إن (الدولة المدنية) من أكثر المصطلحات تناولاً ودوراناً على ألسنة الكثير من متصدري المشهد السياسي ومحللي شاشات الإعلام الجديد هذه الأيام. وهو يحتل كذلك، موقع الصدارة على حوائط منصات التواصل الاجتماعي. وقد أصبح يشكل العمود الفقري للمعركة الإعلامية الحامية الوطيس الدائرة رحاها بين الأطراف الليبية، ومحور ارتكاز الجدل والأخذ والرد المتعلق بالعملية التي أطلقها "الجيش الليبي" لدخول طرابلس. مما جعل معركة الشاشات لا تقل شراسة ولا ضراوة عما تشهده ميادين القتال من تداع وكر وفر، خاصة، وأن البعض لم يوفر جهداً في توظيف كل الأسلحة الدعائية والفكرية والسياسية والتاريخية المتاحة، بما فيها، تلك المحرمة وطنياً وأخلاقياً، في أتون هذه المعركة. كما لم يدخر عموم منظري تيار "الإسلام السياسي"، الذين روجوا أكثر من غيرهم لهذا المصطلح، جهداً في الدفاع عن إدعاء وجود "الدولة المدنية"، معتبرين أن دفاعهم المستميت هذا، نابع من إيمانهم العميق بمبادئ الديمقراطية، وسيادة حكم القانون، والتناوب السلمي على السلطة، وصون الحريات الفردية والعامة، وتعزيز حقوق الإنسان. تلك المبادئ التي يزعمون أن "ليبيا الجديدة" قد تأسست عليها وتجذرت فيها. وهذا الادعاء هو مبعث رفضهم القاطع لما أسموه "عسكرة الدولة"، ووقوفهم ضد ما اعتبروه محاولة لإعادة إنتاج أو استنساخ شمولية دكتاتورية جديدة، كتلك التي أزاحتها "ثورة فبراير" في ربيع 2011، على حد زعمهم. فهل تغير الإسلاميون بهذه البساطة، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
إن أول ما يثير دهشة المتابع، ويلقي ظلالاً من الشك والريبة في نفسه، ليس هو مجرد غرابة وشذوذ رواج مصطلح الدولة المدنية الديمقراطية ضمن مفردات قاموس الإسلام السياسي المعروفة،.بل هو أيضاً غرابة وشذوذ موقف الإسلام السياسي المستميت في الدفاع عن "الدولة المدنية"، وتناقضه كلية مع مفردات المنظومة الفكرية والفلسفية التي انبنى عليها فكره، منذ تجسده في حركة الإخوان المسلمين في مصر، وحتى قبل ذلك، في الإرهاصات والرؤى الفكرية السابقة لها. فلم تكن الدعوة للديمقراطية والمدنية مستهجنة ومكروهة وتشبهاً بالكفار فحسب، في أدبيات وخطابات الإسلامويين، بل واعتبرت ضرباُ من ضروب العلمانية، وحتى الردة والكفر. ولطالما قاتلوا مروجي هذه الأفكار واستهدفوا الدول الإسلامية المتشبهة بالأوروبيين. أما الفكرة الحقيقية التي تبنتها فلسفة الإسلام السياسي وروجت لها، وأطرت ناشطيها ودعاتها، فهي مختلفة تماماً. ومثلما قال "فوكوياما"، بـ"نهاية التاريخ" عند النموذج الديمقراطي الليبرالي الذي اعتبره نهاية المطاف، منبهراً بانتصار الرأسمالية في الحرب الباردة على خصمها الايديولوجي التاريخي، "الاتحاد السوفييتي" الماركسي الشيوعي. قال دعاة الإسلام السياسي بنهاية التاريخ عند القرن السابع، معتبرين أن النظام السياسي الذي ساد حينها هو النظام الأمثل الذي ينبغي أن يستنسخ ويسود في كل العصور. وقد لخص كثير من المؤرخين والنقاد هذا التصور. فالمفكر والناقد هاشم صالح مثلاً، قال يإن فكرة الإسلام السياسي سهلة وممتنعة. إنها تتمثل في السعي لاستجلاب أو إعادة إحياء نموذج القرن السابع الميلادي (نموذج صدر الإسلام) وإسقاطه على الحياة السياسية والاجتماعية المعاصرة. أو إحداث قطيعة معرفية وعملية مع الحاضر بكل تطوراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإرجاع الحياة والمجتمع إلى العهد الذي اصطلحوا على تسميته بـ"العهد الذهبي أو الزاهر" للإسلام، وهو حقبة الخلافة الراشدة، أو حقبة الدولة الإسلامية في القرون الأولى. وبالتالى فإن أولوية أولوياتهم هي العمل أو الجهاد لأجل إقامة الدولة الثيوقراطية. أو بالمصطلحات الرائجة لحركات الإسلام السياسي، إقامة دولة الخلافة الإسلامية الواحدة من جاكرتا إلى طنجه، تكون مرجعيتها ودستورها الشريعة الإسلامية، ويقوم نظامها السياسي على فكرة الخلافة والبيعة. فلن "يصلح حاضر هذه الأمة إلا بما صلح به ماضيها". وعلى الرغم من صعوبة الخوض في هذه القضايا، في هذا المقام، لأن الكثيرين يخلطون بين الحديث عن نظام الحكم والسياسة الخاضع للدرس والنقد، وبين الدين.المقدس الذي لا يقبل الزيادة ولا النقصان. فأن الثابت أن الدين لم يوجب اتباع شكل أو قالب معين للحكم، ولم ترد في كتاب الله إلا مبادئ سياسية عامة مثل الشورى والعدل وغيرهما. ف"الناس أدرى بأمور دنياهم". وحتى لا نتشعب ويجنح بنا الحديث عن صلب الموضوع الأساس، نعود للتأكيد على أن تحول الخطاب الإسلاموي من الترويج لقيام الدولة الثيوقراطية، إلى تبني الدفاع عن الدولة المدنية؛ "نتاج الحضارة الغربية"، وتجاهل أو التنصل من فكرة دولة الخلافة، هو أمر يكشف ويفضح أكثر مما يخفي ويستر. ولعل الفقرات القادمة كفيلة بإلقاء المزيد من الضوء على هذه الأمور المتشابكة.
