خمسة وعشرون عاما مرت على المفكر الليبي الصادق النيهوم، ومازال اسمه مضيئا في سماء الثقافة العربية والليبية، ومازالت كتبه تحقق مبيعات جيدة وتتجدد طبعاتها حيث تتنافس دور النشر العربية والدوليّة إلى اليوم لتوزيع مؤلفاته التي صدّرت للعرب وللعالم مثقفا استثنائيا وكاتب بلغ صدى كلماته عواصم كثيرة.
القضايا التي أثارها النيهوم مازالت تثير الجدل بين مؤيديه ومنتقديه وحاسديه أيضا خاصة من بني وطنه الذين يجتهدون بشتى الطرق للتقليل من قيمته ونسب نجاحاته إلى ظروف أخرى غير إبداعه الفكري ومثابرته وجهده، كدعم العقيد القذافي له ماديا وتمويل مشاريعه القافية كالموسوعات التي أصدرها أو البرنامج التلفزيوني الذي كتبه عن الحرب العالمية وبثه التلفزيون بصوت الفنان عبدالفتاح الوسيع أو مجلة الناقد التي ترأس تحريرها لتتصدر كل المجلات والصفحات الثقافية في العالم العربي حيث يبدأ ربيعها الإبداعي بالصادق النيهوم وأنسي الحاج لتحقق نجاحات في كل الوطن العربي ولعلها المجلة الوحيدة التي مازال يتبادلها القراء إلى الآن ليس كمجلة فحسب إنما أيضا ككتاب إبداعي، حيث يجد فيها القارئ مقالات ومقاربات وقصصا لعدة أسماء ناشئة في ذلك الوقت منحها النيهوم الضوء والتشجيع لتكون اليوم من أهم الأسماء الثقافية العربية.
ومن بين التهم التي تواترت كثيرا عن الرجل نذكر اتهامه بكتابة الكتاب الأخضر، ونفي حصوله على درجة الدكتوراه، فقط لأن أحد الكتاب في طرابلس لم ير الشهادة بعينيه ليتأكد من حرف الدال الذي صار في الندوات الأخيرة يباع ويشترى بل تحول من محل فخر إلى محل إساءة حيث تمتع به حاليا كل من هب ودب دون بذل أي جهد علمي فعلي ليناله، لكن عموما كل كتاب من كتب النيهوم يمكننا أن نعتبره شهادة دكتوراه، واعتقد أن انتقاد النيهوم من خلال مناقشة ما قدمه من أفكار أفضل من انتقاد الظروف التي عاش فيها أو الشهادات التي تحصل عليها، لكن دائما القشور تبحث عن القشور وتبتعد عن اللب الذي سيحرقها.
حقيقة لم أقرأ النيهوم بشكل جيد أو التقيه شخصيا، حيث بدأت اهتماماتي بالأدب بعد رحيله بخمس سنوات فقرأت ما وجدت من أعداد مجلة الناقد ثم قرأت كتبه "فرسان بلا معركة" و"تحية طيبة وبعد" و"القرود" و"من مكة إلى هنا" وكتابا آخر به حوار معه أجراه الكاتب رضوان بوشويشة والروائي ابراهيم الكوني والشاعرة فاطمة محمود ورئيس تحرير الملحق الثقافي الأستاذ عبدالرحمن شلقم وكان بوشويشة يحاصر النيهوم في زوايا ضيقة ينقذه منها عادة ابراهيم الكوني وعبدالرحمن شلقم وأخذت فكرة جيدة عنه وأعجبني أسلوبه في الكتابة وعباراته الرشيقة ذات الإيقاع المتوازن ولكن انزعجت بعض الشيء من بعض الكتاب الليبيين الذين يدافعون عن النيهوم بتطرف ولا يقبلون انتقاده وكأنه نادي كروي يشجعونه بتعصب حيث تشعر وأنت تناقشهم أنه ليس هناك أي كاتب في ليبيا أو في الوطن العربي أو العالم سوى النيهوم وتقول لهم أن الثقافة بحر ولا يمن اختزالها في كاتب بعينه مهما كانت إمكانياته الفنية في عالم الكتابة. يقولون لك أنت منزعج من الرجل ولا تحبه.
