أعلن الرئيس التونسي منصف المرزوقي عن القيام بوساطة بين الفرقاء الليبيين تحدث عنها كذلك راشد الغنوشي رئيس حزب حركة النهضة الإسلامي ، وتطرّق لها طارق متري رئيس بعثة الأمم المتحدة في طرابلس خلال زيارته العاصمة التونسية الأسبوع الماضي 

غير أن الوقائع الليبية تؤكد أن أي مشروع للوساطة في ليبيا لن ينجح حاليا وذلك لأسباب عدة منها : أولا أن الطرف التونسي الحاكم معروف بتحالفه مع أحد أطراف النزاع في ليبيا ، وأن حكام تونس الجدد يرتبطون علانية بالدور القطري التركي الإخواني في ليبيا ما يجعلهم يفتقدون عنصر النزاهة الذي يتطلبه البعث عن أي مسلك للخروج من الأزمة الليبية ،وثانيا: أن الأزمة الليبية متداخلة بشكل يختلف عن أية أزمة عادة قد يعرفها أي بلد من البلدان ،وهي أقرب الى أن تكون أعسر حتى من الأزمة العراقية ،وقد زاد التدخل الخارجي من تعميق المأساة في ليبيا ،إضافة الى حقيقة الصراع المبني على فكرة إنقلابية من أجل السيطرة على الثروة والسلطة عبر السلاح 

ثالثا: أن من الوهم الحديث عن ربيع عربي في ليبيا ، ومن التحايل على الواقع ربط ما حدث في البلاد بشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الأنسان التي أكدت رافعيها الأساسيين من الناشطين السياسيين والحقوقيين وعصفت بهم بعيدا ، ليهيمن زعماء الحرب وقادة الميلشيات والجماعات الدينية والإخوانية المتطرفة على المشهد العام حاليا ، 

أما رابعا ، فإن الوجه الخفي للأمة الليبية هو الصراع الإجتماعي المحموم بعد المواجهات القبلية وسفك الدماء ، حيث تجذّرت روح الثأر في غياب ولي الدم القادر على لململة الأوراق المبعثرة ، مثال ذلك موقف ورشفانة من الزاوية ،وبني وليد من مصراتة ، وسرت من مصراتة ، والتبو من الزوية والمغاربة ، والقذاذفة والمقارحة والتبو من أولاد سليمان ، والعجيلات من صبراتة ، والصيعان من كاباو ونالوت ، وتاورغاء من مصراتة ، والنوايل من زوارة ،حتى أن القائمة لا تكاد تنتهي ، 

وهذا يعني أن أية مصالحة سياسية في ليبيا لن تفضي الى مصالحة إجتماعية ، خصوصا  في ظل خصوصيات المجتمع القبلي والعشائري الذي لا علاقة له بصراعات الأحزاب ولا بالخطاب السياسي المستورد من الغرب 

وليبيا التي تبلغ مساحتها مليون و750 آلف كلم مربع ، لا يمكن حصرها مشاكلها في ما يدور في صالونات العاصمة ،أو في الواقع الميلشياوي في بعض مدن الساحل الغربي مثل مصراتة والزواية وزليتن والعاصمة طرابلس ، حيث يحاول الإخوان وحلفاؤهم التمركز من خلال الإستقواء بأحلاف  خارجية وجماعات مسلحة ، بعضها لا ينفي علاقاته المباشرة بتنظيم القاعدة ، أو بتنظيم أنصار الشريعة ، ولا ينكر إعتماده على مرتزقة من خارج البلاد ، كما أن الوضع في مناطق الشرق لا يزال داخل نفق مظلم من الإغتيالات والإختطاف وسيطرة المسلحين ،ويوجد عدد مهم من المدن الليبية خارج سلطة الدولة ، كما لا تخفى أغلب القبائل الكبرى مقاطعتها التامة للعملية السياسية ،وعدم إعترافها بثورة فبراير وما نجم عنها من تحولات على أرض الواقع ، ومن ذلك قبائل ورفلة وورشفانة وترهونة والمقارحة والصيعان والنوايل والعجيلات والمشاشية والقذاذفة وغيرها 

