الأزمة في ليبيا، أو بتعبير أدق فيها وعليها، تحتاج إلى الحل... الشعب الليبي يحتاج إلى الحل، حل لهذه الحرب بكل مفاعيلها القاتلة وهو الذي يكتوي بنارها على كل الصعد... وعندما يطالب الليبيون بالحل، فهم بالتأكيد لا يتحدثون عن أزمة سياسية، أو مشكلات في الحياة الاجتماعية والإدارية الليبية، بما فيها الفساد وإرهاصاته... هم يصرخون من وجع الحرب، من الموت يحدق بهم، والفقر يقض مضاجعهم. ويكثر الحديث عن "الحل السياسي" ويتنوع مفهوم هذا الحل حسب المتحدثين، وعلى الأغلب حسب رغبة كل منهم، واعتماداً على الأجندة التي يريد تحقيقها، وفي ضوء استمرار بعض المعارضات، وبخاصة التي تعيش بالخارج، فإنها تتمسك بمطلب واحد يحلو لها تسميته "المرحلة الانتقالية" وتردده ببغاوياً في كل الاجتماعات... فمن وجهة نظرها لا إرهاب في ليبيا، ولا تمويل ودعم للتنظيمات التكفيرية ولا فتح للحدود لشذاذ الآفاق وإرهابيي القتل الجوال الذين صُدّروا من كل حدب وصوب. فما يهمّ هؤلاء الحصول على مكسب سياسي يعوّض ما عجز المرتزقة عن تحقيقه في ميدان الحرب ويرضي المموّل القطري.

وفي هذا السياق وبتاريخ سابق، فقد أشارت ستيفاني ويليامز المبعوثة الأممية الجمعة 30 أكتوبر/تشرين الأول إلى أن الأمم المتحدة مع بقاء السراج لفترة مؤقتة، مشيرة إلى أنها متفهمة الشكوك حول المرحلة الانتقالية في ليبيا. وأضافت، بقولها: "قرار الانتخابات بيد الحوار السياسي الليبي، فالليبيون وحدهم يقررون شكل السلطة للمرحلة الانتقالية". وسيرا على نفس النهج، فقد عقدت جلسة تشاورية في مدينة بوزنيقة المغربية الجمعة 06/11/2020، بين مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة الليبي، وقال مصدر دبلوماسي ليبي، إن التشاور انصب على الفترة الانتقالية والتي تم تحديدها في سنة ونصف السنة، ومهام السلطة التنفيذية خلال تلك المرحلة الانتقالية، ومن أهمها العمل على تنظيم انتخابات رئاسية ونيابية...

في الحقيقة، إن كل الأحاديث عن "تفاهمات" و"مراحل انتقالية"، يفرض علينا التساؤل: أيّ مرحلة هذه...؟ وأيّ انتقال هذا...؟! ومن ذا الذي يحق له فرض ذلك على هذا الشعب الليبي، والجيش الوطني؟ ومن ذا الذي سيسلّم بمصادرة دور المؤسسات الرسمية للدولة الوطنية الصامدة إلى مشروع تركي قطري ذيل وذليل يُفهم من خلاله تقويض هذه المؤسسات، والانقياد إلى مرحلة تسليم السلطة الشرعية وطنياً، ومصادرة حق الشعب وخياره، بل هويته وانتمائه وفق أجندة معادية تماماً. إن الذين يحلمون بالمرحلة الانتقالية، يحلمون بفرض الرؤية الأخوانية بعمقها الراديكالي الإرهابي على الشعب الليبي وعلى شعوب المنطقة، وهذا أضغاث أحلام طالما عمل البترودولار على تحقيقها خدمة للمشروع التركي الغربي في المنطقة. فهذه المرحلة هي سراب حقيقي، إنها هدنة ضارّة بمثابة فرصة مجانية رابحة للإرهابيين الذين خارت قواهم المادية والمعنوية، وانكشف أمرهم أمام المجتمع الدولي وفي المنطقة، والهدنة هنا دعم حقيقي للإرهاب.

لا يجوز في السياسة التعامل مع النيات لأنها خفايا، أما السياسة فمادتها الواقع والوقائع، لكن من الضروري التعامل مع الأهداف، وهو في حقيقة الأمر تعامل مع النيات لأن الأهداف تشير إلى هذه النيات وتؤكد مضمونها. ليست مشكلة الحل السياسي في ليبيا (وهو شيء غير مكافحة الإرهاب والتصدي له) معقدة لو حسنت "النيات" أي لو كانت أهداف جميع القوى أهدافاً وطنية حقاً. الحل بسيط ويستند إلى مبادئ متفق عليها في علم السياسة وفي التجربة السياسية المعاصرة، وهي مبادئ عامة تنطبق على جميع الحالات المتأزمة بغض النظر عن الاختلاف في الثقافات أو في البنى البشرية والتاريخية لهذا البلد أو ذاك. يتطلب الحل وفاقاً حول أهداف عامة مشتركة، وآليات التوصل إلى حلول فنية لتحقيق هذه الأهداف، ثم ما يسمى بالتحقق Verification كي يكون التحقيق مضبوطاً.

