في دراسة عن واقع الزراعة في ليبيا، صادرة عن كلية الآداب بجامعة بنغازي العام 2013، تبيّن أن كل من اسبينت آرؤهم من أهل القطاع يؤكّدون أنها مجال ثانوي باعتبار أنه لا يوفّر لهم دخلا ثابتا أو كافيا، لذلك يضطر أغلبهم للاشتغال في وظائف أخرى وتركها كنوع من الاجتهاد الذي يساعد بنسب ضعيفة في توفير بعض المال، ويرجع المزارعون ذلك إلى جملة من العراقيل التي لا تمكنهم من تطويرها، منها ما هو ذاتي في علاقة بالمزارع نفسه مثل عدم وضعه كرهان دائم، ومنها ما هو موضوعي في علاقة بما توفره الدولة من تسهيلات أو في غياب أهم مقومات فلاحية رئيسية وهي المياه التي يتطلب توفيرها مجهودات كبيرة.

لا يمكن اعتبار ليبيا بلدا فلاحيا رغم الامتداد الجغرافي الكبير المتوفّر لها، ورغم أن الثروة الحيوانية تعتبر من الأثرى في محيطها، خاصة في علاقة برؤوس الإبل أو الأغنام، لكن بقيت ثروة غير منظمة لا توجد لا سياسة واضحة للدولة من أجل الانتفاع بها، وبقي المالكون الخواص هم المتصرفون فيها، وهي تتعرّض دائما للبيع خارج الأطر الشرعية وتغادر البلاد عن طريق التهريب.

الزراعة باعتبارها من أهم الميادين الفلاحية، لم تلق اهتماما كافيا في ليبيا. في الواقع مسألة إهمالها لم تكن مرتبطة بظرفية معينة أو بواقع سياسي معيّن. ليس هناك من اعتمد عليها في تدعيم الواقع الفلاحي بالبلاد. الثروة النفطية رغم منافعها الكبيرة، لكنها جعلت الجميع في ليبيا، أنظمة وشعبا، في واقع أشبه "بالاتكال" دون العمل على بدائل أخرى، وهذا الخطأ وقعت فيه أغلب الدول النفطية في منطقتنا العربية، رغم ما للقطاع الفلاحي من أهمية سواء في مستوى الاستهلاك المحلّي، أو في مستوى التصدير باعتباره يوفّر عائدات مالية كبرى في الدول التي تراهن عليه.

الدراسة الجامعية أشارت أن الأنشطة الزراعية ارتكزت في غالبها على الشعير وبلغت نسبة 96 بالمئة من نسبة الزراعات، وهذا يفسّر بأمر واحد وهو اعتماد الشعير لأعلاف المواشي، وهذا يلاحظ أساسا في المناطق التي تتوفّر على نسبة أكبر من الثروة الحيوانية، بمعنى أنها ليست زراعة إنتاجية بقدر ماهي استهلاكية مرتبطة بحلقة ضيقة لا يمكن من خلالها حتى القيام بعمليات إحصاء أو جرد ضمن المنتوج الوطني. أما بقية النسبة فكانت في غراسة الأشجار وبعض الخضروات التي تستهلك بدورها في إطار عائلي ضيق لا يمكن الاعتماد عليه كرقم رسمي.

لم يكن واقع الزراعة الليبية في حال جيّد قبل تحولات العام  2011 رغم أن الدولة كانت تساهم ولو نسبيا في دعم أسعار الحبوب وبذور الزراعة بنسبة 50 بالمئة، لكن بعد تلك الأحداث تعمقت الأزمة أكثر، وأصبح الكثير من الفلاحين عاجزين على المجازفة، باعتبار أنهم كانوا يعتمدون على أراض ومزارع بعيدة عن مقار سكناهم، لكن تطورات الأحداث وانتشار الفوضى واحتلال بعض المليشيات المسلحة لبعض المزارع وسرقة بعضها جعل حتى من يمتهن تلك المهنة يتوقف خوفا على سلامته أو على رزقه، وبسبب ذلك تراجع الإنتاج إلى أقل من 200 ألف طن سنويا، بعد أن كان قبل الإطاحة بالنظام مرتفعا عن تلك الأرقام ومخططا له أن يصل نصف مليون طن في الفترة بين 2010 و2015. وتشير بعض المصادر إلى أنه حتى الكمية المنتجة لم تكن الأوضاع الأمنية المتردّية تسمح  بتسويقها حيث يعجز مزارعو الجنوب وهم الأكثر إنتاجا في البلاد على إيصال منتجاتهم إلى المدن الكبرى بغاية تسويقها.

إشكال آخر يعترض الزراعات الليبية بعد "الثورة" هو شح المياه أو انقطاعها. فالنهر الصناعي الذي كان يوفّر قبل الأحداث ما قيمته مليون متر مكعب بهدف استثمارها في حقول زراعية في مختلف المناطق، يعيش أزمات متعاقبة، الأمر الذي كان له تأثير واضح على الفلاحين الذين لا يملكون بدائل مائية كثيرة في بلد يغلب عليه المناخ الجاف خاصة في مناطق الجنوب التي تتمركز فيها أغلب الزراعات.

وفي إطار استغلال الموارد المائية للنهر الصناعي سعت الهيئة المشرفة عليه خلال سنوات الألفية الأولى إلى بعث مشاريع زراعية مختلفة سواء في مستوى الزراعات الكبرى أو في مستوى الزراعات الصغرى، لكن تطورات الأحداث في البلاد بعد 2011، قضت على تلك المشاريع، حيث تعرّضت عدة محطات في النهر للتخريب من طرف بعض الأطراف، خاصة خلال الأيام الأولى للأحداث، بهدف تدميره على اعتبار أنه يرمز لمرحلة العقيد معمّر القذافي ولا يجب أن يُترك له أثر حتى وإن كان إيجابيا.

ثقافة الليبيين بطبيعتها لم تكن تعتبر الفلاحة هدفا أوليا نظرا لوجود بدائل أخرى تجارية أو في علاقة بالموارد النفطية، حيث تشير إحصائيات أن العدد لا يتجاوز ال100 ألف فلاح في مساحة جملية صالحة تتجاوز 3 ملاين هكتار، لكن حتى المزارعون المهتمون أصبحوا في السنوات الأخيرة يعيشون أوضاعا قد تزيد من تعطيل مشاريعهم. تلك الأوضاع منها ما هو أمني في ظل حالة التقاتل التي لم تنته في عدد من المناطق، ومنها المتعلّق بالمشاكل الطارئة في علاقة بالمياه أو تدخل الدولة للدعم، الأمر الذي قد يقلّص الإنتاج إلى مستويات متدنّية في بلد يحتاج إلى إحياء كل القطاعات وتوفير بدائل اقتصادية مختلفة بهدف تجاوز الاتكال على ما تجنيه الدولة من العائدات النفطية.