ومما يسترعي الانتباه كذلك، توظيف مصطلح "مدني" في الخطاب المليشياوي كضد أو مقابل لمصطلح "عسكري"، الذي جاء على غير الشائع والمألوف في أدبيات علم السياسة والفلسفة السياسية. إذ أن المصطلح في الدائرة الأكاديمية يأتي غالباً في مقابل مصطلحات "حالة الفطرة" أو "حالة الطبيعة" أو "المرحلة الوحشية" حسبما ورد في أعمال فلاسفة من أمثال توماس هوبز وجان لوك وروسو وليفي ستراوس وغيرهم. فقد افترض هؤلاء الفلاسفة، من بين آخرين كثر، أن البشر جميعهم كانوا قد عاشوا حالة "المجتمع الطبيعي أو الفطري" قبل ظهور مؤسسة الدولة أو المجتمع المدني. وما ميز الفرد في ذلك المجتمع الفطري الأولي هو أنانيته المطلقة ورغبته الجامحة في السعي لامتلاك القوة بعد القوة. ذلك لأنه لم يعرف حينها وسيلة تشبع حاجاته وتحقق رغباته، إلا استخدام قوته والاعتماد على نفسه. ولما كانت مصالح الأفراد متضاربة ومتناقضة، فإن سعي الفرد لتحقيق مصلحته الخاصة يحتم عليه مواجهة كل الآخرين. وهذا ما دعا هوبز لوصف حالة الفطرة أو الطبيعة بـ"حرب الكل ضد الكل"، وهو ما جعل "ليفي ستراوس" يسميها "مجتمع الغاب". أما المخرج من هذه الحالة البائسة، فيكمن في الانتقال إلى "الحالة المدنية"؛ حيث تقيد حرية الفرد الفطرية بتنازله طوعاً عن جزء من سيادته لصالح ملك أو هيأة حاكمة، تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة، وتسن القانون وتعمل على إنفاذه. وهو ما تبلور واكتمل مع نضوج المفهوم الفيبري (نسبة إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر) للدولة الحديثة. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يوظف مصطلح الدولة المدنية بشكل قسري تعسفي في مقابل "عسكرة الدولة"، وهو الذي لا علاقة له بالأسس والقواعد العلمية؟ وما علاقة هذا التوظيف بالمعركة المستعرة في ليبيا منذ العام 2011، وخاصة في طورها الأخير بعد انطلاق معركة الجيش نحو طرابلس؟ سؤال آخر يضاف إلى السؤال الذي انتهت إليه الفقرة السابقة، والإجابة ستتكفل بها الفقرات القادمة.
وبالإضافة إلى ما أشير إليه فيما سق، لابد من مقدمة أخرى هامة تكمل جانباً من الصورة، وتضعنا في قلب مراد هذه المقالة. الواقع يقول إن الإخوان المسلمين، وبحلاف ما روجوا له من كونهم حركة تربوية، كانوا قد سعوا للوصول إلى السلطة منذ ولادة تنظيمهم. لكنهم لم يصلوا إلى هدفهم في أي مرحلة، ولا في أية دولة، بالشكل الذي أرادوه ورغبوا به. صحيح أنهم استطاعوا نيل الاعتراف بهم ككيانات سياسية أو كقوة أمر واقع في بعض الدول، مثل الأردن والمغرب والكويت ومصر والجزائر وغيرها. وصحيح أنهم كسبوا نتائج بعض الانتخابات، وشكلوا حكومات هنا وهناك. إلا إنهم، في كل هذه الحالات، كانوا يعملون في إطار منظومة قائمة أكبر منهم، تلزمهم بمحددات سياسية صارمة كثيرة تحد من سقف طموحهم، على الرغم من أنها كانت تمنحهم هوامش لا بأس به للمناورة والحركة. لكن بالمجمل، لم يكونوا قادرين في كل الأحوال على تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة بكل دقة وصرامة. كما أن بعض الأنظمة استغلت رغبة الإخوان الجامحة للوصول إلى السلطة ففتحت لهم الباب لتوظيفهم كأدوات لانجاز مشاريع سياسية داخلية. أو للإفادة من شبكة علاقاتهم الدولية أو من رصيدهم الشعبي المنظم. فقد مكن السادات حركة الإخوان في مصر بهدف التخلص من النهج والإرث الناصري وتصفيته وتهيئة المسرح السياسي لانقلاب دراماتيكي في السياستين الداخلية والخارجية. كما تحالف علي عبدالله صالح، مع عبدالله الأحمر وإخوان اليمن قبيل وأثناء، وحتى بعد حرب الانفصال في تسعينيات القرن المنصرم. وفي المغرب تمكن الإخوان من تشكيل حكومات لامتصاص غضبة الشارع والتضييق على القوى القومية واليسارية. ولا يشذ الوصع في الأردن وفي غيرها عن هذا السياق. ولكن بالمجمل، لم تكن هذه التجارب ناجحة في منظور حركة الإخوان، ولم ترو ظمأهم للسلطة المطلقة التي أرادوها لخدمة مشروعهم.
لم يكن هذا هو كل شيء، بل انخرط التنظيم مبكراً في ممارسة الإرهاب منذ تشكيل فرعه السري لتحقيق أهدافه السياسية. وكان كلما ضيقت الأنظمة الحاكمة الخناق وزادت القبضة الأمنية على التنظيم، كلما ازداد الإسلاميون انغماساً في العمل السري العنيف، ومارسوا الاغتيالات، وتصفية المناوئين والخصوم، وفرخوا مزيدا من التنظيمات الأكثر عنفاً. تلك التي أعلنت عدائها للنظم السياسية واستهدفت مؤسسات الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية وبعض رموز الفكر والأقليات من أصحاب الديانات الأخرى، وحتى أهل المذاهب الإسلامية المختلفة. بل وذهب بعضها لتكفير عموم المجتمعات وإعلان الحرب عليها. وفي انجاز كل هذا، اعتمدوا على توظيف خطاب تعبوي مؤسس على استغلال الدين، وهو الخطاب الذي كان يتقاطع مع مشاعر عموم الناس، ويدغدغ عواطفهم، الأمر الذي مكنهم من التغلغل في الأوساط الشعبية وبين الطبقات الفقيرة، وأكسبهم رصيداً وزخماً شعبياً لا بأس به. م المجتمعات.
وحيث أن كل هذه المحاولات والتجارب لم تف بالغرض، فقد أخضعت من قبل التنظيمات للدرس واستخلاص العبر، وبالتالي تطوير آليات مختلفة للعمل. من بينها تليين الخطاب وتملق النظم الحاكمة والتغلغل في أجسام الحكومات القائمة، كلما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. كما وظفت التأثير والضغط الخارجي على بعض الأنظمة التي لم تتمكن تلج الجماعات من النفاذ إليها بطرق أخرى. ومما سهل عليهم ذلك لجوء الكثير من قياداتهم وكوادرهم في فترات مبكرة إلى الدول الغربية، واكتساب جنسياتها، ونسج علاقات مصلحة مع دوائر صنع القرار فيها، بل وحتى الوصول إلى العمل في بعض الإدارات والترشح للبرلمانات ونيل عضويتها. كما أن الكثير من أولئك القادة وقوعوا في فخ التعامل مع أجهزة مخابرات تلك الدول التي لجئوا إليها، والتي وفرت لهم ملاذات آمنة، ومكنتهم من العمل ضد بلدانهم الأصلية، بل ووظفتهم في هذا الاتجاه، بعلمهم ورغبتهم أو بدونهما. أو لنقل، تقاطعت مصالحهم مع مصالح الدول الحاضنة لهم. الأمر الذي سيؤتي ثماره مع انطلاق موجة الربيع العربي في 2011. وهكذا استمر الحال سجالاً بين الأنظمة السياسية القائمة في المنطقة، وبين حركات الإسلام السياسي المتلهفة للوصول إلى الحكم بأي ثمن.
