الرئاسيات الأمريكية على الأبواب، وبهذه المناسبة، رأيت أن أخصص هذا المقال لهذا البلد المثير للجدل، والذي طالما كرهناه تحت تأثير الخطاب الإعلامي المهيمن، وطالما اعتبرناه مثالا للشر، بل طالما رددنا بحماس: أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا، غير أن صاحب هذا البيت، محمود درويش صدم الكثيرين حين عمل ما في وسعه للعلاج في أمريكا. فهل أخطأنا في تمثّلنا لهذا البلد؟ الجواب يحتاج إلى إلمام بالسياق التاريخي، وإلى تجرد وموضوعية.

 تنقسم الحركات التي تأسست على الشعور بالانتماء إلى أمة، أي ما يعرف في الوسط العربي بالقومية و/أو الوطنية (Nationalisme) من وجهة نظر كوهين إلى صنفين.

-  الأمم المدنية (Nations Civiques): هي ذات القومية الطوعية المتضمنة، أي القومية الغربية ذات النزعة الإرادية التي تطورت حول المحيط الأطلسي وتُمثلها سويسرا في أقصى الطرف الشرقي، فكريا استمدت زادها من إرث الرينيسانس والتنوير وقامت على مبدأ الفردية والليبيراليا من الناحيتين القانونية والسياسية. وكان ذلك بفعل بورجوازي علماني ديمقراطي حيث جنحت السياسة القومية التي تبلورت في كنفها نحو الانفتاح والدمج. فالمواطنة الأمريكية، الفرنسية، البريطانية والهولندية والسويسرية لم تنحصر في الأصل والمولد بل اتسعت لتشمل الانضمام الطوعي حيث كل متجنس في هذه البلدان يعتبر عضوا في الأمة قانونيا وأيديولوجيا. وتعتبر القومية في الغرب، باستثناء إيرلندا، ظاهرة أصلية تبلورت استنادا إلى قوى اجتماعية-سياسية محلية من دون تدخل خارجي. وقد ظهرت بصورة عامة بعدما أصبحت الدولة، المنهمكة في سيرورات الحداثة، حقيقة قائمة، أو جنبا إلى جنب مع قيامها.

- الأمم الإثنية (Nations Ethniques): أما القومية التي نشأت في وسط وشرق أوروبا (باستثناء التشيك كنموذج متميز) كانت نتاجا بتحفيز خارجي مع حملات نابليون ونشأت كحراك معارض لقيم التنوير وإرثه الفكري. هذه الهوية القومية العضوية التي نشأت بالراين وتمددت في اتجاه الشرق وضمت ألمانيا، بولندا، أوكرانيا وروسيا. ظهرت قبل نشوء الدولة الحديثة، بل بمعزل عن جهازها وبسبب ضعفها تبنت الطبقة المتوسطة هوية قومية اتسمت بالرعونة والتهيب وانعدام الثقة، الأمر الذي جعلها تعتمد على روابط الدم والأصل. والفلسفة القومية التي ازدهرت بداية القرن التاسع عشر في الأقاليم التي أنجبت ألمانيا، على أرض بولندا التي لم تكن قائمة، أو في روسيا القيصرية، كان فلسفة مطبوعة بطابع رجعي غير عقلاني. أصبحت تلك الكيانات إثنية بيولوجية أو إثنية دينية منعزلة ونابذة لكل من لم يتوفر على هذه الشروط. هذه الهوية القومية العضوية التي نشأت بالراين وتمددت في اتجاه الشرق وضمت ألمانيا، بولندا، أوكرانيا وروسيا. ويغيب على عدد كبير من المثقفين العرب، أن دولة إسرائيل والدول العربية تأسست على خلفية قومية إثنية المعادية للرؤية المدنية.

لا يعني هذا أن مجتمعات "الأمم المدنية" ونخبها كانت كلها منفتحة ومؤمنة بالقيم المدنية، كما لا يعني أن مجتمعات "الأمم الإثنية" ونخبها كانت كلها عنصرية ومعادية للقيم المدنية. فقد كانت كل أمة من الأمم التي نشأت تحتوي على نقيضها. وكان على الأمة المدنية أن تعالج بالطرق السلمية الديمقراطية رواسب الثقافة العنصرية وتعمل على تجفيف منابع ثقافة المقاومة الشوفينية. أما بخصوص الأمة الإثنية، فقد كان على دعاة الانفتاح أن يخوضوا نضالات سلمية من أجل التغيير، ومن أجل أن تبادر حكوماتهم إلى سن قوانين لا تتعارض مع حقوق الإنسان. وفعلا، فقد أثمرت جهود دعاة الانفتاح، وخرجت تلك الدول، شيئا فشيئا، من ثقافتها المنغلقة.

