المسار الذي ذهبت فيه تونس بعد تحولات العام 2011، يعتبر مختلفا تماما عن بقية المسارات التي عرفتها المنطقة العربية التي شهدت تحولات مشابهة، لأنها لم تصل إلى مرحلة الانفلات التام في مستواها الأمني رغم بعد الحوادث الإرهابية التي استطاعت الدولة الحد من خطورتها. لكن هذه التجربة، وبعيدا عن المؤشرات الإيجابية التي تصدرها بعض المؤسسات الرقابية الدولية حول الديمقراطية، كانت محل انتقادات كبيرة في مستوى التمويلات الأجنبية التي تسببت في المس من نزاهة كل المحطات التي عرفتها البلاد في العشريّة الأخيرة.
وبالحديث عن التمويلات الأجنبية للحملات الانتخابية التي عرفتها تونس، يذهب الحديث عن الأحزاب التي صعدت إلى الحكم في 2011، و2014 و2019. والواقع أن العديد من الأطراف تلحقها اتهامات التمويل الأجنبي وهذا أكدته حتى دائرة المحاسبات وهي هيكل محلي يتابع حركة الأموال في الانتخابات، وقد أكدته بالفعل في انتخابات  2014 عندما تحصل أحد المرشحين الرئاسيين لمبلغ مليون دينار من الخارج لكن القضية بقيت في ملفات المحاكم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حزب نداء تونس الذي أكد القيادي فيه لزهر العكرمي في أكثر من تصريح إعلامي أن أموالا خارجية دخلت حسابات الحزب قبل انتخابات 2014. لكن حزب حركة النهضة باعتباره أهم الأحزاب مشاركة في الحكم منذ أول انتخابات في 2011، وإلى حدود تاريخ 25 يوليو الماضي، يبقى الأكثر شبهات في هذا الإطار، حيث تشير العديد من التقارير إلى أنه تلقى تمويلات مالية من الخارج خلال المراحل الثلاث المذكورة، رغم محاولات النفي التي تصدر عن قياداته.
ويمنع مرسوم الأحزاب في تونس في فصله التاسع عشر تلقي أموال بشكل مباشر وغير مباشر نقدي أو عيني صادر عن جهة أجنبية. وكل من يثبت تمويله، يمكن وفقا للفصل 28 من المرسوم ذاته تعليق نشاط الحزب السياسي في مرحلة أولى لمدّة لا تزيد عن 30 يوما، وفي مرحلة لاحقة يتمّ حلّ الحزب المعني بالتمويل الأجنبي بطلب من رئيس الحكومة. كما يمنع الفصل 80 من القانون الانتخابي في تونس تمويل الحملة بمصادر أجنبية بما فيها الحكومات والأفراد والذوات المعنوية، ويفقد الشخص عضويته أو موقعه بمجرّد التأكد من حصوله على أموال متأتية من الخارج.
في مقال لموقع نواة المختص في التحقيقات الاستقصائية في نوفمبر 2020، تمت الإشارة إلى أن تقرير محكمة المحاسبات حول نتائج مراقبة تمويل الحملات الانتخابية للإنتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019، كشف أنها كانت مرتعا للمال الفاسد والتمويل المشبوه وأن بعض المترشحين ارتكبوا جرائم انتخابية وجرائم تبييض أموال.
نفس الموقع نشر تحقيقا عن قيام عدد من الأحزاب بدفع أموال في الخارج لفائدة مجموعات ضغط ودعاية في الخارج وهو ما يعتبر مخالفة انتخابية. فحزب حركة النهضة الإسلامي تعاقد في 2014 مع شركة الدعاية والضغط BCW الأمريكية مدّة 4 سنوات بمبلغ قدره 285 ألف دولار أمريكي. وتمّ تجديد هذا العقد من 16 جويلية 2019 إلى 17 ديسمبر من نفس السّنة، بمبلغ قدره 187 ألف دولار أمريكي، وهو ما اعتبرته المحكمة “شبهة تمويل أجنبي” على معنى الفصل 163 من القانون الانتخابي.
 والإشكال في ما ذكر سابقا أن كل الملفات خلال تلك الفترة، كانت توضع في الزوايا ولا تؤخذ بشكل جدّي، وسط أنباء عن ضغط كبير تمارسه حركة النهضة على القضاء، من أجل عدم فتحها لأنها تكشف عديد الخفايا التي لا تريد لها الظهور حتى أمام أنصارها الذين تصور لهم أن النتائج التي تحققها هي بفضل الشعبية التي تحظى بها، وأن كل ما يتم تداوله هو من أجل تشويهها حسب زعمها.
لكن بعد الإجراءات التي أعلن عنها الرئيس التونسي قيس سعيّد في 25 يوليو الماضي، عاد الحديث عن التمويلات الأجنبية للأحزاب وتأثير ذلك على نتائجها، حيث فتح القضاء يوم 28 يوليو، تحقيقا في تهم بتلقي أموال أجنبية ضد حزبي "حركة النهضة" و"قلب تونس" بالإضافة إلى إحدى الجمعيات الأخرى. وقال المتحدث باسم المحكمة الابتدائية محسن الدالي وقتها، إن التحقيقات يمكن أن تتسبب في تحجير السفر على العديد من الشخصيات وأيضا في تجميد الأموال، بل بدأ الحديث حتى عن إسقاط القائمات التي ستثبت عليها التهمة، وهذا سيكون زلزالا سياسيا إذا حصل.
وإن لم تتخذ منذ ذلك التاريخ (28 ميوليو) أي إجراءات ملموسة حول الموضوع، إل أن الرئيس التونسي كان يلمّح في كل مرة بأن كل من ستثبت إدانته سيتحمل مسؤوليته، وإلى تقصير قضائي قد يفرض اتخاذ قرارات عبر المراسيم وفقا لما تمنحه له التدابير الاستثنائية التي يحظى عبرها بصلاحيات شبه مطلقة، وقد أشار في اجتماع له مع بعض الأساتذة في القانون الدستوري إلى "البطء الحاصل في مسار التقاضي الخاص بتقرير محكمة المحاسبات والمتعلق بنتائج مراقبة تمويل الحملات الانتخابية للانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019".
الرئيس وفي إطار انتقاده للقضاء بسبب التأخر الكبير في التعامل مع القضايا، ولتخفيف الحرج عن تواصل تعطل البرلمان، أشار إلى إمكانية اتخاذ قرارات إسقاط قائمات انتخابية، بناء على ما أصدرته محكمة المحاسبات حول انتخابات 2019، في خطوة قد تجعل المشهد أمام فرضيتين؛ الأولى هي صعود قائمات جديدة سيتغير معها البرلمان بشكل كامل على مستوى الأحزاب والكتل، والفرضية الثانية هي التمهيد لحل البرلمان بشكل نهائي وتحديد موعد جديد للانتخابات، لكن يبقى الخيار الأول هو الأقرب رغم تأخر الفترة النيابية بشكل كبير.
لا شيء ثابتا فيما ينوي الرئيس التونسي قيس سعيّد الذهاب إليه في المرحلة المقبلة. ملفات كثيرة فتحها أمامه وتنتظر الحل، لكن المؤكّد أن مسألة التمويل الأجنبي هي على رأس القضايا التي ينوي الذهاب فيها للأقصى، وهذا ما سيعرفه التونسيون الإجراء يوم 17 ديسمبر المقبل في الخطاب الذي ينوي إلقاءه بمناسبة عيد الثورة والذي ستصدر عنه قرارات وصت بالهامة.