يرى بعض المتابعين أن موجة الربيع العربي فتحت شهية الإخوان للسلطة المطلقة وإقامة المشروع العابر للدولة الوطنية فركبوها واستغلوها بذكاء، لأنهم القوة الوحيدة المنظمة والتي كانت تعرف بالضبط ماذا تريد. لكن البعض الآخر، ومن بينهم صاحب هذه الأسطر، لا يتفق مع هذا الرأي. فالإخوان خاصة، والإسلام السياسي عامة، لم يركب موجة الربيع العربي، كما تصور البعض، بل كانوا طرفاً أساسياً في هندسة مشروع الربيع العربي بالتعاون مع "حلفائهم" أو "مشغليهم" من القوى العظمى ووكلاؤها الإقليميين. فالمشروع يخدم الأهداف الخاصة بكل الأطراف المشتركة في الإعداد له. فالدول الكبرى صاحبة مصلحة إستراتيجية في التخلص من بعض الأنظمة المشاغبة أو المناهضة أو غير المتساوقة مع المشاريع العالمية. وهي لا تخفي رغبتها في تفكيك المنطقة وإدخالها في حالة من الفراغ والفوضى، لإعادة ترتيب وضع جديد، أو "سايكس بيكو" جديدة، بما يتوافق مع رؤيتها ومصالحها. أما الأطراف الإقليمية، الهامشية في أغلبها، فهي من حهة، تصفي حساباتها مع النظم السياسية المستهدفة (الوطنية والقومية واليسارية)، التي لم تكن في أي يوم على وفاق معها. وهي من ناحية ثانية، تحمي وتحصن أنفسها من انتقال موجة الربيع إليها. وفوق هذا وذاك، ترضي القوى الدولية التي تدور في فلكها. أما حركات الإسلام السياسي، فتؤسس للحالة التي ستفضي بها ألى اعتلاء كراسي السلطة، ولو على أكوام الجماجم، ومن ثم إطلاق العنان للمشاريع السياسية الخاصة بها.
وبالانتقال من التنظر إلى ما جرى على الأرض، فقد أشعل الربيع العربي النار في كل مكان وبالنتيجة تحولت المنطقة إلى دول فاشلة واضعفت بنى الدول ودمرت الجيوش وقتل مئات الألوف وهجر الملايين، ووصل الإخوان إلى هرم السلطة في مصر، لأول، وربما لآخر مرة في التاريخ. كما وصلوا إلى السلطة ومفاصل الدولة في ليبيا وتونس، وظلوا يدمرون في سوريا واليمن. ولكن الفرق بين طريقة الوصول مختلفة.تمثل ففي مصر جاء وصولهم إلى سدة الحكم على أكتاف الشعب المصري، وبأكثر من نصف أصوات الهيأة الناخبة، وربما كان الأمر كذلك في تونس. بينما كان حصولهم على الأغلبية في المؤتمر الوطني في ليبيا لأسباب مختلفة. فقد خلا لهم الجو بتهجير وملاحقة الكثير من الليبيين، ومقاطعة الأغلبية الباقية لانتخابات 2012، فاستفرد الإخوان وأنصارهم بالساحة. بالإضافة إلى أنهم خدعوا الهيأة الناخبة في الدوائر التي لم يكونوا على ثقة من الفوز فيها، فقدموا بعض المرشحين على أنهم مستقلين ثم انضموا بعد فوزهم لكتلة الإخوان. وبعد الفوز شرعوا مباشرة في النفاذ إلى المؤسسات والبنى التحتية في هذه الدول. وكان الاهتمام الكبير منصباً على سرعة السيطرة على الدول، خاصة في مصر، على اعتبار أنها قاعدة الهرم في المشروع الإخواني. أما دور التنظيم ومهامه الملحة في الدولتين الأخريين، فتمثلت في العمل على ترسيخ أقدامهم في دولهم أولاً، مع عدم إغفال دورهم المساعد في توطيد أركان سلطة التنظيم في البلد الأم مصر بكل السيل. والمثال على ذاك، ما بذلته حركة حماس من جهود وتلاعب بالأمن القومي المصري، والدور المشبوه لدويلة قطر، وتقديم حكومة المؤتمر الوطني في ليبيا آنذاك، لألفي مليون دولار كهبة لتوطيد أركان حكومة مرسي. وكانت الأمور سائرة بأقصى سرعة في الاتجاه الذي يريدون.
لكن انتكاسة مشروع السيطرة الإخواني، بدأت بالفعل مع استيقاظ الشعب المصري للمؤامرة، وهبته القوية رفضاً لأخونة الدولة في ثورة 25 مايو. وتفطن الليبيين الذين صوتوا للإخوان في 2012 وسحي البساط من تحت أرجلهم في انتخابات 2014، على الرغم من ضعف الإقبال عليها. وانكشاف أجندة حركة النهضة في تونس، وانفضاض أغلبية التونسيين عنها، وبلورة تيار نخبوي مضاد لها من اليساؤيين والاتحاد التونسي للشغل الأمر الذي أربك برامجها. وينبغي التذكير هنا بأن استجابة الجيش المصري لمطالب الشعب وانقضاضه على أوكار تنظيم الإخوان حفظ لمصر هيبتها وسيادتها ووحدتها، وأفسل محاولة التنظيم الخطرة لاسقاط الدولة. لكن هذا الأمر لم يكن ممكناً في ليبيا. إذ كان الناتو قد دمر العمود الفقري للجيش الليبي، ومكن المجاميع الإرهابية والإخوانية والجهوية المتحالفة معهما من الاستيلاء على ما تبقى من قدراته وإمكانياته، وتشكلت قوة الدروع بسرعة فائقة على أنقاضه، لتكون بديلاً ميليشياوياً له. وتكفلت المليشيات بالباقي، فقتلت وسجنت وهجرت ضباطه وكوادره وخبراؤه. أما في تونس، فعلى الرغم من الإغتيالات التي طالت رموز مقاومة المشروع الإخواني مثل الزعيم العمالي الراهمي، إلا إن السيي الأهم لعدم قدرة التهضة من الاستيلاء على الدولة فتعود بالأساس لتماسك الجيش ووحدته، وقوة وفطنة الأجهزة الأمنية، مع عدم التقليل من وعي الشعب التونسي وافتقاد التنظيم لقواعد جماهيرية حقيقية. ربما هذا ما يفسر لنا سر كراهية الإخوان للجيوش والأجهزة الأمنية. ولا ننسي إسقاط الشعب السوداني لنظام الإخوان في السودان.
إذن لم يعد من بصيص أمل لبقاء المشروع الإخواني على قيد الحياة، إلا في ليبيا. وهي تمتلك كل الأسباب الت تؤهلها لأن تكون قاعدة لانطلاق المشروع من جديد. ففي ليبيا يتوافر الغطاء السياسي من خلال مؤسسات الدولة التي يسيطر عليها الإخوان. وتتوافر الإمكانيات المادية اللازمة للإنفاق على كل مراحل المشروع. كما أن ليبيا تتمتع بموقع إستراتيجي يسهل، إذا ما تمكن الإسلاميون من البلاد، أن يكونوا شوكة في خاصرة مصر والجزائر خاصة، ويحقق التواصل والتنسيق بين المجموعات الإرهابية في البلدين. والأمر ينطبق كذلك على بقية الدول المجاورة عامة، وحتى على دول شمال حوض المتوسط. إقليم ليبيا الشاسع وقلة عدد سكانها يسمحان باتخاذه قاعد ومنطلق لاستجلاب الإرهابيين وتدريبهم وإخفائهم، ومن ثم توجيههم إلى حيث يريدون. ومما يزيد من أهمية ليبيا في المشروع الإخواني هو أن الإخوان كانوا قد نجحوا في الالتفاف على مجلس النواب وشاركوه السلطة عن طريق الاتفاق السياسي (اتفاق الصخيرات)، ثم ما لبثوا أن احتكروا كامل السلطة بعد تشكيل حكومة الوفاق والمجلس الرئاسي. وهذا ما يفسر استماتة الإخوان في مقاومة مشروع الجيش في دخول العاصمة وتحريرها. ووقوف الدولة الإخوانية الأم الباقية تركيا بكل إمكانياتها السياسية والعسكرية في صف المليشيات المؤدلجة.