ولعل أبرز مثال للأمة المدنية الحديثة، هو الفيديراليا الأمريكية، التي خرجت بعد مخاض عسير من رحم الوحشية والعنصرية التي مارسها الغزاة ضد "الهنود الحمر" وضد الزنوج باسم المسيحية. وكان خطاب "سياتل" زعيم إحدى قبائل الهنود الحمر المتحالفة في الشمال الغربي من أمريكا صادما أمام إسحق ستيفنز حاكم مقاطعة واشنطن عام 1845، حين واجهه بالقول "إن ربكم ليس ربنا… إن ربكم يحب شعبكم ويكره شعبي"، وهي عبارة بليغة انتقد فيها الأيديولوجيا المسيحية التي كانت مازالت تهيمن على أغلب الساسة الأمريكيين. فالفيديراليا الأمريكية في صيغتها المدنية لم تؤسسها الأصولية المسيحية، بل الأميريكيون المؤمنون بالقيم العلمانية، وتلك الثقافة العلمانية هي التي حررت الأمة الأمريكية الناشئة وكانت وراء خيالها المبدع في كل شيء، لكن هذا لا يعني أن "الثقافة العنصرية" اختفت بلا رجعة، بل ما زالت حية، تخترق نسيج المجتمع الأمريكي بلوبياتها وشركاتها وإعلامها، تقاوم كل قيم السلم والتسامح وتستمد قوتها كل الثقافات المنغلقة التي تتقاسم معها نفس المرجعية وفي ذات الوقت تتصارع معها، بما في ذلك الأصولية الإسلامية.

الاتحاد الفيدرالي الأمريكي

تشكّل الاتحاد الفيدرالي الأمريكي من 50 دولة (State)، وكل دولة لديها:حكومة ومجلس نواب ومجلس شيوخ ودستور وعَلَم.

وكل دولة تتكون من مقاطعات (comtés)، وكل مقاطعة لديها أيضا: نواب وحاكم يتم انتخابه ودستور وقضاة دستوريون، وينوب عنها في مجلس نواب الدولة أعضاء، إضافة إلى ميزانية مستقلة ومحكمة دستورية عليا مستقلة.

كل شيء يتم بالانتخاب داخل الدولة (دولة نيويورك مثلا) من حاكم الدولة إلى شريف المقاطعة (الولاية)، وتختلف قوانين الانتخابات من دولة لأخرى، فكل دولة لها قوانينها ولا تتدخل الحكومة الفيدرالية فيها، كما أن حاكم الدولة لا يتبع رئيس البلاد (الرئيس الأمريكي).

داخل الفيديراليا الأمريكية، كل دولة تتمتع بالاستقلالية من حيث القوانين، بعض قوانين الانتخابات لحكام الدول محددة بعهدتين وبعضها متاح بدون تحديد، وعلى مستويات أخرى على سبيل المثال: (هناك الدولة التي مازالت تحكم بالإعدام، وأخرى تمنع شرب الخمر، وأخرى تسمح بتعاطي المخدرات....).

بعد استقلال الدول المتحدة عن التاج البريطاني سنة 1776، أصبح للكيان الجديد دستوره الخاص. وهو دستور ابتكره المؤسسون في ضوء تجارب الأمم على مر التاريخ، فكان مختلفا شكلا ومضمونا، وأصيلا على مستوى النسق والريجيم السياسيين.

رئيس الجمهورية، في الدستور الأمريكي، يأتي إلى الحكم عن طريق الانتخاب غير المباشر، لمدة أربعة أعوام قابلة للتجديد، وليس بواسطة الهيئة النيابية، وذلك حتى يتساوى مع الكونغرس من حيث المصداقية والشرعية (كلاهما ينتخبه الشعب).

 والانتخابات الرئاسية ذات مظهر فيدرالي، تخضع للدستور والقوانين الفيدرالية وليس للقوانين المحلية الخاصة بـ(الخمسين دولة) التي تتكون منها الفيديراليا، ومن ثم فهي انتخابات غير مباشرة – تتم على مرحلتين: محليا وفيديراليا.

تجاوز الأمريكيون منذ البداية مفهوم الدولة-الأمة، وأسسوا كيانهم على أساس كونفدرالي، وبعد عشر سنوات قادتهم التجربة إلى النموذج الفيدرالي، الذي أصبح محل استلهام السياسات حتى عصرنا الراهن. والنسق السياسي الأمريكي نموذج أصيل في الريجيم الرئاسي في العالم، منذ أن ظهر بشكله الدستوري سنة 1776 (دستور فلاديفيا)، ومنذ ذلك الحين مازال يحافظ على شكله الرئاسي إلى يومنا هذا رغم التعديلات المتتالية.

