باحتساب الناتج الإجمالي المحلي وفقا للتقارير وما يتداول في الاجتماعات والمحافل العمومية وغيرها من أنشطة بناء التوافقات، يمكن اعتبار المغرب من أغنى الدول في العالم. وفكرة أن الملك هو صاحب القرار أصبحت متجاوزة، خصوصا عندما تلتقي بمسؤولين برلمانيين ورؤساء المؤسسات ومراكز البحث. إنه بلد يسير بسرعة البيروقراطية الفرنسية ويطبعه حب التنظير السياسي المحكوم بهاجس بناء التوافقات بين مجموعة واسعة من الجماعات والأفراد والجهات الحكومية قبل اتخاذ قرار التغييرات المهمة.

يعمل المغاربة، على ما يبدو، داخل مجموعات عمل حكومية وغير حكومية بجدية وبحسن نية على مجموعة من المشاكل. إنهم بحاجة إلى خصخصة وتنويع الاقتصاد؛ الاستثمار في الموارد البشرية (التعليم والرعاية الصحية)؛ نقل السلطة إلى الجماعات المحلية؛ تحديث قطاع السكن؛ مواصلة إدماج المرأة في الحياة السياسية والاقتصادية والحفاظ على هذه الجهود الإصلاحية من خطر القوى الإسلامية الراديكالية. وهذا يتطلب السرعة في الإنجاز بهدف الاستجابة لمطالب السكان الذين رفضوا الانخراط في نموذج العنف الذي صاحب انتفاضات الربيع العربي.

في مستوى أول، كان النجاح لافتا. في هذا الشأن، قدم رئيس البرلمان، رشيد الطالبي العلمي، الذي تولى منصبه قبل بضعة أشهر فقط، بعض الإحصائيات: 4.5 % معدل نمو السنة الماضية، ارتفاع الدخل الفردي من 1.500 دولار إلى 4.500 دولار سنويا في غضون عشر سنوات. وإذا كان الاستثمار الأمريكي في المغرب لا يزال ضعيفا (الشركات الأمريكية لا تعرف المغرب حسب العلمي)، فالمغرب لا يبحث فقط عن توسيع قاعدة شركائه التقليديين في أوروبا، لكنه يسعى للتوغل جنوبا في القارة الإفريقية. يلاحظ العلمي أنه من أجل وقف مد اللاجئين والمهاجرين، سيحتاج المغرب لمساعدة البلدان الإفريقية على التنمية. فالمغرب يستثمر على نحو متزايد في التجارة ويقدم المساعدة لبلدان مثل مالي وساحل العاج ونيجيريا ويتوخى من هذه التنمية الاقتصادية وأشكال التعاون الأخرى مع بلدان القارة السمراء أن تصبح الأخيرة سوقا وشريكا في نفس الوقت بدلا من بلدان مصدرة لللاجئين وما يترتب عن ذلك من مشاكل.

لكن العلمي كان أيضا صريحا وقال إنه يعترف بخطر الفساد الذي قد يأتي مع انتقال السلطة والمال إلى الجهات. وقال أنه بصراحة لا يعرف ما إذا كان المغرب سينخرط في رؤية حزبه السياسية، اليمينية المتوسطة، التي تميل أكثر نحو فلسفة السوق.

أكثر من ذلك، أخبرني أحمد العبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية لعلماء المغرب، على هامش وجبة غذاء جمعتنا، أن مجموعته تقوم بتدريب مئات الأئمة من شمال أفريقيا وباقي الدول الإفريقية وبلدان إسلامية أخرى، في محاولة للتعريف برؤية لإسلام أكثر مرونة تتناقض بشكل صارخ وتوجه الوهابية. إنه شكل من أشكال القوة الناعمة، مجهودات المغرب لتحويل دفة الأمور بعيدا عن الأصولية الإسلامية وتلقين مبدأ كون الإيمان في أنقى صوره يمكن أن ينفصل عن الدولة. ومع ذلك، وإن كان المغرب يعترف باليهودية كدين، لكن يبقى الملك هو أمير المؤمنين والجهود المبذولة لإقحام حرية المعتقد في الدستور لم تتعد مرحلة الصياغة.

