يعتبر إيجاد تسوية توافقية من أكبر رهانات الأزمة الليبية التي مازالت تراوح مكانها في ظل تواصل حالة الإنقسامات والتشرذم والانسداد السياسي.وفي مسعى جديد لتكرار تجربة الوساطة الفرنسية لحلحلة الأوضاع في ليبيا، تستعد إيطاليا لتنظيم مؤتمر دولي يجمع الأطراف الليبية الفاعلة في المشهد السياسي من أجل الوصول إلى تسوية سياسية تنهي الأزمة التي حلت بالبلاد منذ سنوات.

ونشطت الدبلوماسية الإيطالية مؤخرا في إجراء محادثات مع الأطراف الليبية المحلية الفاعلة لضمان حضورها المؤتمر الدولي الذي سيعقد يومي 12 و13 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، ومنهم رئيس مجلس النواب الليبى عقيلة صالح، رئيس المجلس الرئاسى فائز السراج، وقائد الجيش الليبى المشير خليفة حفتر، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشرى.

وشهدت الأيام القليلة الماضية تطورات هامة، خصوصًا بعد إعلان قائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر، الذي زار روما، مشاركته بالمؤتمر.وقال بيان للحكومة الإيطالية نُشرعقب لقاء حفتر مع رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي في روما، الإثنين 29 أكتوبر 2018، إن المشير حفتر أكد استعداده لحضور "مؤتمر بنَّاء ويعكس مراهنة على عملية جامعة متمشية ضمن ما يطمح له الشعب الليبي".

وقال البيان إن المؤتمر سيكون "مؤتمر ليبيا وليس حول ليبيا"، مستوحى من "مبدأين أساسيين هما الاحترام الكامل لتولي الليبيين المسؤولية في المؤتمر وضمان شمولية العملية".وأشار البيان إلى أن وجود جميع الأطراف الفاعلة الرئيسية بليبيا في باليرمو "يهدف إلى دعم الوضع الأمني والتنمية الاقتصادية، ودعم الإطار السياسي والدستوري كأساس لعملية سياسية منظمة استنادًا إلى خطة عمل الأمم المتحدة".

من جهتها، نقلت وكالة "أكي" الإيطالية عن مصادر في وزارة الخارجية الإيطالية، أن لقاء كونتي مع المشير حفتر تمحور حول مشاركته في مؤتمر باليرمو، معتبرةً أن حضوره للمؤتمر يعدُّ أساسياً لنجاحه.وذكرت وكالة الصحافة الفرنسية نقلا عن الصحافة الإيطالية أن إيطاليا تحاول إقناع حفتر بمزايا خطة الخروج من الأزمة التي سيقدّمها مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة قبل أيام من انعقاد مؤتمر باليرمو.

وتحرص إيطاليا على حضور المشير خليفة حفتر للمؤتمر لضمان نجاحه، وتجلى هذا الحرص في تصريحات وزير الخارجية الإيطالي إنزو موافير، على هامش مؤتمر في مدينة فلورنسا الإيطالية، التي قال فيها، "ينبغي أن يكون هناك (في باليرمو).أكد لنا أنه سيحضر وبالتالي فنحن نعول على حقيقة أنه سيحضر".في إشارة واضحة للأهمية الكبيرة للجيش الوطني الليبي في أي تسوية قادمة.

وشهدت العلاقات بين إيطاليا والجيش الليبي توترا، حيث اتخذت روما، الدولة المستعمرة القديمة لليبيا، موقفًا مساندًا لحكومة الوفاق وميليشيات طرابلس، ورافضًا لإجراء الانتخابات في الموعد الذي حددته المبادرة الفرنسية والأمم المتحدة، في شهر كانون الأول /ديسمبر من العام الحالي، فيما أدان الجيش الوطني التدخلات الإيطالية في الشأن الليبي، ما أحدث أزمة وتصادمًا بين الطرفين.