ولنعود الآن إلى ربط بعض القضايا المتفرقة التي تمت الإشارة إليها في الفقرات السابقة ووضعها في السياق العام المراد تفسيره لتقديم إجابات للأسئلة التي طرحت فيما سبق. وأول هذه المسائل هو علة اختيار مصطلح "الدولة المدنية" كأيقونة في حرب دفاع الميليشيات عن العاصمة. من الواضح أن تيار الإسلام السياسي كان قد اختار مصطلح "مدني" بعناية فائقة، ووظف موصوفاته المختلفة مثل الدولة والحكومة والمجتمع ...ألخ، بمهارة وخبث تامين في الخطاب السياسي والإعلامي المتداول. وقد تلقف محللو ومعلقو هذا التيار الذين تغص بهم غرف البث المباشر في محطات التلفزة المؤدلجة هذه المصطلحات وأجهدوا أنفسهم في الترويج لها، كـ"تقية" أو تعمية لضمان تحقيق أهداف "إسلاموية" إستراتيجية. وبكلمات أخرى، فإن قادة الإسلام السياسي لم يقدموا أنفسهم كحماة ومدافعين عن المدنية، وحراس للديمقراطية، إلا لأن ذلك يلاقي ـ حسب اعتقادهم ـ قبولاً في الأوساط والدوائر المؤثرة في دهاليز السياسة الدولية، الأمر الذي يأملون أن يوفر لهم الدعم المطلوب للبقاء في السلطة من جهة، ويضمن لهم الرضا والمباركة، أو على الأقل، عدم التنغيص، من جهة أخرى. وهو بالتالي، يحقق لهم أهم أهدافهم الإستراتيجية المتمثل في تشكيل رأي عام عالمي مضاد لـ"مؤسسة الجيش"، ويسهل تأليب الفواعل الدوليين عليها، بزعم أنها ليست إلا رافعة سياسية للخصوم (أعداء القيم المدنية والديمقراطية كما يروجون). وذلك لأن الجيش، كما سبق وأشير، هو القوة الوحيدة القادرة على فرملة مشروعهم السياسي ومنعهم من الاستمرار فيه. والواقع أن عرقلة قيام الجيش بدوره يوفر لهم الوقت الذي هم فيه في أمس الحاجة إليه، ليتمكنوا من ترسيخ أقدامهم، ومن ثم يشرعون في التكشير عن نواياهم الحقيقية. وهم بهذا يستخدمون نفس التكتيك الذي استخدمه حزب أردوغان في تركيا. ألا وهو القبول بالمدخل الديمقراطي المتاح (اللعبة الديمقراطية) في مرحلة التمكين، ثم السيطرة على مفاصل الدولة والتغلغل فيها. فقد وصل الإخوان إلى السلطة في تركيا بالآلية الديمقراطية المتاحة، وعندما استقر لهم الأمر قلبوا ظهر المجن ونكثوا بكل الوعود والعهود. فزجوا بالآلاف من المدنيين والعسكريين في السجون. وطردوا الآلاف من القضاة والضباط وأساتذة الجامعات والموظفين من وظائفهم بدعاوى واهية. وغيروا بنية النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي لضمان مزيد من السيطرة. ومن "صفر" مشاكل مع الجيران، كما كانوا يسوقون في المرحلة الأولى، تحولوا إلى مائة بالمائة مشاكل؛ فأشعلوا النار في سوريا وليبيا ونقلوا جنودهم إلى قطر ولأحدى الجزر السودانية، وعادوا مصر وتونس والجزائر والسعودية والإمارات والعراق وقبرص، بل وأغلب أوروبا، وروسيا قبل أن يعودوا لتطبع العلاقات معها. لم يحتفظوا بعلاقات حميمية إلا مع إسرائيل وقطر.
إذن يمكن القول إن هذا التمترس وراء مصطلح "الدولة المدنية"، ما هو إلا محاولة لشرعنة استماتة ميليشيات الإسلام السياسي في الدفاع عن مكتسباتها، وآخر معاقل مشروعها السياسي الذي لا علاقة له على الإطلاق، بقيام أي شكل من أشكال الدولة المعروفة في علم السياسة الحديث. إن هذا يأتي كذلك في إطار نزع الشرعية عن قوات الجيش الليبي التي أعلنت أن هدف تحركها هو تجريد الميليشيات من أسلحتها والقضاء على المجاميع الإرهابية وتهيئة الظروف المناسبة لجلوس الليبيين على طاولة الحوار لرسم مستقبل بلادهم بحرية. يجري هذا التحرك لتحرير العاصمة بعد أن أفشلت الميليشيات كل المحاولات السياسية التي جرت طيلة السنوات الماضية، والتي كانت ترمي للوصول إلى توافق سياسي بين كل الأطراف يضمن الشروع في إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتحريك عجلة البناء والإعمار. والمثير للدهشة أن أولئك الذين يحاولون بكل السبل نزع الشرعية عن المؤسسة العسكرية، تناسوا أنها تستمد شرعيتها من شرعية مجلس النواب الليبي. كما تناسوا أن حكومة الدولة المدنية المزعومة التي يدافعون عنها، علاوة على كونها مفروضة خارجياً وجاءت على ظهر فرقاطة إيطالية، فهي لم تتمكن من نيل ثقة البرلمان الشرعي. وبذلك فلا يمكن اعتبارها شرعية ولا ديمقراطية، وليست إلا حكومة أمر واقع. إن الاستناد على الاعتراف الخارجي بحكومة الدولة كأساس لشرعيتها لا قيمة قانونية وأخلاقية له، إلا إذا انبنى على اعتراف وقبول شعبي ومؤسسي داخلي.