أما فيما يخص قضايا المرأة، تجدر الإشارة إلى أنه على رأس مؤسسة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية توجد امرأة، نديرة كرماعي، العاملة المنسقة الوطنية، وهي تدير هذه المؤسسة منذ تأسيسها سنة 2005، وتختص بتنفيذ مجموعة من البرامج التنموية تهم السكن والتعليم ومحاربة الفقر. أشارت كرماعي إلى أن النساء يشتغلن الآن في القطاعات المصرفية والطبية وداخل المؤسسات الحكومية، بل وسائقات لسيارات الأجرة والحافلات. إن المرأة المغربية متقدمة كثيرا عن مثيلاتها في البلدان العربية المجاورة. في الواقع، الحياة الاجتماعية في المغرب تختلف بشكل كبير على ما هو عليه الأمر في بقية العالم الإسلامي. تعدد الزوجات، مثلا، شبه منعدم تقريبا ( 1٪ فقط من الزيجات)؛ وتجد على رأس الاتحاد العام لمقاولات المغرب امرأة؛ فيما وزارة الصحة سابقا كانت تشرف عليها امرأة.

لكن كرماعي تعترف، أيضا، بصعوبات التحرك على عدة واجهات وبسرعة. تسعى الحكومة إلى القضاء على مدن الصفيح، التي تعكس الوجه الحقيقي للفقر المدقع. لكن وبالرغم من ظروفهم القاسية، يرفض بعض السكان ترك العائلة والأصدقاء للعيش في مكان آخر. هناك بعض الأحياء الصفيحية التي تم تجهيزها بالماء والكهرباء كإجراء مؤقت، لكن هناك حاجة إلى تصحيح هذا الوضع. والآن يتم بناء شقق جديدة في الجوار حتى يكون الانتقال غير مقلق من الناحية الاجتماعية. وبمجرد الانتهاء، يتم محو الأحياء الصفيحية ونقل سكانها إلى مقرهم الجديد.

قد يبدو مسلسل الإصلاح هذا بطيئا ومعقدا للغاية. قام معهد مستقل بدراسة لهذه الوضعية بشكل دقيق وخرج بتقارير وتوصيات يبقى تفعيلها رهينا بتجاوب الفاعلين السياسيين. كما أن هناك مجلس خبراء يعمل على نفس القضايا التي تشتغل عليها الحكومة، لذا يلزم الأمر الكثير من الجهود لاستيعاب وجهات النظر المتعارضة وهو ما يستغرق وقتا أطول قبل وضع سياسات التنمية الأنجع.

ونظرا لسعي المغرب الراسخ لتحقيق التوافق، إن كان على مستوى البرلمان طلبا لاستشارات موسعة وإشراك مجموعة متنوعة من أصحاب المصالح قبل اتخاذ القرارات التي تهم البرامج الاجتماعية الكبرى، تثار الشكوك من أنه يتحرك ببطء شديد. لكن إيجابية التوافقات تكمن في حل الخلافات قبل انطلاق المشاريع وانخراط مجموعات وفاعلين مختلفين في أي خطوة.

ويتجلى هذا أكثر من أي شيء آخر في مجال حقوق الإنسان. فقد تعقد نقاشات كبيرة ومظاهرات ضد عقوبة الإعدام مثلا، لكن التعرض لسمعة الملك أو الإسلام لا يزال جريمة يُعاقب عليها. ففي حادثة وقعت مؤخرا، حوكم الصحفي الذي وضع رابطا لفيديو يدعو لعمل إرهابي لتنظيم القاعدة على موقع جريدته بموجب قانون مكافحة الإرهاب. ألحيت على رئيس المجلس الوطني المستقل المعني بحقوق الإنسان (CNDH)، إدريس اليازمي، لتفسير الجدوى من هذه القيود المضروبة على حرية الصحافة وسألته، لماذا الحاجة لكل هذه القيود؟ فأجاب بكل هدوء: "لقد استغرق الأمر عدة قرون في الغرب من عصر النهضة إلى التنوير وما إلى ذلك قبل تحقيق الديمقراطية. وأمامنا رحلة طويلة علينا اختصارها بقدر الإمكان، لكن في إطار سلمي". في الغرب، الحرية أو الديمقراطية هي حق الفرد في التعبير وتقرير المصير. لكن في المغرب، يفسر اليازمي، الديمقراطية هي وسيلة لتدبير التغيير والتعدد بشكل سلمي. يجري العمل لتحقيق هذه الأهداف بالموازاة مع تنجب خطر الوقوع في أي شكل من أشكال التطرف الإسلامي ويجري التحكم في الأمور بشكل إيجابي. إن الأمر أشبه بحمل وعاء من الماء المغلي يجب التحكم فيه حتى لا يرشح، ولا تهم هنا السرعة أو البطء بقدر ما يهم الحفاظ على التوازن.