في 1776، سنة الاستقلال، اختار المؤسسون النسق الكونفيدرالي؛ لكن التجربة فشلت في تحقيق التوازن بين الحكومة المركزية والدول المُفَدرلة، فانعقد مؤتمر فيلادلفيا عام 1787، في عهدة الرئيس جورج واشنطن، وحضره مندوبون عن دول الاتحاد، وتم الاتفاق على النسق الفيدرالي ودستور جديد للبلاد.

 توزعت الصلاحيات على نحو لا يسمح لأي دولة أن تنفرد بصنع القرار، فوضع الدستور صلاحيات محددة للحكومة الفيدرالية وأخرى لحكومات الدول، وثالثة يتقاسمها الطرفان، ثم نص على أن كل ما لم يرد ذكره من صلاحيات يظل من اختصاص الدول وحكوماتها المحلية.

وعلى المستوى التشريعي، أقر الدستور حلولا وسطية للتوفيق بين مصالح الدول الكبيرة والدول الأصغر التي خشيت على مصالحها داخل الاتحاد، فتم إنشاء الهيئة التشريعية (الكونغرس): مجلس النواب، ويمثل الدول على أساس عدد السكان، ومجلس الشيوخ ويكون فيه التمثيل بالتساوي.

يبلغ عدد أعضاء مجلس النواب 435 نائبا، وهو العدد الذي تم تثبيته منذ العام 1912، يتم توزيعهم وفق عدد سكان كل دولة، يمثلون مقاطعتهم في الكونغرس لمدة سنتين. ويتم تقسيم المقاعد بين الدول الخمسين كل عشر سنوات. فيما يبلغ عدد أعضاء مجلس الشيوخ 100 عضوا (عضوان لكل دولة). العضوان يتم انتخابهما لمدة ست سنوات كحد أقصى؛ ويتم انتخاب ثلثي مقاعد مجلس الشيوخ كل سنتين.

ويتميز الريجيم الرئاسي بخاصيتين أساسيتين: الفصل بين القدرات(pouvoirs) بحيث يكون رئيس البلد (رئيس الاتحاد) هو مركز القدرة التنفيذية الفعلي، بينما تباشر ثلاث مؤسسات دستورية الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية هي (الرئاسة والكونغرس والجهاز القضائي). وإلى جانب مبدأ الفصل بين القدرات(pouvoirs) يوفر الدستور الأمريكي مبدأ ثانيا، يكمل المبدأ الأول، هو مبدأ "المراقبة والتوازن بين هذه القدرات"  بمعنى إعطاء حق المراقبة لكل قدرة على القدرات الأخرى من أجل تحقيق التوازن بينها. فعلى سبيل المثال كل قرار يعتمده البرلمان يشترط مصادقة الرئيس عليه لكي يصبح قانونا. وللرئيس حق رفض (أو نقد) أي قرار لا يتفق مع سياساته. وفى حالة رفض الرئيس أي قرار أصدره البرلمان يحق للبرلمان إلغاء اعتراض (أو نقد) الرئيس بموافقة ثلثي أعضاء كل مجلس في البرلمان (الكونغرس). وفى حالة نجاح البرلمان في إلغاء اعتراض الرئيس وجعل هذا القرار قانونا يحق للرئيس (أو أي مواطن آخر) الرجوع إلى المؤسسات القضائية لتحدي دستورية هذا القانون.

وفي النسق الفيدرالي الأمريكي، يخضع المواطنون لثلاث مستويات من الحكومات: الحكومة الفيدرالية، وحكومة الدولة، والحكومة المحلية؛ وتنقسم واجبات الحكومات المحلية بين حكومات المقاطعات/الولايات وحكومات الأقاليم.

تتكون الحكومة الفيدرالية من:

- القدرة التشريعية: الكونغرس (مجلس الشيوخ ومجلس النواب)، وفقا للدستور الأمريكي، مهمة وضع القوانين هي من اختصاص الكونغرس وحده،  فضلا عن إعلان الحروب، والموافقة على المعاهدات وإنهاء مهام أعضاء الحكومة.  

- القدرة التنفيذية: الرئيس هو القائد العام للجيش، ومن حقه اقتراح مشاريع قوانين، وتعيين مجلس الوزراء وغيرهم من الضباط الذين يديرون وينفذون السياسات والقوانين الفيدرالية. ومهمة تنفيذ القوانين هي من اختصاص القدرة التنفيذية (الرئيس) فقط.

- القدرة القضائية: تمثلها المحكمة العليا والمحاكم الفيدرالية الأخرى. ومهمة تفسير وتأويل هذه القوانين أو إسقاطها من اختصاص القدرة القضائية وخصوصا المحكمة العليا. ويتم تعيين القضاة من قبل الرئيس وموافقة مجلس الشيوخ.