وعلى صلة بهذا الذي ذكر، هل يمكن الحديث عن حقيقة قيام دولة مدنية بالأساس في ليبيا منذ العام 2011،ً حتى يدعي طرف سياسي تكريس نفسه للدفاع عن وجودها المهدد؟ أم أن العكس هو الصحيح، إذ بسقوط الدولة عام 2011 انتهت الحالة المدنية في ليبيا، وعدنا من جديد إلى مجتمع الغاب وحالة الفطرة الأولى؟ واقع الأمر، إنه وعلى الرغم مما يسوقه المدافعون عن وجود هذه الدولة المدنية؛ الكاملة الطور والأركان بإعلان دستوري، ومؤتمر "وطني" أو "برلمان" منتخب، وحكومة (بربطات عنق وبدل أنيقة ومهايا ومزايا كبيرة)، ومؤسسات مدنية، وقرارات وبروتكولات. إلا أن الممارسة وواقع الحال، لا يوافقان المقال. بل يميطان اللثام عن حقيقة، أن إدعاء صفة المدنية للدولة القائمة، ليس إلا فرية وكذبة كبيرة، مثله مثل كل الدعاوى المزورة والباطلة التي قدمت للرأي العام إبان العام 2011، بغية شرعنة إسقاط النظام السياسي، والسيطرة على الدولة، وافتكاكها من أهلها، وتدشين شمولية جديدة في ثوب ديمقراطي مزيف، لا يصعب تصنيف مرجعيتها الأيديولوجية. والدليل على ذلك، المآل المأساوي الذي آلت إليه الأوضاع في البلاد منذ لحظات السقوط الأولى. ويعلم القاصي والداني أن مبادئ المدنية لم تر النور في هذه الدولة الوليدة. فمنذ البدء شرع القادمون في تدشين بناء مؤسسى عصابي بديل لمؤسسات الدولة التقليدية، بغية فرض الأمر الواقع والسيطرة والهيمنة والانتقام. الأمر الذي لم يترك رطباً ولا يابساً ‘لا أصابه، ولم ينجو من شره بشر ولا حجر. وأمثلته الأولية الأكثر حضوراً في المشهد؛ اللجان الأمنية والمجالس العسكرية واتحادات الثوار والدروع (البديلً الثوري لمؤسسات الجيش والشرطة والقضاء)، وهي التي أذاقت الناس سوء العذاب. وأدت ممارساتها الإرهابية إلى قتل وتعذيب الآلاف، وتهجير قرابة نصف السكان أو يزيد، واستباحة أملاكهم وأرزاقهم. حينها كان يجري الاحتكام لقانون القوة والغلبة، لا لقوة القانون والعدالة، اللذان تضمنهما الدولة المدنية لرعاياها ومواطنيها. وعلى العكس تماماً مما يتطلبه قيام الدولة المدنية من وجود لبيئة سلام ووئام واستقرار اجتماعي ومجتمعي، تم الشروع مبكراً في تدمير ممنهج للنسيج الاجتماعي، من خلال زرع الفتن وإحياء النعرات القبلية والجهوية. كما تم غزو بعض المدن التي صنفت مدناً مارقة ودمرت وهجر أهلها. وقالوا بوجود مدن منتصرة، وأخرى مهزومة لا يجوز لها المشاركة فيما يتعلق بإعادة يناء الدولة. كما تم عزل الجزء الأكبر من الشعب، ومنعه من ممارسة أي دور في السياسة أو الإدارة وغيرهما، وحرمانه من التمتع بأية حقوق. وأسيئ إلى اللنسيج المجتمعي الليبي أيما إساءة، حينما قامت أطراف تابعة لميليشيات الإسلام السياسي بتسهيل تجنيس أعداد غير معلومة من العرب والأفارقة بطرق غير قانونية، على أسس أيديولوجية أو برغماتية. وقد قدرت بعض المصادر أعداد أولئك المجنسين بأكثر من مليون نسمة. وفي هذه الدولة، تمايز المواطنون إلى درجات: مواطنون من الدرجة الأولى، وهم الأقلية غير الخاضعة للقانون، وصاحبة الأمر والنهي، المتمتعة بكل المزايا والإمكانيات، والمحتكرة كل الوظائف السيادية والإدارية في (بقايا الدولة). والأغلبية الباقية التابعة، وهم الذين اعتبروا مجرد سكان لا يتمتعون بكافة الحقوق؛ يهانون في الصباح والمساء، ويسامون الخسف كل الخسف على أيدي مليشيات الدولة المدنية. وليس لهم إبداء أي رأي فيما يتعلق بمصير بلادهم ومستقبل أجيالهم، ولكي يأمنوا شر الدولة الميليشياوية المدنية، فليس أمامهم إلا الصمت أو المباركة أو السجون أوالقبور والمنافي. كما أن المليشيات المحصنة من العقاب في هذه الدولة المدنية المزعومة لم تتوقف عن اختطاف الناس على الهوية، وقتل من لا يروق لهم ورمى جثتهم في مكبات القمامة. وفيها تعج السجون بآلاف الرجال والنساء دون توجيه تهم وبلا مسوغات قانونية، ولمدد تجاوزت السبع والثمان سنين. وتحولت المدارس التي شيدها "النظام الدكتاتوري"، إلى سجون وسلخانات بشرية تنتهك فيها أعراض الرجال، ناهيك عن النساء. وفي هذه الدولة يبلغ الفساد مبلغه، فتنهب وتهرب ثروات الشعب. حتى وصلت الدولة إلى حافة الإفلاس، ووصل الشعب إلى ما دون مستوى خط الفقر. واختفت الطبقة الوسطى، وتركزت الثروة الوطنية في جيوب فئة صغيرة وافدة من المهاجر والمنافي. وسيطرت مجموعات إجرامية ومؤدلجة على مؤسسات الدولة الاقتصادية والخدمية، وجيرتها لخدمة مصالحها ومصالح مشغليها. وأصبحت بذلك الدولة المدنية المزعومة، دولة فاشلة وفاسدة تتبوأ المراتب الدنيا في قوائم مؤشرات المنظمات العالمية. وبالنتيجة، فقد تم تفكيك الدولة الليبية وتحويلها إلى مجموعة من الكانتونات ومناطق النفوذ التي تتقاسم السيطرة عليها الميليشيات الأيديولوجية والجهوية، وتسود فيها شريعة الغاب وقانون القوة. بالمحصلة أصبح الكلام عن وجود أي شكل من أشكال الدولة، مفهوم ليس له ما صدق، وفقد أغلب الليبيين الشعور بأي معنى للمواطنة والانتماء.