ذات مرة كنت جالسا في مقهى بطرابلس مطل على ميدان الشهداء، أشرب المكياطة وأتأمل الحياة المارة أمامي. كان الوقت بعد المغرب، وجاء كاتب من بنغازي، كان يكتب في جريدة الحقيقة طلب قهوة عربية وأشعل "سبسي مالبورو" ورأى لدي أحد الأعداد القديمة لمجلة الناقد، اشتريته من بائع كتب قديمة لديه فرشة كتب تحت مبنى بنك مطل على الساحة. قال لي صاحبي إن هذه المجلة أسسها النيهوم وجمع فيها كل الكتاب العرب الكبار، كان هو يكتب افتتاحيتها وبها مقالات كلها جمعت فيها كتبه "الإسلام في الأسر" و"إسلام ضد الإسلام" وغيرهما. قلت له صحيح. بعد ذلك جاء سؤاله المهم الذي تسمعه دائما من كل أنصار النيهوم آه ما رأيك فيه، قلت له كويس، وهنا تقوم القيامة ويضرب الطاولة بيده لتتناثر القهوة على الكتب، ويبدأ في الصراخ، "كيف اكويس بس، شنو كلمة كويس حافة، النيهوم عبقري النيهوم ممتاز النيهوم مفكر كبير"، أنتم الجيل الجديد لا تحبون النيهوم لا تعرفون قيمته. جاء نادل المقهى وتجمع حولنا الناس، وأنا أضحك ، وضحكي يرفع من عصبيته أكثر، ولا حل هنا إلا أن أغادر المقهى. حاسبت النادل وقلت لصاحبي الكاتب والصحفي المخضرم، نلتقي ليلا في الفندق والآن إلى اللقاء. توفي صاحبي مؤخرا وكان سعيدا لأنه سيدفن في مقبرة الهواري حيث يرقد النيهوم. قبل ذلك كانت مقبرة الهواري مقفلة لوقوعها في موقع اشتباكات، وللأمانة هو راض عني لأني أكملت قراءة كل كتب النيهوم بالفعل التي كتبها أو التي كتبت عنه وواصلت قراءة ما يكتب عنه آخرها "كتاب الدلال". أتذكر أني التقيته ذات ضحى وهو بكامل أناقته في مكتب المترجم والكاتب الأستاذ رمضان جربوع وقلت له قرأت النيهوم وهو كاتب ممتاز فابتسم وقال لي "أيوه هكي احترم الأساتذة"، وأضاف اليوم سأستضيفك للغداء عندي، وبالفعل حصر ذلك. وفي بيته عرض عليّ الكثير من كتب النيهوم في طبعاتها الأولى وأيضا صور كثيرة وأعداد من جريدة الحقيقة التي نشر فيها النيهوم مقالاته وكانت لا تبقى في المكتبات، فالقراء يصنعون طابورا أمام المكتبة لاقتنائها وبعد ذلك النسخة الواحدة من الجريدة تنتقل من يد إلى أخرى للقراءة وليس للف السندوتشات أو مسح السيارات في ورش السمكرة.
وعموما من الخسائر التي منيت بها ليبيا هي رحيل أبرز كتابها ومفكريها المؤثرين باكرا. لم يواصلوا الحياة ليحضروا هذا الربيع العبثي الذي أحرق الأخضر واليابس، الآن يوجد مفكرون لكنهم غير مؤثرين في الشارع، أفكارهم تظل داخل الكتب أو داخل الندوات التي ينشّطونها، لم يكتبوا شيئا يمكنه أن يحرك الحياة ويجعلها تنتفض لوقف هذا العبث. الكلمة التي يمكنها أن تهزم الرصاصة مازالت عالقة في الحلق، لا أحد أخرجها، ربما لأنها لم تنضج بعد أو ربما لأنها ليست من القلب فعلا.
في الذكرى العشرين لوفاة النيهوم كتبت في إحدى مواقع الانترنيت هذه الجمل التي تتحدث عن غيابه في وقت تحتاجه فيه ليبيا كثيرا، غياب ليس منه لكنه من ربه، غياب لا راد له، لكن النيهوم رحل جسدا وترك كلماته التي يمكن لمن يتعاطى معها ويتفهمها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه أذكر أني كتبت أن "الصادق النيهوم كاتب مؤثر جدا في الوجدان الليبي، ولو كان حياً، كان يمكنه أن يفعل أي شيء، يمكنه أن يقود الشعب، خاصة جيل الشباب إلى واحة السلام. يملك حضورا (كاريزما) ربما تكون قد ساعدته بشكل أو بآخر في نجاحه ككاتب تنويري سجالي يشعل الحرائق ويفجر القضايا والمسائل المخلخلة للثوابت، يمكنه أن يلقي خطابا حتى وهو ليس رئيساً. لا شك أنه سيوقف مثل هذا الدمار، سينصت إليه المتحاربون، وسيتوقفون عن قتل ليبيا فيهم بكل هذه الضراوة، سيحدثهم عن تاريخ ليبيا القديم، وسيتحدث إلى الجامع في يوم الجمعة، سيلتف الجميع حوله، خاصة جيل الشباب وقود المعارك الحالية."
لو كان النيهوم حيا لتمكن من حل المشكلة، ولقفز إلى السلطة التي يسعى إليها كما ذكر الروائي إبراهيم الكوني في سيرته الذاتية "عدوس السُرى"، بطريقة ديمقراطية سهلة أريحية. يقول الكوني في سيرته: "قال لي يومها إن غايته دوما كانت السلطة، كل ما هنالك أن العسكر ذهبوا إليها من أقصر طريق، وخسرها هو لأنه سعى إليها من أبعد طريق!".