الأهداف العامة أو الغائبة: ينبغي أن تكون مشتركة بين الجميع، وهي أهداف وطنية بالضرورة، خلاصتها إنقاذ ليبيا وحمايته وإعادة بنائه عمرانياً وسياسياً على أساس مشاركة الجميع في الحياة السياسية، كل حسب حجمه وتأثيره في أوساط الشعب. وهنا من الضروري التأكيد على أن استقلال البلد وسيادته الوطنية مسلمات غير قابلة للنقاش.

آلية التوصل إلى الحل: الحوار وحده هو السبيل للتفاهم، ويقوم على أساس مشاركة الجميع دون إقصاء شرط أن يكونوا وطنيين، وهناك معياران بديهيان لقياس الوطنية: الامتناع عن القتل والتدمير، وعدم الارتهان إلى الخارج في المواقف والتمويل. ولتوثيق التفاهم لابد من وضع ميثاق وطني يستند إليه الدستور ويكون مرجعاً وحكماً للتيارات السياسية الوطنية جميعها.

معيار التحقق: ينبغي العودة دائماً إلى الشعب باعتباره صاحب السلطة ومصدر السيادة، وذلك عبر آليات معروفة، وهي الاستفتاء بالنسبة للحلول العامة، وصندوق الاقتراع بالنسبة لاختيار القيادات...
هذا هو الحل الواضح. وهو من حيث المبدأ لابد أن يكون مقبولاً من الجميع لأنه يتعلق بمنطلقات أضحت مسلمات في جميع أنحاء العالم.

أين المشكلة؟ المشكلة أن هناك قوى أخوانية في الداخل والخارج، ليس هدفها إنقاذ الوطن وإنما "تدمير الدولة الليبية" وليكن بعد ذلك الطوفان، ليس مهماً. هذه نزعة انتقامية تدخل في باب "مضاد الوطنية". أما الوسيلة، فلا تريد هذه القوى حواراً وطنياً، وإنما تفاوضاً بين أطراف عدوة، حيث يكون كل ربح لطرف خسارة للطرف الآخر، وحيث يسود مناخ المنتصر والمهزوم... أما معيار التحقق فهو ليس الشعب، وإنما فرض الحلول بقوة الخارج، حيث يكون "القرار الدولي" هو المعيار، وحيث يستهان بشعب عريق ناضل ضد الاستعمار منذ تكونت ظاهرة الاستعمار.

في هذا المناخ يكتنف المسار السياسي في ليبيا، ألاعيب عديدة هي بمثابة استمرار المؤامرة على الدولة الوطنية بألقها التاريخي والمعاصر، وببنيتها ودورها، دون تقدير أو انتباه إلى أن هذه الدولة، وهذا الشعب لن يعطيا الأعداء أبداً بالسلم ما عجزوا عنه في الميدان، على هذا الأساس يكون حديث المرحلة الانتقالية مضيعة للوقت، ونكراناً لطهارة دماء الشهداء الخالدين، ولبطولات واستعدادات كانت ولا تزال وستستمر حتى دحر المؤامرة على الشعب ودولته الوطنية، على الحق والمصير، على الهوية والإرادة والانتماء. فالحل السياسي الذي أجمع العالم على اعتباره خياراً أوحد للأزمة في ليبيا، يسير بين مشروع وطني جامع وشامل صنع في ليبيا، ومحاولات النظام التركي عرقلته وفرض بديلها المعلب في الخارج شكلاً ومضمونا الذي يعتدي على سيادة الشعب الليبي ويصادر قراره.
البرنامج الوطني للحل الذي يجب أن يعتمد كرؤية للمرحلة الانتقالية هي اعتبار الشعب الليبي المعني الأول بالبيان على قاعدتي السيادة والقرار المستقل، أما ممارسات النظام التركي وبعض الدول الغربية ومن يسير في فلك مشيئتها بطبيعة الحال،  فلا يشي بأنها اقتنعت فعلاً بالحل السياسي نظراً لاستمرارها بسياستها القائمة على دعم الإرهاب والإرهابيين الذين يعلنون يومياً عداءهم للدولة المدنية الديمقراطية مركزة جهودها على فرض مرحلة انتقالية تتوافق مع أهدافها، تتولى المبعوثة الأممية ستيفاني ويليامز تسويقها مختارة بذلك الانحياز ضد الشعب الليبي.
خلاصة الكلام: الصورة شاملة ومعقدة التركيب، ولا يصح اجتزاؤها وتصوير شطر منها على أنه هو وحده الواقع... ليبيا اليوم بحاجة إلى حزمة من الحلول، ومن حسن الحظ أن كبار المسؤولين يجمعون على هذا، وهو كلام وإن بدا صعباً ويحمل في طياته مسؤوليات جساماً، لكنه حقيقة الاستحقاق الوطني الذي تعيشه ليبيا اليوم. لهذا فموقف القوى السياسية الليبية أحزاباً ومنظمات ونقابات وتيارات وطنية، يجب أن يكون واضحا وقويا وراسخا، هو عدم السماح بالانتقال وبالهدنة. فلا مهادنة مع العمل على تغيير الهوية الوطنية للشعب والدولة والنظام السياسي في ليبيا، وحرفها باتجاه المشروع التركي بتبعيته المطلقة للمشروع الصهيو-أطلسي، ولا تجاهل ولا تغيير ولا تنكّر لتاريخ ليبيا النضالي والمجبول بالدم وتراب الوطن، فالطريق واضحة تماماً، وكذلك الأهداف والخطط والإنجازات.

كاتب صحفي من المغرب.