وتأسيساً على كل ما ذكر، والكثير غيره مما لم يذكر، كيف يمكن لأولئك الراغبين في استمرارية أوضاع الفوضى الراهنة التي تخدم ديمومة مصالحهم وامتيازاتهم، أن يدافعوا عن شرعية وجود الدولة المدنية المزعومة، مالم يوظفوا "بعبعاً" يمكن من خلال التركيز عليه، إلهاء الرأي العام وتزوير وعيه وحرف انتباهه للزاوية التي يريدون حصره فيها؟ إن هذا يفسر لنا لماذا كان تركيزهم ـ منذ البدء ـ منصباً على اعتبار أن أنصار النظام السابق أعداء للدولة المدنية المزعومة. وأخيراً دعوى "عسكرة الدولة" وتقديمها كخصم مدمر لبقاء تلك الدولة الفرية. وتصوير قدوم الجيش إلى طرابلس على أنه شروع في إقامة نظام حكم عسكري سيأتي على ما أسموه بالانجازات التي حققتها "ثورة فبراير". لقد كان هذا الزعم والخطاب، كما سبقت الإشارة، موجهاً في الأساس إلى الفاعلين في المجتمع الدولي بغية استدرار تعاطفهم وضمان دعمهم على اعتبار أنهم دعاة "الدمقرطة"؛ والحريصون على إنجاحها في دول موجة الربيع. ولكن حين خاب ظنهم وفشل مسعاهم، ولم يُلق أحدٌ في مجتمع الدول الفاعلة بالاً لهذه المزاعم والدعاوى، بل وأظهر كثير منهم مباركته العلنية أو الضمنية لما يقوم به الجيش في طرابلس. أعاد مهندسو هذا الخطاب توجيهه إلى الداخل، ولكن في هذه المرة مدعماً ببعض سليطي اللسان، أدعياء الوطنية، ممن لم يتورعوا عن الخوض في أي شيء مهما كان محرما، واللعب على أي وتر مادام يحقق مرادهم ومأربهم في عرقلة مشروع المؤسسة العسكرية القاضي بافتكاك الدولة من بين أنياب المليشيات ومخالب الإرهاب. فالغاية عند هؤلاء تبرر الوسيلة أياً كانت. لكن الكثير ممن انطلت عليهم أكاذيب تسويق "الربيع الديمقراطي" في عام 2011، من الليبيين، لن تنطلي عليهم ادعاءات الدفاع عن الدولة المدنية في عام 2019. فهم اليوم على يقين تام بأن الذين يقاتلون الجيش على مشارف العاصمة، إنما يدافعون عن مناصبهم وأموالهم وامتيازاتهم واعتماداتهم، وفوق هذا يدافعون عن تنظيماتهم وأدلوجاتهم ومصالح مشغليهم. لم يعد أحد من الليبيين يشك اليوم في أن دولة الأمر الواقع القائمة، هي دولة فاشلة يسيطر على مفاصلها ائتلاف مليشياوي جهوي وقبلي ومن المجرمين وخريجي السجون. وغالبية الليبيين ليسوا سعداء بهذه التجربة المريرة على الإطلاق، ولم يعد موجوداً بينهم من يرغب في استمرارية هذا الحال، ناهيك عمن يدافع عنه ويموت في سبيله. فإذا ما كانت "الدولة المدنية" المزعومة هي نفسها التي أحدثت، بأذرعها الميليشياوية، المعجزة وأعادت دولاب الزمن قروناً إلى الوراء ليجد الليبيون أنفسهم يعيشون من جديد حالة الطبيعة والفطرة الأولى ومجتمع الغاب في بواكير القرن الحادي والعشرين؛ تلك الحالة التي تجاوزتها البشرية والتي تأسست على أنقاضها المجتمعات الجديثة. فما هي آفاق الخروج من هكذا مأزق؟ وكيف يمكن معالجة الأزمة ومداواة آثارها؟ إن في حقيقة الأمر ليس لهذا المقال القصير أن يدعي قدرته التامة على تقديم إجابات وافية وشافية لهذين السؤالين. لكنه يحاول تقديم مقاربة للتفكير والبحث عن أرضية صلبة ينطلق منها الجميع لبلورة رؤية مشتركة كفيلة بتقديم الإجابات المطلوبة. ولنبدأ من حيث أنتهى الحديث في الفقرة السابقة، إذ ليس صحيحا أن ما ينقص الليبيين بعد هذه السنين العجاف، هو مجرد قيام "دولة مدنية". كما أن الدولة المدنية (المنشودة) ليست هي الوصفة السحرية الكفيلة بمداواة كل علل وجراح الليبيين، ولا هي القادرة إعادة ترقيع لحمتهم الوطنية المتهتكة، وتوطيد أركان السلم الاجتماعي المفقود بينهم. فالمعروف جيداً للجميع أن النموذج الأول الدولة الحديثة (الدولة القومية Nation-State)، هي منتج سياسي وقانوني وحضاري غربي، نشأ وتطور استجابة لحاجات مجتمعية سياسية واقتصادية واجتماعية في البيئة الأوروبية. ثم انتشر إلى باقي العالم. واسوردته دولنا كما استورده الآخرون. وتم تكييفه بشكل أو بآخر، على الرغم من كل التشوهات، ليفي بالحاجات المجتمعية. أما النموذج الأحدث "الدولة المدنية"، فهو شكل سياسي نما وتطور استجابة لمستجدات فرضتا نهاية الحرب الباردة وثورة المعلومات والاتصالات والعولمة وولوج الغرب إلى حقبة ما بعد الحداثة. هذه التطورات التي تشكل تحديات كبيرة لمجتمعاتنا، ربما لسنا قادرين على الولوج إاليها بهذا الضعف والتفكك. فهذا النموذج للدولة، يعني فتح الباب على مصراعيه للآخر، ويتطلب إزالة الحواجز بين الداخلي والخارجي، ولأننا دول هشة سنفقد الهوية ناهيك عن الاستقلال والسيادة. وبالتالي فقد لا بتأتي اقتطاع هكذا تجربة من سياقاتها التاريخية وبيئتها وتطبيقها بحرفيتها في مجتمعاتنا العربية خاصة، والعالم ثالثية عامة. ومن هنا يصعب الادعاء بإمكانية قيام (دولة مدنية) قفزاً في الهواء على جميع المراحل التاريخية التي مرت بها مؤسسة الدولة في الغرب حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.
ولأن متسيدي المشهد الليبي اليوم، اعتبروا أن ليبيا لم تعرف أي شكل من أشكال الدولة خلال العقود السابقة، وطرحوا، بالتالي، من اهتمامهم أي بحث أو إفادة من كل الزخم والمحاولات الجادة التي استهدفت بناء دولة ليبية (عربية إسلامية أفريقية) من ناحية. ومن ناحية أخرى، لا يوجد أي مثال يحتذى في المنطقة أو خارجها يطابق واقعه الثقافي والاجتماعي والمعيشي، الواقع الليبي يمكن الإفادة من تجربته في إقامة أو بناء الدولة المدنية المنشودة. فلا مناص من العودة إلى مراحل أبكر يمكن الإفادة منها والبناء عليها، وبالتحديد إلى مصطلح (الدولة الوطنية) ومرحلتها التاريخية. فالليبيون اليوم ليسوا بمعرض الحاجة الملحة للحديث عن شكل أو ماهية الحكم مدنياً كان أم عسكرياً، بقدر ما هم بأمس الحاجة للحديث عن دولة (وطن). فلكي تنشغل بشكل الحكم، لابد أولاً أن تكون مواطناً كامل الأهلية. ولكن لماذا ينبغي الانشغال بقيام الدولة الوطنية وليست المدنية؟ وللفهم لابد من العودة إلى مؤتمر الصلح في (وستفاليا 1648). لأن هناك بعض تشابه بين الظروف التي قادت إلى مؤتمر الصلح حينها، وما نمر به نحن اليوم في ليبيا. فالمؤتمر جاء لإنهاء حرب الثلاثين سنة (ونأمل ألا يستمر الاحتراب الليبي ثلاثين سنة)، التي دارت رحاها بين الكاثوليك والبروتستانت، وحصدت أرواح نصف الألمان وغيرهم مما لا يحصى من الأوروبيين، ومن لم يمت في الحرب مات بالطاعون الأسود الذي عصف بأوروبا آنذاك. ونحن انخرطنا في قتال عنيف منذ العام 2011، وبعيداً عن الخوض في الأسباب والمسببات، نكاد اليوم نفني بعضنا بعضاً، ومن لم يمت برصاص الحرب، مات بفعل الجريمة المنظمة، أو بفعل الأورام السرطانية الخبيثة نتيجة اليورانيوم الذي قصفنا به حلف الناتو، أو بفعل الدواء والغذاء والشراب الملوث وغير الخاضع لأية رقابة. ناهيك عن آلاف المبتورين والمعاقين والمرضى النفسانيين والمدمنين والأيتام والأرامل. وفي حرب الثلاثين سنة دمر وسط أوروبا والأراضي الألمانية بشكل مريع. كما هو الحال في حربنا، فقد دمرنا كل شيء، مدناً بأكملها بدءاً بتاورغاء وانتهاءً بمرزق، مروراً بسرت وبن وليد وسبها والشقيقة والقواليش ومزدة وورشفانه وبنغاوي ودرنة وأخيراً طرابلس وغيرها. دمرنا المشاريع الزراعية واعتدينا على الأرض الزراعية، وقطعنا أشجار الغابات ومصدات الرياح. دمرنا محطات الكهرباء وأسلاك حطوط نقل الطاقة. دمرنا المطارات وأحرقنا عشرات الطائرات الحديثة. دمرنا أنابيب مشروع الحياة، مشروع النهر الصناعي العظيم وعطلنا آباره وخزاناته ومحطاته. دمرنا الطرق والمواني. ناهيك عن تدمير بنية المؤسسات وتفريغها من كوادرها وتسليمها لغير القادرين واللصوص ابتداء من شركة المياه والصرف الصحي وصولاً إلى المصرف المركزي والمؤسسات النفطية والاستثمارية. ومثلما أدت حرب الثلاثين سنة إلى هجرة الأوروبيين وتغيير الديمقرافيا، أدت حروبنا إلى تهجير وهجرة الليبيين، فهاجرت الكفاءات والقدرات العلمية في كل المجالات إلى الدول الأوروبية ودول الخليج، ناهيك عمن هاجروا إلى دول الجوار الذين في أغلبهم من كفاءات سياسية وأمنية وعسكرية وغيرها. ومن المهم أن نشير إلى أن المجتمعين في وستفاليا كانوا لا يريدون العودة للانضواء تحت عباءة الدولة الإمبراطورية التي كانت سائدة قبل الحرب، وهذا يتوافق مع ما يبديه متسيدي المشهد السياسي القائم اليوم من عدم اعترافهم بكل البناءات السياسية في حقبة ما قبل فبراير. ليس هذا كل شيء، لكنه كاف في هذا المقام للتدليل على بعض التشابهات بين الظرفين التاريخيين.
