لا يتفق المؤرخون على تاريخ محدد لدخول التصوف إلى ليبيا، إلا أن الطريقة الشاذلية وُثّقت في ليبيا في القرن السابع، وتعد أول دليل على تواجد ما يعرف التصوف الطرائقي في ليبيا، وهي تعود إلى مؤسسها أبوالحسن الشاذلي، المتوفى في سنة 656 هجريا. وبعد الطريقة الشاذلية ظهرت طرق كثيرة يعد بعضها امتدادا طبيعيا لها، إذا كان مؤسسوها من مريدي الشاذلية، وتتفق جميعها في أصولها السنية.
أثرت طبيعة الحياة في ليبيا على نمط وأسلوب الطرق الصوفية، بل وحكمت بطبيعتها في انتشار التصوف الطرائقي، وتراجع التصوف الفلسفي الذي لم يتغلغل بين أوساط التجمعات البشرية ذات الطبيعة الحضرية البسيطة، المنقطعة عن مراكز الإشعاع الحضاري، علاوة على هجرة المفكرين والعلماء بحثا عن العلم في مراكز الحضارة العربية والإسلامية في الشرق والغرب، سواء كان بالاتجاه شرقا صوب مصر وبلاد الشام، أو غربا في تونس أو بلاد المغرب.
وشهدت حركة التصوف في ليبيا مراحل تألق وبروز حتى أصبغت المجتمع المحيط بطابعها، إذ كان شيوخ ومؤسسو الطرق بمثابة قادة مجتمع، ليس لمريديهم فحسب بل للجميع لاسيما بما كانوا يمثلون من وقار، وما يلفهم من هيبة، وما يعتقد البعض بأن لهم من الكرامات والقدرات الاستثنائية، خاصة في ظل المستوى التعليمي البسيط الذي ربط الكثير من القصص الخيالية والأساطير بالشيوخ، ورواد الزوايا الصوفية، التي انتشرت لتغطي معظم المراكز الحضرية في المدن والقرى والواحات، وكان بعضها يهتم بتحفيظ القرآن الكريم، إلى جانب الأذكار والإنشاد الديني، وإحياء المناسبات الدينية في الأعياد والمولد النبوي الشريف، وغيرها من المناسبات.
ويرى مؤرخون أن الفضل يعود للزوايا الصوفية وروادها في الحفاظ على الإسلام وانتشاره إلى غيرها من البلدان لاسيما دول الجوار الأفريقي، التي كان للطرق الصوفية الدور الأبرز في اعتناق أهلها للدين الاسلامي، خاصة وأن الفتوحات الاسلامية التي أرسلها الخلفاء الراشدون ومن خلفهم من أمراء المؤمنين لم تستهدف بلاد ما وراء الصحراء، إلا أن شيوخ الصوفية الذين كانوا يتنقلون ضمن قوافل التجار تمكنوا من "فتح" تلك البلاد دون الحاجة إلى الجيوش، وكان للمنهج الصوفي "المسالم" الدور الأبرز في اعتناق الدين الاسلامي، ولا تزال شواهد وآثار الزوايا الصوفية ماثلة إلى اليوم في العديد من الحواضر الأفريقية، وطقوسها تمارس إلى يومنا هذا في العديد من دول الساحل الأفريقي وجنوب الصحراء الكبرى.
وإذا كانت فكرة الصوفية في ليبيا فكرة وافدة في بدايتها إلا أنها سرعان ما انتشرت وظهرت طرق صوفية أصحابها ليبيين، وتعددت كما ونوعا وتوزعت جغرافيا وفقا لأنتشار المراكز الحضرية في البلاد، وتعد من أهمها:
الطريقة الزروقية:
وتعود تسميتها إلى الشيخ أحمد زروق البرنسي أحد فقهاء المالكية في القرن التاسع، في منطقة الزروق بمصراتة وعرفت عنها طرق الإنشاد الخاصة بها والتي عرفت بالوظيفة الزروقية، التي تعتمد على الأحاديث النبوية، وتتفرع عنها طرق أخرى بأسماء متنوعة كالراشدية والمدنية والدرقاوية، وقد لعبت هذه الزاوية دوراً كبيراً في نشر الوعي الديني، والحث على الجهاد، وتحفيظ القرآن ودرّس بها جملة من العلماء المشاهير من أمثال شمس الدين اللقاني، وكريم الدين البرموني والشيخ ارحومة الصاري.
الطريقة العروسية:
واتخذت هي الأخرى اسمها من العالم أبي العباسي أحمد بن عروس، ومن أبرز اتباع هذه الطريقة الشيخ عبدالسلام الأسمر الأدريسي أحد كبار متصوفة القرن العاشر، وله أتباع كانوا بالآلاف من بلاد المغرب ومصر وشبه الجزيرة العربية، إلا في ليبيا وتونس تعد من الطرق الشعبية التي ينخرط في صفوفها عامة الشعب.