في ظل هذا الواقع ، لا يمكن الحديث عن وساطة ولا عن مصالحة ، طالما لم يتم نزع السلاح وحل الميلشيات ،وهذا من الصعوبة بمكان ،نظرا لأن حمل السلاح بات تعبيرا عن وضع اليد على الثروة والسلطة ، كما أن الإخوان المسلمين الذين لا يمثلون ثقلا إجتماعا باتوا يمثّلون حكما خارجيا بالوكالة داخل ليبيا مستندا الى قوة السلاح بين أيادي الميلشيات والى غياب جيش وطني فاعل وأجهزة أمن قادرة على فرض وجودها ، وفي ظل غفلة من الزمن تم تحويل الميلشيات الى قوة دروع تتحرك بإسم الدولة في إتجاه خدمة أجندات حزبية وجهوية لا غير مما يجعلها فاقدة لشرعيتها في نظر النسبة الأكبر من الليبيين بعد تورطها في معارك ضد مدن وقبائل مثل بني وليد وسرت وورشفانة وسبها والعجيلات وقوات إقليم برقة 

يضاف الى ذلك ، أن بعض المناطق والإحياء الليبية تعيش حالة حصار دائم بميلشيات مسلحة ، في الوقت الذي تؤكد فيه منظمات حقوق الإنسان المحلية والأجنبية وجود عشرات من السجون والمعتقلات السرية تحت سيطرة تلك الميلشيات ،تتم فيها أبشع ألوان التعذيب والقتل والإغتصاب 

كما لا تزال مناطق وقبائل ليبية موالية للنظام السابق وغير معترفة بالحكم الإنتقالي ولا برموز النظام الحالي ، الأمر الذي يفترض البحث عن أفضل الوسائل لدمجها في الواقع الجديد ، عبر البحث عن مرجعيات وطنية مختلفة عن السابق واللاحق الى حد الأن 

ولتوصيف حقيقة الوضع الليبي يمكن الحديث عن أقليّة تمتلك السلاح والثروة والسلطة النسبية وذات شرعية من الخارج أكثر من شرعيتها في الداخل ،في حين تجد أغلبية الليبيين نفسها أمام وضع إجتماعي صعب ، خصوصا مع محاولات تجاول الدور المحوري للقبائل الكبرى التي لا تعترف بالإخوان ولا بالحكومة الإنتقالية ولا بالمؤتمر الوطني العام ولا بالميلشيات المسلحة ولا بالتحالفات القائمة مع قوى خارجية بعينها 

ويزداد تأزم الوضع بترّهل الحكم القائم المتجسد في إختطاف رئيس حكومة ثم في فراره الى الخارج  و في نشر فيديو  الجزء الأول من تحقيق قام به قائد إحدى الميلشيات مع رئيس المؤتمر الوطني العام  في إنتظار الجزء الثاني الذي سيكون صادما ، كذلك في معركة الناقلة ،وإستمرار الإغتيالات والإختطافات ، وفي إستمرار تهجير ثلث الشعب الى الخارج ،والعجز عن حل مشكلة اللجوء الداخلي ،وفشل  الدولة في السيطرة على مقدراتها ،وإستمرار إبتزازها من قبل المسلحين ، وتحول ليبيا الى ملجإ للإرهاب الدولي 

وبالنظر الى المشهد على ما هو عليه ،لا يمكن الحديث عن وساطة في ليبيا ،كما لا يمكن الحديث عن جدية دولية  ولا أممية في التعامل مع الملف الليبي ولا عن أفق للحل السياسي ولا للمصالحة الإجتماعية ،رغم أن هناك حلول يمكن أن توجد إذا توفرت الإرادة داخليا وخارجيا