وكان السفير الايطالي جوزيبي بيروني، قد رفض في مقابلة أذيعت على قناة ليبيا إجراء إنتخابات في ليبيا بأي ثمن ومهما كانت التكلفة قبل تهيئة الظروف المناسبة، مدعيا أن هناك أطرافا تسعى للتسريع من موعد الانتخابات للاستيلاء على السلطة.وردا على ذلك، أكد المشير خليفة حفتر، القائد العام للقوات المسلحة الليبية، أنه ليس من حق السفير الإيطالي وأي مسؤول أجنبي أن يتدخل في مسألة تخص الانتخابات وشؤون الليبين بشكل عام.

وترددت أنباء عن عزم القائد العام للجيش الليبي عدم حضور مؤتمر باليرمو، عززتها تصريحات الناطق الرسمي باسم القيادة العامة للجيش العميد أحمد المسماري، الخميس 25 أكتوبر 2018، التي أشار فيها إلى إن القائد العام للجيش المشير خليفة حفتر لم يحسم قراره من المشاركة في اجتماع باليرمو الذي تنظمه إيطاليا. 

وأكد المسماري في تصريحات صحفية أن الموقف الإيطالي في ليبيا مضاد للموقف الفرنسي تجاه الأزمة، مشيرا إلى رغبة باريس في تنظيم الانتخابات في البلاد شهر ديسمبر القادم وهو ما ترفضه روما. وشدد المتحدث الرسمي على استعداد القوات المسلحة لتأمين أي عملية انتخابية في البلاد، لافتاً إلى أهمية ممارسة أبناء الشعب في العملية الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات العامة والتشريعية.

ودفع هذا بالصحف الإيطالية إلى وصفه في وقت سابق "بالغائب الأكبر والأهم عن المؤتمر، مع توقع فشل المؤتمر في حال عدم حضور حفتر".وقال المحلل السياسي الإيطالي، أومبرتو دي جيوفانانغيلي في تقرير نشره موقع هاف بوست الناطق باللغة الإيطالية ، في سبتمبر الماضي، إن عدم حضور حفتر للمؤتمر الذي تسعى الحكومة الإيطالية من خلاله إلى جمع أكبر عدد ممكن من المعنيين بالشأن الليبي، سيؤدي إلى أن يلد المؤتمر مسخًا لا قيمة له، وسيسقط في يد روما.

 بيد أن الدبلوماسية الإيطالية بذلت جهودًا كبيرة لكسب ود "رجل ليبيا القوي"، فقد زاره في بنغازي وزير الخارجية إينزو موافيرو ميلانيزي ومسؤولون آخرون، ووجهت له دعوة رسمية لزيارة روما التقى خلالها رئيس الوزراء جوزيبي كونتي؛ لبحث ترتيبات مؤتمر باليرمو.

ونجح الجيش الوطني الليبي خلال الفترة الماضية في تحقيق انتصارات كبيرة بعد سيطرته علي منطقة الهلال النفطي ودحر الميليشيات المسلحة، ونجاحه في تحرير مدينة درنة بعد سنوات من المعاناة من سيطرة التنظيمات الارهابية.ويرى المراقبون، أن دور الجيش الليبي يزداد أهمية، في وقت مازال فيه الخطر الارهابي يتهدد ليبيا نظرا لاستمرار تواجد العناصر الارهابية وخلاياها التي تهدد بالعودة في أي وقت، اضافة الى تواصل الدعم الذي تتلقاه هذه العناصر.

وحضي الجيش الليبي في ظل هذه الإنتصارات بترحيب وثقة كبيرة، كما حظي باعتراف دولي وإقليمي بدوره المحوري في أي حل مستقبلي.وفي يوليو الماضي، أشادت حكومات كل من فرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا بدور الجيش الوطنى الليبى فى إعادة الاستقرار فى القطاع النفطى فى ليبيا.وقالت حكومات البلدان الأربعة، في بيان مشترك، "نقدر إسهامات الجيش الوطني الليبي لاستعادة الاستقرار في القطاع النفطي الليبي الذي يعد أساسيا للحفاظ على المصالح الوطنية لليبيا".

ويرى مراقبون، أن الانتصارات العسكرية التي حققتها القوات المسلحة الليبية بقيادة المشير خليفة حفتر، غيرت حسابات المجتمع الدولي إزاء تلك القوات، لا سيما بعد توسيع الجيش الليبي مناطق سيطرته ونفوذه على الأرض الأمر الذي قد يؤشر أيضا على إعادة الحسابات الخاصة بالمعادلة السياسية الليبية من قبل بعض الدول وخاصة ايطاليا.