من جهة أخرى، أعطى الملك الحالي سنة 2004 موافقته على إنشاء هيئة للإنصاف والمصالحة مهمتها كشف وتوثيق تجاوزات وانتهاكات حقوق الإنسان على عهد والده وجده. وفقا لمصدر حكومي، "توصلت الهيئة ب 22.000 طلبا، بينها 16.861 من ضحايا وأسر ضحايا الانتهاكات قدموا شهاداتهم أمام الهيئة، بعضها تم خلال جلسات علنية ومتلفزة. كما تلقى 23.676 من الضحايا تعويضا عن الضرر بلغ في مجموعه 193 مليون دولار".

ومع ذلك، يعترف اليازمي بوجود مشاكل حقيقية لازالت عالقة. حالة السجون "ليست على ما يرام"؛ رجال الشرطة ينحدرون من عائلات غير متعلمة وبحاجة إلى تدريب مكثف، خصوصا أنها المرة الأولى التي يتعامل فيها المغرب مع تدفق اللاجئين من بلدان أكثر فقرا. وهم بحاجة للتمتع بالحقوق السياسية، من مسكن وملبس واندماج في مجتمع يعاني أصلا من ارتفاع معدل البطالة. وتجاوبا مع هذه المبادئ، خُولت لجنة حقوق الإنسان القيام بعمليات تفتيش داخل السجون ومراكز الشرطة ومراكز اللاجئين، مع الإشارة إلى أن المغرب من الموقعين على الاتفاقية الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، و الاتفاقية الدولية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقية حقوق الطفل واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. على الورق يبدو الأمر مثاليا؛ لكن، في الواقع، الأمر ملتبس.

من وجهة نظر السلطات المغربية، كل هذا العمل يسير على نحو جيد، بينما يرى الغرب فيه نقط تراجع وتناقض. إنه فعلا أفضل ما يمكن أن يبدو عليه تقدم سلمي في بلد إسلامي، على الأقل في بلد مثل المغرب مصر على التوافق والحفاظ على نظامه الملكي (الذي يبقى مؤسسة ضامنة للوحدة والهوية الوطنية). سيواصل الغرب ضغطه على المغرب لبذل المزيد من الجهود والقيام بذلك بشكل أسرع و أكثر اتساقا، لكن في نظري، لن يحيد المغرب بسهوله أو يخرج عن وتيرته المنهجية. وإذا كان الغرب يبحث عن الديمقراطية على طريقته، فمن المرجح أنه سيصاب بخيبة أمل. وكما قال ونستون تشرشل عن الديمقراطية نفسها، الديمقراطية على الطراز المغربي هي أسوأ نموذج يمكن تخيله، اللهم إذا قارناه بالأنظمة الأخرى في العالم الإسلامي. الأنسب بالنسبة للمغرب والغرب هو الحفاظ على التوازن والأمل في استفادة البلدان الإسلامية الأخرى من تجربة التغيير السلمي.

* ملحوظة لكاتبة المقال جتيفر روبن : للتذكير، تم دفع مصاريف تنقلي بالطائرة وإقامتي بالفندق من قبل المعهد المغربي للعلاقات الدولية. أما الآراء الواردة هنا، كما هو الحال دائما، فتلزمني وحدي فقط .