اليوم في ليبيا، ثمّةَ واقعٌ جديد، وفي مطلقِ الأحوالِ، علينا قراءةَ ما فيه، وبلورةِ معالمه وآفاقه واختلاجاتِه، واقعٌ جديد، يتطلّبُ منّا جميعاً، الوقوف على مقدّماته وتساؤلاته، وتحليل إيجابيّاته وسلبيّاته، وتفكيك معطياته وعلاقاته، وتحديد مرتسماته وفضاءاته، والعمل على خلق مناخ موازٍ، يسمح بترسيم أولويّاتِ الإنطلاق: منه، وفيه، وإليه، مسلّحين بالعقلانيّةِ والموضوعيّةِ، آخذين في الإعتبارِ، قوانين التّحوّلِ، ومعرفتها، ضمن ذلك المُعْطى المُنْجَز، فرضيّاً ومنهجيّاً، للخروجِ منَ النّمطِ، وعنه، وعليه، كيْ لا يتحوّلَ الطّموحُ السيّاسي فيما بعد إلى وهم، والتّطلُّعُ فيما بعد إلى كابوس.

اليوم ثمّةَ واقعٌ جديدٌ، واقعٌ، لا مُسَوِّغَ فيهِ للتّقاعسِ، ولا مبرِّرَ فيه للتّأخيرِ، ولا عذرَ فيه للتّقصيرِ، أيضاً وثمّةَ مُعْطىً جديدٌ مُعْطىً، ملامحُه واضحةٌ، وآفاقه بائنة، وفضاؤُهُ مفتوحٌ: على مختلَفِ التّيّاراتِ، ولمختلفِ الآراءِ وبمختلَفِ الإتّجاهاتِ السياسية والقبلية، وفي مُخْتَلَفِ الشؤون والأمور، والقضايا: الفكريّةِ منها، والإجتماعيّةِ   والإقتصاديّةِ وغيرها. واقعٌ ومُعطىً جديدان: يتطلّبانِ من الجميع، استيعابَ التمايُزاتِ والقدرات، والاختلافات، وإطلاقِ مشروع ليبيا الغد، لإثراءِ هذا الواقع، وإغناءِ ما فيهِ، منْ مُعْطى، وتقديرِ إمكانيّاتِ قوى التّأثير لديه، واجتراحِ ممكناتِها وملكاتِها، في ضوء مصالحِ ومنافع ليبيا، وعلى مقتضى أمن وسيادةِ ليبيا، وتحت غطاءِ وسقفِ ليبيا. تلك، هي على الأرجح، الخطوة الإيجابيّةُ الأولى، التي يجب التأكيدُ عليها، والسعي إلى إنجاحها، وفرز مواقع قوى الإنتاج فيها، ومعرفةِ تعيُّناتِها الفكريّةِ، ومواضَعاتِها النّظريّةِ والعمليّةِ، وتأثيراتِها الواقعيّة، من أجل الإنتقالِ، إلى الخطوات الأخرى، القادمة والهامّةِ، كالدعوة: إلى حوارٍ شامل، يضع الجميع في مواجهةِ كافّةِ الاستحقاقاتِ الوطنيّةِ، وتُشاركُ فيه كافّةُ القوى العاملة، والمكوّناتِ الفاعلة، على تنوّعِها، واختلافِها، وتعدُّدِها.