إن اتفاقية وستفاليا تمخض عنها مجرد ولادة الدولة الوطنية التي احتاجت لبعض الوقت لكي تتجذر وتصل إلى ما وصلت إليه. الدولة الوطنية (Nation-State) التي ربما ترجمت ونقلت خطأً إلى (الدولة القومية) وشاع استخدامها في أدبيات السياسية العربية، بدلاً من الدولة الوطنية. لأنه وببساطة، وكما يجادل الكثير من فقهاء العلوم السياسية، لا توجد في العالم دولة قومية نقية بالمعنى الإثني العرقي. لكن لكل دولة أقلياتها المختلفة العرقية والثقافية. وبالتالي، لا يشترط للدولة الوطنية أن تكون دولة قومية نقية، بل هي دولة لكل أهلها بغض النظر عن اختلافاتهم وتبايناتهم. إذن، الأصح أن يترجم المصطلح للدولة الوطنية، لأنه يفترض فيها أن تكون دولة وطن لكل سكانها. على عكس الدولة القومية التي يفترض أن تكون دولة لأمة أو قومية واحدة، كما يستشف من التسمية.
وقياساً على هذا وتماشياً معه، ولأن الدولة الوطنية، كما أقر في وستفاليا، دولة وطن لكل أهلها تؤسس لمبدأ المواطنة ـ وعلى الرغم من أن المبدأ لم يترسخ تماماً إلا في حقب تالية، ألا أن لإقراره حينها أهميته القصوى في مسيرة بناء الدولة الحديثة ـ ولأن هذا المبدأ يرتب على الدولة كما على الفرد حقوقاً وواجبات متبادلة تجاه بعضهما البعض. فإن أولى أولويات الليبيين اليوم هو حاجتهم إلى قيام دولة وطنية، لا مجال فيها للتمييز بينهم على أساس سياسي أو اجتماعي أو ثقافي تحت أي مسوغ. دولة لا تراهم مجرد سكان أو مقيمين، أشبه ما يكونون بالعمال الأجانب أو المهاجرين غير القانونيين الذين تطاردهم السلطات وتعمل لهم الكمائن وتودعهم السجون والمعتقلات وقتما تظفر بهم. بل تعترف لهم بحقوقهم كأصحاب أرض وأهل وطن، وتمكن كل منهم من المشاركة في خدمة بلاده وفقاً لقدراته ورغباته. إن هذا الحق لم تعترف به الدولة المدنية المزعومة، ولم تضمنه لمواطنيها، كما سبق وأشير. والأمل معقود على أن يتحقق هذا في الدولة الوطنية المأمول قيامها.
قبل مؤتمر وستفاليا، لم تكن دويلات الأمر الواقع القزمية (دولة المانور أو الدولة الضيعة) التي تشكلت نتيجة تشظي وضعف سلطة الإمبراطورية الرومانية في روما، تتمتع بأي سيادة. إذ كان الإمبراطور الروماني الأعطم يحتكر السلطة السياسية، بينما تتركز السلطة الدينية أو الروحية في يد قداسة البابا. وعلى الرغم من كل محاولات الملوك والأمراء والدوقات التصرف بممالكهم ودولهم باستقلالية، إلا أن النجاح لم يكن حليفهم. فقد كانوا واقعياً مجرد أدوات للسلطة المركزية. اليوم الحال في ليبيا أشبه ما يكون بذلك الحال. فمتسيدي المشهد السياسي ليسوا أكثر من أدوات للغير. فروما (كرمزية) اليوم تتحكم في كل المشهد الليبي بشكل مباشر وفج؛ ويمارس الأجانب الوصاية على كل المؤسسات السيادية (الحكومة، النفط، المال والاقتصاد، السياسة، الأمن ...الخ)، ويجيرونها لخدمة أهدافهم ومصالحهم. ولا يتوقف الأمر عند هذا، بل ينخرط الليبيون في حروب مدمرة ويقاتلون بعضهم نيابة عن الآخرين فوق الأرص الليبية. وانتهكت حرمة الأرض والسماء والمياه الإقليمية الليبية. كما أصبحت الأرض الليبية ملعباً لكل أجهزة المخابرات العالمية التي توظف كل الأدوات حتى المكشوف منها مثل منظمات المجتمع المدني العالمية التي إن لم تكن واجهات لأجهزة إستخبارية أجنبية، فلا أقل من أن تكون مخترقة من قبل تلك الأجهزة. وهي توظف الكثير من الليبيين في جمع المعلومات والوصول إلى أماكن، ربما لا يمكن لها الوصول إليها من دونهم، مقابل دراهم معدودات للأسف الشديد. وذلك لخدمة مخططات استعمارية تبدأ من السيطرة على موارد الدولة ولا تنتهي بالتقسيم، بل ربما تتعداه إلى التهجير أو الترانسفير، وإحلال شعب آخر مكان الشعب الليبي. هذا لا يخرق سيادة البلد فحسب، بل ويشكل تهديداً وجودياً لها، بدأت فصوله تتكشف في الجنوب الغربي والحبل على الجرار. وهذا ما لا يقع ضمن دائرة اهتمام الدولة المدنية القائمة، مع إنها مسؤولة، في أغلب الأحوال، عن تناميه وانتشاره. ولأن وستفاليا أقرت مبدأ السيادة واعترفت لكل دولة قائمة بسلطتها المطلقة في إقليمها (دينية وسياسية)، وقطعت الطريق، ولو قانونياً على روما وتدخلاتها. فالليبيون اليوم في أمس الحاجة لقيام الدولة الوطنية التي تفتك سيادتها لأفتكاكاً من روما وأدواتها الإقليمية. وهذا لن يتأتى إلا بإرادة أبنائها المخلصين. والليبيون كذلك في أمس الحاجة لأن يعيدوا القرار السيادي لينبع من إرادتهم الوطنية، ومن داخل حدودهم حتى يلبي مصلحة بلادهم وأجيالهم، ولا يستمر مكرساً لخدمة مصالح الآخرين. والليبيون محتاجون كذلك لقطع خطوط الخضوع والتبعية للغير، وتدشين خطوط الندية التي تضمن للوطن وأهله كرامتهم التي لطخت بالوحل، طيلة سني الجمر والعذاب. ولكن حتى إذا ما قال قائل بإن مبدأ السيادة الذي أقر في وستفاليا تجسد بادئ الأمر في شخص الحاكم في عصر الملكيات الاستبدادية، وتلخص هذا مقولة ملك فرنسا لويس الرابع عشر: "أنا الدولة والدولة أنا"، وأن الأمر احتاج لوقت طويل لتصبح السيادة كامنة في الشعب وليس في شخص الحاكم، وذلك بعد انتصار الثورتين الفرنسية والأمريكية. فأغلب الظن أن الليبيين، وبعد كل ما قاسوه من أهوال، لن يبالوا فيمن تتجسد السيادة، إذا ما تجسدت. المهم عندهم في المقام الأول أن يتخلصوا من الوضع المؤلم والكارثي الذي يعيشونه. لأن أي وضع قادم بالتأكيد لن يكون أكثر سوءاً من سنوات الألم والموت. وفي النهاية ليس لهم خيار إلا العمل على تغيير الوضع الراهن والتعامل وفقاً للظروف التي يمليها الوضع الجديد.