وفي هذا السياق، قال المحلل السياسي الليبي، رضوان الفيتوري، أن التودد الإيطالي للمشير ليقبل بالمشاركة في المؤتمر يعكس تغيرًا في الموقف الإيطالي من ليبيا، وأن روما اقتنعت أخيرًا بأن حفتر هو الرجل القوي، وأبدت استعدادها للتخلي عن دعمها للميليشيات، وهي تحاول الآن أن تصحح مسارها، معتبرًا أن كلمة الفصل في المؤتمر هي حضور المشير.

وأضاف الفيتوري، لـ"إرم نيوز"، أنّ "المشير الآن في وضع قوة وليس وضع ضعف، بعد الانتصارات التي حققها الجيش الوطني، وهو صاحب الأمر الواقع والسلطة الفعلية على أكثر من 80 % من الأرض الليبية، وكل الدول الغربية وليس إيطاليا وحدها بحاجة إلى حليف قوي وشرعي في ليبيا".

وأكد أنّ "قبول المشير حفتر حضور المؤتمر جاء بعد إملائه شروطه، كما علمت من مصادر موثوقة جدًا، وهي شروط المنتصر، وأبرزها حضوره بصفته كقائد عام للجيش الليبي (الشرعي)، وأن الجيش واحد وموحد، وأن لا تدخل عسكريًا غربيًا في المسرح الليبي".مشيرا إلى أن "السيناريو المقبل والمتوقع بعد المؤتمر هو أولًا تسوية وضع الميليشيات في طرابلس، ودخول الجيش العاصمة دون إراقة دماء، ومن ثم إجراء الانتخابات".

ويأتي مؤتمر باليرمو بعد أشهر من اجتماع باريس في مايو الماضي، الذي يرى مراقبون أنه "تعثر بعد تنصل الأطراف الليبية من مخرجاته وعدم تنفيذ بنوده واعتماده على تواريخ محددة".ويرى متابعون للشأن الليبي، أن إيطاليا تسعى من خلال مؤتمر باليرمو إلى تحقيق موقع الصدارة في قيادة الملف الليبي وخاصة بعد الدعم الأمريكي الذي حضيت به.

وكانت أربعة وفود ليبية قد اجتمعت في باريس، يوم 29 مايو من العام الحالي، تمثل قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر، ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، لبحث مسألة إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في البلاد.

وخرجت الوفود الأربعة بعد اجتماع باريس ببيان ختامي ينص على التحضير للانتخابات البرلمانية والرئاسية في 10 ديسمبر 2018، على نحو جيد، مشددا على أن يلتزم القادة الليبيون بقبول نتائج الانتخابات والتأكد من توفر الموارد المالية اللازمة والترتيبات الأمنية الصارمة، وأن يتعرض كل من يقوم بخرق العملية الانتخابية أو تعطيلها للمحاسبة.

ويتوقع المراقبون أن يتم خلال المؤتمر إعلان تأجيل الانتخابات الليبية، وهو ما يخدم رؤية روما التي ألمحت في أكثر من مناسبة إلى رفضها إجراء الانتخابات، مؤكدة أن الأمر بيد الليبيين وليس غيرهم في إشارة إلى باريس.وكان رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي صرح في أكتوبر الماضي، بأن "التفكير في إمكانية إجراء انتخابات في ليبيا في ديسمبر المقبل، يبدو لي أملا غير حكيم".

ويخشى الكثيرون من أن يكون الصراع بين إيطاليا وفرنسا حول ليبيا مرشحا للاستمرار إلى جولات جديدة، في ظل مساعي كلا الطرفين لتدعيم مصالحه في هذا البلد الغني بالثروات، فيما سيستمر الليبيون في صراعاتهم ومعاناتهم في وقت تصبح فيه بلادهم أبعد عن الوحدة والاستقرار من أي وقت مضى، وأقرب ما تكون لساحة صراع استعماري لا ينتهي.