اليوم ثمّةَ واقعٌ جديدٌ، ولا حيادَ فيه، لأنّنا، نؤمنُ في ليبيا: أنّه لا حيادَ في الخيارِ، بينَ التّقدّمِ للأمامِ، وبين التّراجعِ للخلف، لأنّنا، نؤمنُ في ليبيا: أنّه، لا حيادَ، بينَ وطنٍ غنيٍّ بمكوّناتِهِ، وقويٍّ بإمكاناتِهِ، وبين وطنٍ فقيرٍ بتكويناتِهِ، وضعيفٍ بمُمْكِناتِه. نؤمنُ: أنّهُ لا حياديّة، بينَ الهاجسِ المستمرِّ: في الإعمار، وبينَ الهاجسِ المستقرّ: على التّدمير. نؤمنُ: أنّهُ لا حياديّة، بينَ المسؤوليّةِ والحريّةِ، وبينَ الغوغائيّةِ والفوضى. وبهذا، نحنُ منحازونَ: إلى إيمانِنا الحرّ الواعي. منحازون: إلى الخيار الوطني الليبي، في التغيير نحو الأفضل، ومنحازونَ: إلى الخيار الوطنيّ الليبي في الإصلاح. ومنحازونَ: إلى الخيار الوطني الليبي في الوحدةِ. ومنحازون، بالتّالي: إلى ليبيا بامتياز، الوطن القويّ، المنيع، المُعافى... 

إنّنا نؤمنُ في ليبيا: بقوّة الشعب الليبي، ونؤمنُ بامتلاكه: وضوحَ الرؤيةِ، ووضوحِ الموقفِ، ووضوحِ الهدف. نؤمنُ بقوّتِه: لأنّنا نعرفُ: موقعَه، وبُعْدَه، ودورَه، ولأنّنا، ندركُ: حجمَ إيمانِه بقوّتِه، وقدرته، ووحدته، وندركُ: ضعفَ، وصلفَ، وغرورَ عدوّه...وفي هذا السياق، لن أقف على الأطلال، ولن أبكي أحبةً غرّبتهم الأقدار عن ليبيا، في بلاد الله الواسعة أو قطعت الحياة حبل صلتهم بليبيا... لكنني ممن يعتصرهم الألم على أيام خلت، وأحلامٍ تلاشت، وأمنيات دسرت، وأجنحة للقلب تكسّرت، وينابيع للصفاء جفّت، وأسلحة للعقل صدأت، وملاعب للصبا هجرت وحناجر غنت للحبّ وبحت، ومدارس للأدب هدّمت، وصروح للفضائل انهارت... كما أنني لن أعاتب قدراً أو صديقاً أو رفيقاً أو زميلاً، لأنني أعرف أننا في زمنٍ لا ينفعُ فيه اللّوم ولا يجدي العتاب، زمن اختلّت موازينه، وبُدّلت معاييره، واختلطت مفاهيمه، واستبيحت حرماته، وتعطّلت عجلة الخير فيه، فأصبح الآسنُ فيه عذباً، والعذبُ أجاجاً، والحلال حراماً، والحرام حلالاً، والصدق كذباً، والكذب مكرمة، والحبّ ضعفاً، والضعف إقداماً، والاستقامة تهمة، والثقافة لهواً، والفجور منهجاً، والإيمان كفراً، والكفر جهاداً. زمن هانت فيه النفوس وضلت العقول وشُلّت الإرادات وأظلمت القلوب وبدّلت الجلود، وفضلت دهاليز الظلام فيه على نور الشمس، وصوت الرصاص على صوت الضمير... زمن يتلاعبُ فيه تجّار الحروب بقوت الناس، وتعتدي فيه أشباه الرجال على تاريخ من صنعوا التاريخ، ورفعوا راية ليبيا في سماء المجد، وكتبوا بأحرف من نور على جبين الشمس أسمى معاني الحرية والكبرياء، ورسموا على وجه السماء خارطة المستقبل النابض بالبناء والتقدم والعزّ والازدهار.‏ 

