصّوف وللطرقية فيها، على عكس بعض المدن الداخلية التي لا يوجد فيها تمييز واضح أو إدراك للممارسة التي يقوم بها الأفراد وعلى ذلك لا توجد وثائق دقيقة حولها تاريخيا وبقيت متواترة عبر المشافهة التي في الغالب لا تصمد بمرور الزمن.