ما إن تختفي في هذا المكان نتيجة ضغوط ما حتى تظهر وتتجلّى أشدّ فتكا في مكان آخر، هي التنظيمات السلفية الجهادية من ثمّة بدهائها التنظيمي أضحت بمثابة ورم خبيث يُكوى فيزداد قوة وينبت من جديد.

يرى الفهم الغربي والماركسي للأيديولوجيا أنّ الأفكار والقِيَم تَنبثق من النُّظم الاجتماعية – الاقتصادية، ومن خبرات الحياة، ونماذج سلوك الجماعات الاجتماعية. ويفهم الغرب أن “الأيديولوجيا هي نظام من الأفكار المتداخلة، وما هي إلا مجموعة من الأفكار والأوهام المضللة” التي ليس لها وجود حقيقي، أو أنها تمثل نوعا من الواقع الاجتماعي الذي يظهر فيه الناس وظروفهم المحيطة بهم في أوضاع معكوسة.

لقد تصاعد القلق بشأن “السلفية الجهادية”في أعقاب “الثورات العربية” وفشل الإخوان في مصر وإسقاط حكمهم في ثورة 30 يونيو 2013. وهنا نستعيد مقولة جزناثان ايفانز، مسؤول جهاز “ال أم أي “5 لمكافحة التجسس البريطاني، التي صدرت عنه سنة 2012، والتي عاكس رأيه فيها الكثير من المراقبين والمعنيين بشأن القاعدة، عندما قال :”مايحدث من تغيير في الأنظمة العربية بيئة ملائمة للقاعدة”. وهذا الفهم يعكس درجة القلق وحالة الإنذار التي تعيشها أوربا والغرب تجاه التيارات السلفية الجهادية، والتي تحولت إلى خلايا كثيرة التناسل في المنطقة وأوربا، على حد سواء.

 

 

الجهادية والحاكمية الشرعية

بات ضروريا أنّ التفريق ما بين القاعدة والسلفية الجهادية، الأخيرة هي “عقيدة” أوسع من القاعدة وأكثر من أيديولوجيا، أما القاعدة فهي عبارة عن تنظيم اتخذ من السلفية الجهادية مرجعا له من خلال الاعتماد على تعاليم عدد من الأئمة. أمّا الجهادية فهي توصيف للجماعات الأكثر تشددا داخل السلفية، وقد أُطلق عليها من خارج الجماعة.

إن السلفية الجهادية أو القاعدة لا تؤمنان بالمنهج الديمقراطي ولا بالحكومات المدنية التي تتعارض مع إرساء الدولة أو الخلافة الإسلامية الافتراضية، لكنّهما أصبحتا تباركان لها خلال الانتفاضات. وقد يكون السبب أّنها أعطت التنظيم فرصة للتمدد والتكاثر، بعيدا عن المراقبة. فبعد أن كانت الجهادية تتخذ من المناطق النائية مقرا لها أصبحت موجودة داخل المدن وتسجّل حضورها خلال التظاهرات، وترفع راياتها السوداء علنا.

هذا الرأي، وهذا النمط من التفكير الموجود داخل تنظيم القاعدة، يدفع المراقب إلى التوقف عند محطات “الانتفاضات” العربية. حيث أنّ القاعدةكانت تعتبر تواجدها، تكتيكا مرحليا، رغم تعارضه مع أيديولوجيّتها التي تقوم على الجهاد والتكفير.

ويمكن تصنيف ذلك ضمن التغيير الناعم لتنظيم القاعدة في الدول العربية وتمدده عبر الحدود. هذا النمط جعل من الأنظمة العربية التي شهدت التغيير، تعيش على سطح صفيح ساخن من الانفجارات، بعد أن تمكنت القاعدة من التمكينوأعادت تنظيم نفسها داخل حواضنها الجديدة.وما زاد من رصيد التنظيمات الجهادية والقاعدة، هو هروب جماعة الإخوان إلى الأمام والتخندق مع الجهادية، وفقا لتوصيات وتعليمات الظواهري الّتي جاءت في الرسائل العديدة التي صدرت عنه بعد سقوط الإخوان في مصر إثر ثورة 30 يونيو 2013 .

 

"الجهاد" العالمي

يبدو أنّ عولمة “الجهاد”، بدأت تضمحلّ وتتحول إلى العدو القريب ـ محليا، وهذا ما عكسته رسائل الخليفة الداعشي الجديد، التي تتناقض مع رسائل وتعاليم بن لادن الذي كان يطلب من التنظيم وفروعه تقليل العمليات التي تستهدف الأنظمة العربية وبقية الطوائف، والتوجه إلى الخصم المركزي ـ البعيد. هذا النهج يمكنأن يتمّ اعتباره تحولا في عقيدةالقاعدة وأيديولوجيتها، رغم أنّ بعض قياديي القاعدة، ومنهم أبو يحي الليبي وأيمن الظواهري، خليفة بن لادن، لا يعتبرونه خروجا عن فقه القاعدة وتعاليمها، وذلك ما كشفت عنه مراسلاتهم السرية.

الأكيد أنّ السلفية الجهادية بمشايخها تدعم القاعدة من دون أيّ شكّ لكنها لا تمثلها. فكل قاعدي هو سلفيجهادي ولكن ليس كل سلفي أو سلفي جهادي هو قاعدي. السلفية أحيانا تتحفظ على استخدام العنف وإراقة الدماء في بعض المواقع، ولها مع أبو مصعب الزرقاوي اختلافات فقهية، وكذلك مع شيخه أبو محمد المقدسي الذي كان ينتقد فيها أسلوب وسياسات التوحيد والجهاد في العراق، وسبق لها أن طلبت منه أن يتقي الله في دماء المسلمين. وهذا ما يدعم فكرة انحراف التنظيمات المحلية والإقليمية عن مركز التنظيم، انحراف تُوّج بإعلان”الدولة الإسلامية” من قبل البغدادي.

أمّا رسائل بن لادن التي كشفت عنها “السي اي اية” فهي تقول إنّ التنظيمات المحلية التي تعمل ضمن مظلة القاعدة كانت أكثر دموية، ويراها البعض بأنّها خروج ضمني عن تنظيم القاعدة، وهذا ما نجده في نهج الجهاد والتوحيد في العراق و”الدولة الإسلامية ـ داعش” وأنصار الشريعة في اليمن وشمال المغرب العربي. هذا التضارب كان موجودا أصلا داخل التنظيم من خلال اختلاف أنور العولقي، ملهم القاعدة الذي اُغتيل في أكتوبر 2011والذيبارك الثورات العربية واعتبرها بيئة ملائمة لتمدد تنظيم القاعدة، مع أبو يحي الليبي الذي كان يرفضها من جانب آخر، ويعتقد أنّها سرقت الأضواء من القاعدة.

 

القاعدة وفروعها

في دراسة بعنوان الأكاديميون الأميركيون والمخابرات المركزية، دخل مارك سيغمان، وهو أحد العلماء العاملين في فرع وزارة الداخلية الأميركية، وبروس هوفمان،أستاذ برنامج دراسات الأمن التابع لجامعة جورج واشنطن،في نقاش حول أثر التنظيمات الجهادية الكبرى على الجماعات الجهادية عبر العالم. حيث رأىسيغمان أنّ الجماعات الجهادية الصغيرة تمارس عملياتها دون توجيه من التنظيمات الجهادية الكبرى، وأن قياداتها تنبع من داخلها، أمّا هوفمانفقد أصرَّ على أنّ التنظيمات الجهادية الكبرى ما زالت تشكل التهديد الأكبر،وما زالت تحتفظ بأعلى مستوى من القيادة والرقابة، وأنّ القول إن الجماعاتالأصغر تمارس عملياتها من دون توجيه من القيادات الكبرى هو مجرد خرافة.

لكنّ سيباتشيان جوركا، وهو عضو هيئة التدريس بكلية شؤون الأمن الدولي التابعة لجامعة الدفاع القومي، فيختلف معهما لأنّ مصادر المعلومات المتاحة من المخابرات الأميركية تقدم تصورامختلفا؛ حيث ترى هذه المصادر أن التنظيمات الجهادية الكبرى، وإن خفت حِدَّةعملياتها الهجومية، فإنّها قد كثَّفت من دعايتها المتضمنة لرسائل عقائدية، ومازالت هذه التنظيمات مستمرة في ممارسة نشر عقيدتها السلفية الجهادية، ومازالت تلعب دورًا هامًّا في تنسيق العمليات الجهادية،كما أنّها لم تفقد بريقها عند الشباب، بل كانت مصدر إلهام لهم، ونجَحت في تجنيدالعديد منهم في القيام بعمليات جهادية خارج العالم العربي بصفة خاصة.

لكن يجب الاعتراف بأنّ القاعدة والجهادية نجحتا “إعلاميا” أكثر من السابق من خلال إصداراتهما وشبكة الإنترنت، وهذا ما عوض فشل قيادات التنظيم المركزي على الأرض، الذي بات يمثله الظواهري في رسائل، وصفها المراقبون بأنها لاتغني ولا تنقص.

 

*نقلا عن العرب اللندنية