عقب التدخل الدولي الذي استهدف القوات المسلحة العربية الليبية ضمن ما استهدفه في ليبيا سنة 2011، انهارت المؤسسة العسكرية بشكل كبير، وغاب دورها تماما، الأمر الذي جعل البلاد تحت رحمة تشكيلات مسلحة بديلة متعددة التبعية والانتماء، وظهرت جماعات دينية شكلت كتائب ومجموعات مسلحة تأتمر بأوامر زعماء يتبعون التنظيمات المتطرفة العابرة للحدود، إلا أن عددا من هذه المجموعات المعروفة باتجاهها السلفي على الرغم من أن بناءها يعتمد على العامل الديني إلا أنها بقيت تتخذ منهجا مختلفا وجدت نفسها من خلالها متماهية مع أهداف الجيش
يؤكد تقرير أعده مركز كارنيغي للشرق الوسط وترجمته بوابة افريقيا الإخبارية، أن أجهزة الأمن في مناطق شرق ليبيا قامت بحذف أسماء قادة التيار السلفي من قوائم المراقبة التي كانت تضعهم فيها قبل بدء عملية الكرامة سنة 2014، وبدأت بإشراكهم بنشاط في المعركة ضد التنظيمات الجهادية والتتشكيلات الإسلامية في بنغازي.
ولم يكن من الصعب دمج هؤلاء لأنهم استُهدِفوا في سلسلة الاغتيالات التي هزت بنغازي من منتصف عام 2013 إلى أوائل عام 2014. وكان اغتيال العقيد كمال بازازة، وهو رجل دين سلفي شعبي ورئيس قسم الشؤون الإسلامية في مديرية الأمن بنغازي، في عام 2013 ، الحافز بالنسبة للكثيرين للتعبئة.
وانضم بعض السلفيين الليبيين إلى وحدات الجيش الليبي، واستشهد التقرير بانضمام أشرف الحاسي، القائد الميداني السابق في لواء 17 فبراير ونائبه النفاتي التاجوري - إلى قوات (الصاعقة) الخاصة. وانضم بعض المداخلة إلى وحدة سلفية على وجه الحصر، كتيبة التوحيد بقيادة عز الدين الترهوني. والتأمت وحدات سلفية مقاتلة مماثلة في المرج حول حفتر وفي البيضاء المجاورة.
لاعتبارات مختلفة حاربت المجموعات السلفية، وخصوصا كتيبة التوحيد، بشكل فعال جنبا إلى جنب مع الجيش وخصوصا مع مجموعات غير نظامية مختلفة "حماية الحي" أو شباب "قوات الدعم" في جميع أنحاء بنغازي.
في حي الماجوري في بنغازي، على سبيل المثال، أفاد مقاتلون شباب من قوة "حماية الماجوري" في سبتمبر 2014 عن علاقة تكافلية مع السلفيين، الذين كانوا حاضرين عند تأسيس قوة حيهم. وخلال قتال داعش ومجلس شورى ثوار بنغازي، يصدح مقاتلو الماجوري بخطب مسجلة لرجل الدين السلفي المتوفى كمال بازازة على الخطوط الأمامية.
وعلى الرغم من حالة الانسجام والتكامل بين عناصر التيار السلفي والجيش إلا أن الشكوك بقيت تساور عددا من الفاعلين الأمنيين والاجتماعيين والشخصيات في الشرق حول أهداف السلفيين على المدى الطويل.
ونقل التقرير عن مسؤول أمني في بنغازي اعتقاده بأنه ليس من الحكمة السماح لهم بأن يتركزوا في كتيبة خاصة بهم. وأنه لا بد من تفكيكهم، وتعطى لهم أرقام تعريف الجيش النظامي، ونشرهم عبر الخطوط الأمامية.
ويكشف التقرير أن عددا من الكتائب المعتمدة في تكوينها على السلفيين تم تفكيكها ودمج عناصرها في قوات الجيش مثل كتيبة التوحيد والكتيبة 302 للقوات الخاصة والقوات البحرية الخاصة، وكتيبة المشاة الميكانيكية 210، وغيرها، إلا أن الحقيقة تؤكد أن عدد من وحدات الجيش التي تبدو ظاهريا "عادية" لكنها في الواقع سلفية بشكل عميق وطائفية في المنظور، مع وجود وحدات فرعية تحمل اسم "كتيبة التوحيد" وخطب وتصريحات المدخلي بشكل واضح على منصاتها للتواصل الاجتماعي.
ويخلص التقرير إلى أن الفاعلين الأمنيين في طرابلس ومصراتة وبنغازي، والبيضاء يعترفون جميعا بتسخير قوة الجماعات السلفية المقاتلة في حملاتهم ضد الخصوم السياسيين وداعش. لكنهم صرحاء أيضا في الاعتراف بأنهم يجهلون الآثار غير المعروفة لهذا الخيار المشترك على مستقبل ليبيا.
وظهرت ملامح وجود أتباع التيار السلفي في مواجهة الجماعات المتطرفة في شهر أغسطس سنة 2016 بمدينة سرت عندما انتفض عدد من شباب السلف في الحي الثالث ضد عناصر تنظيم داعش في حادثة مسجد قرطبة المعروفة والتي كانت أساس عملية تحرير المدينة من قبضة التنظيم الإرهابي فيما بعد.
