قد يكون نوعا من إخفاء الحقيقة إذا تم ربط ظاهرة التهريب في ليبيا بفترة زمنية معينة في تاريخ البلاد على الأقل الحديث منه. فالبلد الممتدة حدوده البرية على مئات الكليومترات، والغني بالثروات كان دائما ساحة خصبة للمهربين الذين يستغلون امتداد تلك الحدود لممارسة نشاطاتهم ويجدون في ذلك حماية أو تساهلا من بعض الأطراف، ولذلك كانت ظاهرة التهريب منتشرة بشكل كبير رغم محاولات السلطات في ليبيا وفي دول الجوار الحدّ منها نظرا لتبعاتها السلبية على الاقتصاد.

بعد أحداث 2011 في ليبيا ودول الجوار، أصبح الحديث عن التهريب بلا معنى، حيث انفلتت الحدود بشكل غير مسبوق ولم يعد هناك من ضابط يحدّ من حركة المهرّبين، بل إن الظاهرة تنامت بصعود جيل جديد من المهرّبين وجد في الفراغ الأمني فرصة لتحقيق مكاسب لم يكن ليحققها في ظل حالة الاستقرار، حيث كانت جهات البلاد الشرقية والجنوبية والغربية طرقات سالكة لكل نواع السلع والمحروقات، بل حتى تهريب البشر والسلاح الذي كانت تبعاته وخيمة على بلدان الطوق في علاقة بالإرهاب.

لا شيء يفسر انتعاشة التهريب في ليبيا بعد العام 2011 إلا بوجود أطراف داعمة له ومنتفعة منه. الجميع يعرف أن الظاهرة تحميها أطراف مكشوفة ومخفية في شكل يشبه الشبكة التي يجتمع فيها المهرّب والمسلّح والسياسي من أجل تكوين ما يعرف اليوم بالمافيا التي تنتفع من حالات عدم الاستقرار وتكون في الغالب الطرف الأقوى فيها، باعتبارها تمارس كل أنواع العنف من أجل تحقيق مكاسبها دون خوف من أي سلطة عليا في ظل غياب مؤسسات فعلية قادرة على مجابهة التهريب باعتباره أكثر الأنشطة ضررا باقتصاد البلاد.

مراقبون كثيرون في ليبيا وخارجها يؤكدون أنه لولا التهريب لما تقوّت شوكة المليشيات، فقد ساهمت الظاهرة في توفير ثروات كبيرة خلقت نوعا من الاقتصاد الخاص غير المنظّم تسيّر به نشاطاتها، حتى أصبحت أقوى من الدولة ومؤسساتها وتتحكم في العديد من القرارات السياسية باعتبار وجود تداخل نشاط عناصرها بين المليشيوي والسياسي، حيث توجد قيادات لمليشيات تشكّلت إبان أحداث 2011، وصار مؤسسوها بعد ذلك شخصيات اعتبارية تأمر وتنهي ولها قرارات تنفّذ في الغلب ترغيبا وتهديدا، بل طرحت العديد من الأفكار حول دمجها في المؤسسات الرسمية مثل الحرس الرئاسي وغيره لكن لم تنفّذ بسبب رفض تلك المليشيات التي تعرف أن اندماجها يعني تراجع نفوذها تدريجيا ما يشكل خطرا على رموزها.

ورغم الدعوات بضرورة مواجهة تلك المجموعات منذ 2015 وبداية الاستقرار النسبي سياسيا، لكن أهل القرار في طرابلس كان لهم رأي آخر بالدعوة إلى تشريك قادة المليشيات في العملية السياسية وهو موقف براغماتي ليس أكثر، باعتبار السراج والمحيطين به كانوا يبحثون عن حماية لا يمكن أن تتوفر لهم في صورة اتخاذ قرار المواجهة، بل إن بعض الأطراف تعتبر أن هناك ارتباطا وثيقا بين قادة تلك المليشيات والقادة السياسيين وتجمعهم مصالح مشتركة لعل التهريب جزء منها.

في تقرير عن المليشيات في ليبيا نشره موقع "العربية نت" بتاريخ أكتوبر 2016، من أجل معرفة الأدوار التي تقوم بها وارتباطاتها خاصة في العاصمة طرابلس، اعتبر أن أغلبها تكوّن "على أساس المال والمصالح"،ّ حيث تشتغل في التهريب وتكسب من ذلك ثروات مالية طائلة سواء في علاقة بتهريب الوقود بحرا وبرا أو تهريب السجائر وغيرها من المواد دون أدنى ضابط.

فخلال السنتين الأوليين للأحداث، أصبح مشهد الشاحنات الرابضة في المنطقة الحدودية مع تونس وهي تبيع الوقود للتجار التونسيين اعتياديا. تذكر شهادات للتجار التونسيين أن مجموعات منتظمة برؤسائها وعامليها تتواجد في شكل قباضات مالية، حيث يجلس رئيس كل مجموعة على طاولة قريبة من الشاحنات في حين يأمر موظفيه بمراقبة وإفراغ الوقود داخل السيارات التونسية التي تمتد على مساحة تقترب من مئتي متر لكل مجموعة، وتضيف الشهادات أن كل مجموعة لديها مسلحوها أيضا وقد تقبض في اليوم الواحد بين 300 و500 ألف دينار خلال سنتي 2011 و2012.

وتعتبر الحدود التونسية مثالا فقط من خلال صور وشهادات عينية، لكن الأمر يشمل كل الحدود البرية والبحرية حيث ينتشر التهريب على جنوب البلاد ويتركز أساسا حول البشر والمخدّرات باعتباره منطقة منفلتة وتغيب فيها كل مظاهر الأمن لأكثر من 6 سنوات. كما أن سواحل البلاد كانت مسرحا لتهريب الوقود عبر عصابات متشابكة داخليا وخارجيا حيث كان الطريق البحري نحو مالطا في غرب البلاد سالكا نحو تهريب مئات الأطنان من الوقود دون انتفاع الدولة بأي عائدات، وقد ورد تقرير مالطي نشرته الصحفية المالطية دافني كراونا غاليتسيا عن عمليات التهريب الكبيرة للنفط نحو مالطا ما تسبب في مقتلها قبل عام وأشارت بعض الأطراف إلى تورّط تلك الشبكات في العملية.

ونظرا للإمكانيات البشرية والمالية التي تملكها تلك المليشيات فقد أصبحت جزءا من المشهد السياسي الليبي ولا تمر قرارات إلا بعد موافقتها، بل أن عددا منها خاصة في العاصمة طرابلس وجد اتفاقا مع السلطات لنيل بعض الامتيازات وقد أشار أحد التقارير إلى أن حوالي 11 فصيلا مسلحا من طرابلس كلّف ببعض المهام الأمنية، ولم يكن أي طرف قادرا على منعها من التواجد بالنظر إلى النفوذ الذي تتمتع به منذ سقوط نظام القذافي في 2011.