وعلى علاقة وثيقة بتأكيد مبدأ السيادة تأتي أولوية أن يتشكل في الدولة الوطنية جيش وطني قوامه أبناء الشعب وليس المرتزقة أو المأجورين. تكون مهمته حماية إقليم الدولة ومقدراتها وتأمين حدودها وتجسيد سيادتها. وهذا ما تضطلع به نواة الجيش الذي أعيد تشكيله في السنوات القليلة الماضية، والذي هزم المجاميع الإرهابية في بنغازي ودرنه، وحرر الهلال النفطي، ويسعى لتأمين الجنوب، ويقاتل اليوه في طرابلس لاستهادتها لأهلها وطرد المليشيات منها. إن السيادة لا يمكن تحقيقها ولا صيانتها من غير جيش وأجهوة أمنية قوية. ولذلك فلا ملجأ أمام لليبيين لحماية وطنهم والحفاظ على سلامة أراضيهم إلا بدعم الجيش والانخراط في صفوفه، حتى لا يأتي يوم يجدون أنفسهم مثل الهنود الحمر أو أمة الغجر. .
ومثلما فتحت وستفاليا الطريق لقيام الدولة الوطنية، وتبلور نظرية فصل السلطات، والشروع في ترسيخ منظومة ديمقراطية، وبناء مؤسسي يضمن قيان دولة متكاملة الأركان. فإن الليبيين اليوم في أمس الحاجة لتحرير العاصمة، وفتح الباب على مصراعيه لقيام دولة وطنية حقيقية لكل أبنائها وبناتها. والشروع في وضع اللبنات الأساسية لدولة المؤسسات والقانون، بما في ذلك، وضع دستور توافقي، وانتخابات تشريعية ورئاسية نزيهة وشفافة. ومثلما وضعت وستفاليا حداً لسلطة الإكليروس (رجال الدين)، وتحكمهم في دواليب الدولة. فإن الشعب الليبي المسلم الوسطي المحافظ، الذي يقيم شعائر الله، ويحفظ أكثر من خمس تعداده كتاب الله، والذي ساهم بقوة في نشر الإسلام في العالم بأسره، ليس في حاجة لأى بابا جديد يحتكر دينه، مثلما فعل الباباوات قبل وستفاليا. ولا لمفتٍ يجلس في إسطنبول، يُحل دماء أبنائه باسم الدين في الأشهر الحرم، ولا لشيخٍ ينفث سمومه من مانشستر أو لندن أو غيرهما، ليبين له أصول دينه، ويلغي وجوده، كما لو كان وكيل السماء فوق الأرض. ولا يعني هذا أن هذه دعوة لفصل الدين عن الدولة، كما قد يفهم بعض من يتحكم في قلوبهم هوى الإخوان. فالدولة الوطنية الليبية المأمولة دولة مسلمة، والإسلام متجذر في قلوب ووجدان شعبها. لكن ينبغي ألا يقبل الليبيون أي استغلال للدين للوصول إلى سدة الحكم. أو أي تمترس وراء الدين لأي طرف للتحكم في رقاب الناس باسم الرب.
الخلاصة،،، أن دعاة الدفاع عن الدولة المدنية لا يمكنهم الاستماتة في الدفاع، لأن الأوراق انكشفت و أنفضح "الملعوب" ـ دولة مدنية في الشكل، ثيوقراطية قبلية جهوية نخبوية في الجوهر ـ لا يطيقها الليبيون ولا يريدونها. هذه المدنية المزيفة، الستار للسيطرة على البلد ومقدراتها من قبل القلة المؤدلجة الجهوية. ولقد رأى الشعب الليبي ديمقراطية وعدالة ونزاهة وأمانة الإخوان وحلفائهم طيلة السنوات الماضية. وأكتووا بنارهم وقاسوا ظلمهم وتفريطهم، وكيف أنهم قدموا مصالحهم ومصالح حلفائهم وتنظيمهم على مصالح الشعب، الذي تركوه يعاني الفقر والعوز، في الوقت الذي استنزفوا ثرواته وتقاسموا مقدراته، وماذكر في الفقرات السابقة أجلى جزءاً من صور البؤس والمعاناة. ولكل ذلك، فإن الليبيين أو على الأقل غالبيتهم، يؤيدون بكل قوة، تحرك القوات المسلحة العربية الليبية لتحرير العاصمة وإطلاق مسيرة إعادة البناء، ولتصفية الحساب مع العابثين الذين نشروا الفساد في الأرض، وأذاقوا الناس وبال أمرهم، ولم يردعهم دين ولا عرف ولا قانون ولا أخلاق. وفي معرض ما يعانيه الليبيون من أدعياء الإسلام، يتذكر الليبيون اليوم ما كان يردده الراحل العقيد معمر القذافي في مرات عديدة، ويقصد به مجمل حركات الإسلام السياسي، "هؤلاء إن وصلوا للسلطة في أي يوم، فلن يراعوا فيكم إلاً ولا ذمة". وعلى الرغم من كل الظروف والمخاوف فلا خيار أمام الليبيين وقواتهم المسلحة، إلا التقدم إلى الأمام ..... ولا رجوع. فالليبيون لا يريدونها إخوانية تحت شعار "المدنية"، لكن يريدونها لكل أهلها، دولةً وطنية. هذه تذكرة، "لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد".