" يفند هذا الكتاب "خيبة التمثيل الجسد وأنثروبولوجيا الافراط" فكرة رائجة عن الجسد مفادها أن العالم حيز للجسد، ليثبت بقدراته الهائلة في الكشف أن العكس هو الصحيح، حيث أن الجسد هو المكان الذي يستوي فيه العالم ويتضاعف. فالجسد الذي يشكل الفرصة الوحيدة التي يصير فيها للأنا مكان، يحظى فيه بامتداد غير مرئي، لا يتوقف عند حدود الانفتاح على العالم وإنما يحتويه أيضا ويشكله ويستمر في إعادة تشكيله. إنه المكان حيث تتواصل القوى، تتقاطع ويُفَعِّل بعضها البعض، مثلما يعطل البعض الآخر. وفي هذا المكان تفجر قوة الرغبة قوى الخيال والتصور، التي تملك صلاحية خلق وإعادة خلق العالم، وتعديله بإمداده بمزيد من الإمكانيات. فيتحول الجسد إلى خلفية ميتافيزيقية، لكل ما يحدث، خلفية تصبح من شدة كثافتها المادية المتعذرة على الاختزال، متخيلة، سابحة في الفراغ، مدركة على نحو عصي على أنها ما يفلت من كل تحديد، وما يناهض كل واقعية مفترضة. لتنكشف من خلال ذلك حقيقة أن المحدود هو أصل كل ما ليس محدودا، ومنبعه ونواة انبثاقه."
"إن الجثة التي تشكل الحد البراني للجسد، أي الحد الخارجي الذي يستحيل على الجسد أن يتعرف فيه على نفسه، لأنه نمط من الوجود غير قادر على جلب قوى العالم وتفعيلها، ومن ثمة يستحيل على الجسد أن يتقاطع معه، تشكل أيضا النقيض المطلق الذي عنده يتعذر تصور الكفاءة اليوتوبية للجسد. فالجثة هي استحالة ثلاثية متشابكة، إذ هي استحالة الإيقاع والرقص والرغبة. وهي في ذات الوقت المكان القصي الذي لا يوجد جسر يصله بالجسد، حتى وإن كان هذا الأخير كينونة من أجل الموت، أي المكان الذي يتعذر فيه تصور الإرادة الناهضة من الحياة، والتي وصفها شوبنهاور بكونها كفاح بدون نهاية. فبقدر ما تكشف أن الموت افتداء للحياة لكي تستمر بعد الكائنات الحية، فهي في نفس الوقت، تحدد الجسد بأنه المكان الذي تستحيل مقايضته. إنه الخسران المطلق الذي لا يوجد مطلقا أي تعويض عنه، بمعنى ما فالجسد هو التبادل المستحيل. أي التبادل الذي لم توجد من إمكانية لتحقيقه، إلا من خلال الأبدية، أي الانتشار خارج الزمن، الذي يكافئ خسارة الجسد الذي تؤول في نفس الوقت إلى خسارة مطلقة للزمن.
هذا الكتاب تفكير في السؤال المحرج للإنسان باعتباره كائنا لا يناسب طبيعته. هذا الكائن المسكون بخيبة التمثيل، حيث أن من يمثل ليس سوى جزء صغير من حصيلة تمثيلاته، وحيث رغبته مقرونة بخيبة التوقع، وحيث أن طبيعته أقل دائما من شساعة ما ينتظره منها. إنه حالة إفراط، كينونة محكومة بسعيها إلى تمييز نفسها في كينونة أخرى، أي حالة مضاعفة تشتبك بقوى الخارج وتجعل منه تَحْيينا لهذا الكل الكبير الذي يعبره وهو الحياة التي تتدفق قبله وتحدد إمكاناته وتتجاوزه وتمتد بعده غير آبهة به.
تنتظم "بنية الانتهاك" التجربةَ التي تعطي للإنسان خاصيته التأسيسية باعتباره كائن الشطط الذي لا يتحقق شيء من وجوده إلا في اشتباك مع الحدود التي ترسمها له ذات التجربة. إنه تعدي دائم للحدود. لذلك ظل أيضا الجسد المكان السري الذي لا يرى، والذي فيه يتكثف الغياب الذي يحضر كرغبة، التي بقدر ما تتأجج بقدر ما تزيده التباسا. ليغدو الجسد ليس ما هو واضح لنفسه فيما يرغب، وإنما ما يتجدد كفقدان لذاته في قلب نفس الرغبة التي تكوّنه.
إن الأمر الأهم بالنسبة لبنية الانتهاك (transgression)ليس هو التمثيل من حيث هو إقامة في قلب ما هو ممثَّل، وإنما من حيث هو الأثر الفاضح لما يستحيل تمثيله. فالحياة و الجسد والمعنى ليست سوى شبكة اللاتمثيل (non-représentation) التي تغزو عالم كائن الانتهاك، الذي يحصر مشروعه في معاودة منهكة لاختراق الحدود التي يتحول من خلالها إلى حركة دائمة للفقدان الجدري للمدلول، حيث تتشكل مناعة اللغة التي كلما تخطى حدودها إلا وسقط مرة أخرى في عمقها الذي يجد نفسه متورطا سلفا في تواطؤاته المرسخة لسيطرة الدال، مثلما أن تجربته كجسد تتحول إلى حركة لإتلاف موضوع الرغبة وغيابه فيها. فسواء من داخل اللغة أو من داخل الرغبة يظل كائن الانتهاك منزوعا نحو خارج ما، هو عالم اللا موضوع، أي العالم الذي لا شيء فيه قابل للتعميم تحت تسمية مشتركة، عالم المفاجأة والهروب. لأن اللغة والرغبة هما بالضبط نفوذ ما لا يمثل، إنهما دائما ما لا يوجد أبدا أي تمثيل يكافئهما... إن كائن الانتهاك يظل مدفوعا من خيبته من طبيعته التي لا تناسبه أبدا، إلى الاستثمار في النفع العام لما لا يوجد..."