أن تتحرك كبرى المدن الليبية بالتزامن محتجة على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فيعني أن الأمور قد بلغت مرحلة معقدة لا سكوت بعهدها. حتى الاتهامات التي تطلق هناك وهناك عن مخربين أو منتمين لجماعات سياسية معينة تحرّك المظاهرات هي تبريرات للهروب من حقيقة أن الأوضاع لم تعد تعجب سواء في شرق البلاد أو في غربها ولزاما على الماسكين بالسلطة بالقوة أو بسلطة الأمر الواقع أن يراجعوا أنفسهم ويقتنعوا أن أطماعهم الشخصية قد أوصلت البلاد إلى حافة الهاوية وجميعهم يتحملون المسؤولية فيما وصلت إليه الأمور.

المظاهرات لم تستثن أي مدينة كبيرة من البلاد وكلها ترفع شعرات متشابهة تستهدف الوجوه التي "جثمت" على المشهد خلال سنوات، وأكد المحتجون فيها "على خروج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية بشكل كامل ونهائي، وتفويض المجلس الرئاسي لإعلان حالة الطوارئ، وحل الأجسام السياسية التي تعرقل الوصول إلى الانتخابات"، مطالبين "بإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في كافة المدن الليبية، وحل أزمة الكهرباء وإلغاء قرار الدبيبة برفع الدعم عن المحروقات، وتعديل حجم وسعر رغيف الخبز". 

طرابلس، عاصمة البلاد والمركز الرسمي للسلطة التنفيذية، كانت مسرحا لحالة من الغضب على تردي الخدمات في شبكة الكهرباء فرضت خروج المئات إلى الساحات رافعين شعارات مطالبة بتوفير الكهرباء منتقدة بشدة حكومتي الدبيبة وباشاغا اللتين تعتبران دليلا واضحا على الفشل السياسي والطموحات الشخصية. وتعتبر مشكلة الكهرباء في ليبيا من أعقد المشاكل، حيث تؤثر الانقسامات على خدماتها رغم ما تقدّمت به حكومة الدبيبة من وعود عند استلام مهامها أن الكهرباء سيكون من أولوياتها في العمل، لكن اليوم لا هي حافظت على موقعها المريح بعد التصويت على حكومة جديدة ولا نجحت خلال الفترة التي قضتها في توفير أبسط الضروريات للناس الذين لا يهتمون كثيرا للخلافات السياسية بقدر اهمامهم بمن سيوفر لهم من يحتاجونه.

في طبرق وبشكل مفاجئ، خرج أيضا العشرات أمام مجلس النواب أين أشعلوا في البداية العجلات المطاطية، ثم تطورات الأوضاع لحرق جزء من واجهته، الأمر الذي فرض ردّة فعل من عقيلة صالح، الذي حذّر مما سماه التخريب متفهما حالة الغضب التي يعيشها الشارع منذ فترة طويلة. وعلى الرغم من أن بعض الأطراف المنتفعة من الوضع الراهن تريد ربط ما يحصل بمجموعات معينة، لكن هذا لا يغير من الواقع على الأرض شيئا وهو أن الشعب الليبي فقد الثقة في الجميع دون استثناء، حتى البرلمان الذي يعتبر مقارنة بالأجسام الأخرى صاحب الدور الأصغر فيما هو تنفيذي، بشكل جعل بعض الشبان يقتحمون مدخله ويحطمون بعض محتوياته.

مصراتة وبنغازي بدورهما عرفتا بعض التحركات الغاضبة على نفس المطالب، حيث ذكرت مواقع أن مقر بلدية مصراتة كان مستهدفا بالعجلات المطاطية، والحال نفسه تقريبا في بعض المدن الأخرى، ما بعث حالة من القلق لدى النخب السياسية التي تفاجأت بدورها بتزامن الاحتجاجات وفي مدن عرفت هدوءا نسبيا في السابق.

الجنوب الليبي بدوره عرف حالة من الغضب على حالة "النسيان" التي تمارسها ضده الحكومات المتعاقبة، ما خلق قلقا حتى داخله حيث يحمل كل طرف فيه المسؤولية في عدم القيام بالدور. كما أن بعض نشطائه يتهمون عناصر من الجيش باستهداف مؤتمر نسائي يبحث في الأزمة الأمر الذي جعل قيادته في حرج، وهذا حاولت التخفيف منه بتبرير الاحتجاجات اللاحقة، بالقول إن "الحراك الشعبي الذي تشهده ليبيا، يعبر عن مطالبه المشروعة في ظل تفاقم الأزمة الليبية، وانغلاق الأفق وتدني المستوى الخدمي والمعيشي للمواطن". مؤكدة "وقوفها التام مع الإرادة الشعبية، وتأييدها لمطالب المواطنين، انطلاقا من دورها في حماية الأمن القومي للبلاد، وحرصا منها على رعاية الشعب وحماية استقراره، الذي انتزعه بعد معركة طويلة مع الإرهاب".

وعلى غير عادته في التعامل مع التطورات التي شهدتها الشوارع الليبية، أعلن المجلس الرئاسي أنه في حالة انعقاد دائم، "حتى تتحقق إرادة الليبيين في التغيير، وإنتاج سلطة منتخبة يرضى عنها الليبيون ولن يخيب آمال، وإرادة الشعب بالعيش في دولة تنعم بالأمن والاستقرار الدائم"، وهذه من المرات القلائل التي تخرج نبرة غاضبة عن مكتب المنفي الذي يُعتقد أنه يبحث عن خيارات مستعجلة لتغيير "الفوضى" السياسية.

لكن المجلس بدوره التحق في مرحلة لاحقة، بالأجسام المغضوب عليها بعد أن احتج عدد من الشباب على عدم تجاوبه مع مطالبهم معتبرين أنه يتهرب من تبني حقيقة الاحتقان التي يعيشها الشارع وتتطلب إجراءات حازمة يتم عبرها الحسم في كل الأجسام السياسية من دون استثناء. وتعبيرا عن الغضب على الرئاسي قال المحتجون "قررنا تجاوز المجلس الرئاسي بالكامل، وتصعيد سقف المطالب والاستمرار في الحشد الشبابي واستمرار الخروج والتظاهر في كامل مدن وشوارع ليبيا".

في جانب آخر تقول مصادر مختلفة أن ما حصل يوم الجمعة 1 يوليو، سيكون بداية لسلسلة من الاحتجاجات التي ضد المسؤولين قد تشهد زخما أكبر كلما تقدّمت الأيام وساء المشهد الذي تراقبه الأجسام المذكورة بنوع من التعالي والاستهزاء، لكن دروس التاريخ عادة ما تعطي عبرة للبعض بأن لحظات الانفجار لو بدأت لن يكون لها راد مهما كانت إمكانيات الدفاع عن أنفسهم وعلى الجميع أن يتلقف الرسالة وينصت إلى صوت الشارع قبل أن يفوت الأوان ويجد المتعنتون أنفسهم خارج اللعبة حتى دون رغبتهم وهذا الأقرب.