الطريقة المدنية:
نسبة للشيخ محمد حسن ظافر المدني، المولود بالمدينة المنورة، ثم جاء إلى المغرب وقابل الشيخ العربي الدرقاوي وصار أحد أتباعه ثم عاد إلى المدينة خليفةً عنه، ثم استوطن مصراتة ودفن بها، وتنتشر زوايا الطريقة المدنية في عدة مناطق، إلا أنها لا تتعدد في المدينة الواحدة، أي لا يجوز أن تكون في المدينة الواحدة أكثر من زاوية لها.
الطريقة القادرية:
نسبة للشيخ عبد القادر الجيلاني أحد متصوفة القرن الخامس، وهو من أشهر متصوفة الإسلام على الإطلاق، وقد انتشرت الطريقة القادرية في جميع أنحاء العالم، ولعبت دوراً كبيرا في نشر الإسلام، ومحاربة الاستعمار في آسيا وأفريقيا، وتنتشر هذه الطريقة في مناطق غرب ليبيا، في طرابلس وما حولها، وإن كان مريدوها انتشروا أخيرا في مناطق الشرق الليبي.
الطريقة التيجانية:
نسبة لأبي العباس أحمد بن محمد المختار التيجاني وكانت مدينة فاس المركز الأول لهذه الطريقة ومن أشهر أتباعها عمر بن سعيد الفوتي السنغالي وعرف بنشره للإسلام في أفريقيا ومحاربة الفرنسيين ويقدر عدد أتباعها في نيجريا كما يقول علي بن محمد الدخيل بعشرة ملايين، دخلت هذه الطريقة إلى ليبيا منذ زمن قريب، وأصبحت لها زوايا في بنغازي وطرابلس ودرنة.
الطريقة العيساوية:
وترجع إلى محمد بن عيسى الفهري السفياني، وترجع بأصولها إلى الطريقة العيساوية الجزولية فهو يرويها عن الشيخ الحارثي، ولها رواجاً في ليبيا جعلها تنافس الطريقة العروسية، إلا أن بعض أتباعها عرفوا ببعض ممارساتهم الاستثنائية كالظهور بأنهم من أصحاب الخوارق، والقيام بأعمال عنيفة، الأمر الذي جعلها محل استهجان من بعض الفقهاء لمخالفتها للشرع، وينتشر اتباع هذه الطريقة في عدة مناطق من ليبيا، وتشترك مع الطريقة العروسية في بعض الأوراد ومصادر الإنشاد.
الطريقة السنوسية:
وجاء اسمها نسبة للشيخ محمد بن على السنوسي المستغانمي القادم من الجزائر أحد كبار علماء الإسلام في عصره، وإليها يعود الفضل في بث الوعي الديني في شرق ليبيا، ونشر الإسلام في أفريقيا، وقد قام أتباعها بمقارعة النصارى، ومحاربة الاستعمار، ومن أشهر قادتها السيد أحمد الشريف المجاهد المعروف الذي قاوم الغزو الإيطالي.
الطريقة الرفاعية:
وتتخذ اسمها من الشيخ أحمد الرفاعي، الذي عرف بين المؤرخين بشدة اتباعه للسنة، والتواضع لسائر المخلوقات، وانتشرت طريقته في العالم الإسلامي كافة، وتعد ليبيا من الدول التي دخلتها هذه الطريقة إلا أن دخولها إليها جاء متأخرا نسبيا إذ يقدره بعض المؤرخين بما لا يتجاوز المئتين سنة.
وبالنظر لانتشارها وغيرها في مختلف المدن والمناطق الليبية، وقيادتها للمجتمع الذي كان يمثل فيه شيوخ هذه الطرق، قيادات حقيقية للمجتمع ليس فيما يتعلق بالدين فقط بل يتجاوز ذلك لمناحي الحياة كافة، فهم من كانت تتم استشارتهم في تقرير مصير الأمة، وهم من قادوا حركات المقاومة، والجهاد، علاوة على دورهم في نشر وتيسير فهم تعاليم الإسلام الوسطي البعيد عن التشدد والغلو، وهو ما جعل المجتمعات التي تسيطر فيها الصوفية أكثر أمنا واستقرارا من تلك التي كانت تسيطر فيها التيارات الدينية المتشددة.
ويرى بعض العلماء أن المنهج الصوفي يمكن أن يعول عليه في معالجة الكثير من الظواهر التي أدت إلى استغلال الدين الإسلامي لخلق وظهور الجماعات المتطرفة التي تمارس القتل والإرهاب باسم الدين، ويقول الدكتور محمد الشحومى الإدريسى رئيس المجلس الأعلى للتصوف الإسلامى، في حوار صحفي إن الهدف من إنشاء اتحاد عالمي للتصوف بمثابة خط دفاع لمواجهة التيارات السلفية التي استطاعت خلال السنين الماضية نشر فكرها الوهابى السلفى، مما حول الكثير من شباب الأمة الإسلامية إلى متطرفين وإرهابيين، وعلى هذا يجب على هؤلاء الشباب أن يرجعوا إلى المنهج الإسلامى الوسطى، ولن يحدث ذلك إلا من خلال الصوفية، وعلى ذلك اتفقت 50 طريقة صوفية فى الاجتماع الذى عقد فى مدينة مستغانم الجزائرية على تأسيس الاتحاد العالمى للتصوف وعمل مقرات له فى 40 دولة إسلامية.