وتعود قصة الانتفاضة ضد داعش إلى أوائل سنة 2015 عندما قدم إمام مسجد قرطبة وهو شاب سلفي من مدينة سرت يدعى خالد بن رجب الفرجاني، انتقادات علنية لتنظيم داعش ورفض منحه الإذن لاستخدام مسجده من أجل إلقاء الخطب. وفي ذلك الصيف، أقدم تنظيم داعش على اغتياله، ما أدّى إلى اندلاع انتفاضة مسلّحة قام بها سكّان الحي الثالث في سرت، وسيّر تنظيم داعش مدرّعات في الشوارع واستخدم الأسلحة الثقيلة لإخماد الانتفاضة، كما أعدم العشرات من شباب المنطقة في باحة مسجد قرطبة، وصلب آخرون عند مدخل مدينة سرت الغربي المعروف محليا بجزيرة الزعفران، ثمّ غيّر اسم الجامع من مسجد قرطبة إلى مسجد أبو مصعب الزرقاوي.
وعندما أتيحت الفرصة أمام عناصر الكتيبة 604 مشاة للأخذ بالثأر، انضمّت إلى ائتلاف واسع من المجموعات المسلحة تحت اسم غرفة عمليات تحرير سرت، في الهجوم على سرت ضمن ما عرف بعملية البنيان المرصوص، لكن الأهم هو أن جلّ عناصر الكتيبة تقريباً سلفيون، وهذا أمر يتسق مع منحى أوسع نطاقاً على مستوى البلاد في أوساط ما يُسمّى السلفيين “الهادئين” الذين ينشطون الآن بشكل مطّرد في القتال ضد داعش، وأيضاً ضد الفصائل الإسلامية المنافسة لهم.
وتنتشر الكتائب المعتمدة في بنائها على الشباب السلفي في عدة مدن ليبية بما في ذلك المنطقة الغربية التي تسطر عليها حكومة الوفاق مثل مدينتي الزاوية وصبراتة اللتين تتواجد فيهما كتائب تقر بتبعيتها للقيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية، ومن بين هذه الكتائب، كتيبة "سبل السلام السلفية" و"كتيبة التوحيد السلفية" ما تعرف بـ"كتيبة الوادي" في صبراتة، وهي من تلقت الدعم من قيادة الجيش، كما تلقى بعض أفرادها تدريبات خاصة.
ويأتي الاعتماد على "الشباب السلفي" نتيجة لخوضهم حربا سابقة في صبراتة وسيطرتهم على المدينة في وقت قياسي، إضافة إلى عملهم المنضبط في جهاز المباحث الجنائية بالمنطقة الغربية، وقبضهم على الإرهابيين في المنطقة وتحويل بعضهم إلى المنطقة الشرقية.
وتتواجد قوة "الشباب السلفي" في مدن المنطقة الغربية بشكل واضح، فهي تسيطر على مناطق صرمان وصبراتة والعجيلات والجميل، فضلا عن وجودها كقوة مساندة للجيش في مدن الجبل الغربي بالزنتان والرجبان وقاعدة الوطية الجوية.
وفي المنطقة الجنوبية تنشط أهم الكتائب المبنية على الشباب السلفي، كتيبة سبل السلام بمدينة الكفرة، التابعة للقيادة العامة للجيش الليبي بقيادة آمر الكتيبة الشيخ السلفي عبدالرحمن هاشم، وتشرف على تأمين المناطق الحدودية الممتدة بين ليبيا وكل من تشاد والسودان، وتمارس نشاط مكافحة التهريب والاتجار بالبشر، وتساهم مع القوات المسلحة الأخرى في التصدي للمجموعات المسلحة القادمة من دول الجوار، كما كان لها دور كبير في عمليات تحرير الموانئ النفطية ضمن عملية تطهيرها من قبل الجيش الليبي من المجموعات التي كان يقودها إبراهيم الجظران.
وشارك عناصر كتيبة سبل السلام السلفية بعدة مهام دخلوا خلالها في مواجهات مباشرة مع مجموعات مسلحة من المعارضة التشادية المسلحة وغيرها في عمق الصحراء وفي مناطق تبعد مئات الكيلومترات في عمق الصحراء بعيدا عن نقاط تمركزها بالقرب من المدن والواحات، الأمر الذي أكسبها خبرة ودربة غير متاحة لغيرها في التعامل مع العدو في الظروف الصعبة، ولعل تعامل عناصر الكتيبة مع المجموعات المتطرفة التي تمكنت من الفرار من مناطق الاشتباكات في منطقة قنفودة في الأيام الأخيرة من معارك تحرير بنغازي خير دليل على القدرات القتالية لهذه الكتيبة، حيث تمكنوا من محاصرتهم وإنهائهم في مناطق جنوب غربي مدينة بنغازي.
ومهما تكن العلاقة بين قوات الجيش النظامية والمجموعات السلفية وثيقة فهي لا تعدو كونها علاقة تحالف مبنية على تلاقي المصالح والأهداف الآنية، فرضتها ظروف المعارك، ووحدها العدو المشترك، ولكنها في الأغلب لن تصمد في ظل الاستقرار واستتباب الأمن وعودة الجميع إلى أوضاعهم الطبيعية، حيث ستعود أسلحة الجيش إلى مخازنها ويعود المقاتلون إلى ثكناتهم، أما عناصر هذه التشكيلات فأن مصيرهم سيبقى مجهول، لأن عقيدتهم تختلف عن الجيش، ومن المستبعد أن يكتفوا بالعودة إلى مقار كتائبهم، ولعل هذا ما ولد حالة التوجس والريبة في تعامل بعض المسؤولين الأمنيين معهم.