في ليبيا الصامدة المجاهدة: لكلِّ قوى الهيمنةِ، وقوى الظّلامِ، وقوى الشَّرِّ، في العالَمِ، ولكلِّ أحلافِ الإستعمارِ، ولكلِّ أعوانِه، وكلِّ أذيالِه، ولكلِّ إراداتِ الإذعانِ، وإراداتِ الإستسلامِ، وإراداتِ التّخاذُلِ، في وقتٍ أذعنَ فيهِ منْ أذعنَ، واستسلمَ فيهِ من استسلم، وتخاذلَ فيهِ منْ تخاذلَ... الشعب الليبي المناضل والشريف الحر، يؤمنُ بوضوحِ الموقفِ والرؤية والهدف، لأنّه يعرفُ بالحسّ الوطنيّ والعربيّ معاً: صديقه جيّداً، ويعرفُ كذلكَ، عدوّه جيّداً، فوجّه البوصلة، في الإتّجاهِ الصّحيحِ، باتّجاه العدوّ الطامع بنهب خيرات البلاد: العدوّ الّذي يحتلّ الأرضَ، ويُهدّدُ الوطنَ، في ترابِهِ ومائِهِ وسمائِهِ، في كلِّ وقتٍ، وفي كلِّ حين. أعرفُ أنني في زمن يؤثر فيه الرماديون والنخبويّون الصمت على قول كلمة الحق، ويستبدل المتطرفون الحق بالباطل، والخير بالشر، والنور بالظلمة، ويتلطى الانتهازيون وراء الأكمة صامتين عن كلّ شيء إلا عن مصالحهم وأطماعهم التي لا تقف عند حدّ، كما أعرف أنني لن أخدش حياء الجبناء والمترددين بتلميح هنا أو تصريح هناك لأنهم فقدوا الحياء، وماتت فيهم النخوة والرجولة، وتحولوا إلى أمعات لا يرتجى منها خيراً، ولا يعوّل عليها في الشدائد والصعاب، إلا أنني واثقٌ بعظماء وشرفاء وأحرار ليبيا، ورجاله المخلصين الذين سيعيدون للزمن ألقه، ويصلحون موازينه، ويداوون جراحه، وينقّون مفاهيمه، وينفضون عنه غبار الشر لتعود سماء ليبيا صافية، وينابيعها عذبة، وأزهارها يانعة، وثمارها شهية، وألحانها شجية، وأحكامها عادلة، ولغتها غنية بالمحبة والوئام والأمن والأمان.‏ 

وبالإطمئنانِ، ستنتصر ليبيا، لأنّنا نثقُ: بوعيِ الشعب الليبي، أوّلاً، وبقدرةِ الشعب الليبي على النّصرِ، في المحنةِ والإمتحانِ ثانياً. نثقُ بوعيِ الشعبِ الليبي لأنّه، الأقدرُ على المكابدةِ، والأقدرُ على المصابرةِ، والأقدرُ على المكاشفَة، والأقدرُ على المغالبةِ، والأقدرُ على معاينةِ الألمِ، والأقدرُ على تجاوزِ الجراح. ولأنّهُ، الأجدرُ في مُساءَلَةِ التّاريخِ، ليكونَ، منْ بعد، هو هو ـ الشّعبُ الليبي، بوعيِهِ: السؤالُ والجوابُ، معاً، في مدوّنةِ التاريخِ، وفي حضرةِ التّاريخ. وبالاطمئنانِ، ستتقدّمُ ليبيا لأنّنا نثقُ: بقدرةِ شعبِها في المحنةِ، على مجابهةِ الخطوبِ، في دروبِ التحرير الحقيقية. وبالإطمئنانِ، ستتقدّمُ ليبيا، لأنّنا نثقُ، في الإمتحانِ، بقدرةِ شعبِها على اقتراحِ الممكنات، من سُبُلِ النّصرِ واجتراحِ المعجِزاتِ، على دروبِ الظّفرِ والنّجاح. واقعٌ جديدٌ، ستتقدّمُ ليبيا نحوهُ، بجناحيّ: الثّقةِ والإطمئنان، بقيادةِ أحرار الشعب الليبي وحماته، جناح الثّقة بالغدِ: الغدِ الأجملِ، والأفضل، والأكيد، و جناح الاطمئنان، على الحاضر: الحاضرِ المُتَوَقّدِ، والمتعدّدِ، والمتجدّد... واقعٌ جديدٌ، ومُعْطىً جديد، وليبيا سُتَجَدّد، باستمرار، على طريقِ الاستقرارِ والانتصار.