أصبح العمل الصحفي في ليبيا منذ العام 2011، أمرا مرعبا لدى الكثير من المنخرطين في مهنة المتاعب، ففي بلد يعاني ويلات النزاع المسلح والتشظي الاجتماعي والانهيار الاقتصادي، تعيش الصحافة في ليبيا أسوء أحوالها نتيجة تزايد حالات الانتهاكات والاعتقالات التعسفية التي تُمارس ضد الصحفيين، خاصة مع انتشار الميليشيات المسلحة التي لا تخضع لأي قوانين أو سلطة وتمارس سياسة تكميم الأفواه ضد كل من يعارض نشاطاتها الإجرامية.
وليس غريبا أن تكون ليبيا في أواخر قائمة التصنيف العالمي لمؤشر حرية الصحافة التي تصدرها العديد من المنظمات الدولية، فكل المعايير المتعلقة بحرية التعبير والإعلام؛ كالضمانات الدستورية والقانونية للصحفيين، والإصلاح الهيكلي للإعلام، وتزايد أعمال العنف والهجمات الدامية، والاعتداءات الجسيمة، من الطبيعي أن تضع ليبيا في مؤخرة دول العالم.
وفي آخر تقرير لمنظمة مراسلون بلا حدود مؤشر حرية الصحافة لعام 2018، وصدر في الـ25 من أبريل/نيسان، والذي يقيس أوضاع الصحافة في 180 بلداً حول العالم، احتلت ليبيا المرتبة 162 على المؤشر محققة تقدماً لمرتبة واحد عن العام 2017، وهي في المرتبة 15 عربيا، والأخيرة بالنسبة لدول إفريقيا الشمالية. وذكرت المنظمة أن العمل الصحافي في ليبيا محفوف بالمخاطر ووصفتها بأنها واحدة من أخطر دول العالم.
وأرجعت منظمة مراسلون بلا حدود الترتيب المتدني لليبيا إلى عدم الاستقرار السياسي والأمني والصراع المفتوح الذي دفع بالصحفيين إلى الفرار من البلاد خشية العمليات الانتقامية، إضافة إلى أن أطراف الصراع في البلاد تفرض مزيدا من القيود على حرية الصحافة وفق المنظمة. وجهت المنظمة انتقادات للسلطات الليبية، قائلة إنها لم تتخذ خطوات لتوفير الحماية للعاملين في الإعلام، وغالبا يصبح المنفى الاختيار الأفضل للعاملين في هذا الحقل.
وتتنازع سلطتان الحكم في ليبيا، إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب، وسط انقسامات لكل مؤسسات الدولة. فيما تنتشر العديد من المليشيات المسلحة ذات الولاءات المختلفة وخاصة غرب البلاد، حيث تفرض قواعدها ورؤاها بقوة السلاح، وبات الصحفيون يئنون تحت تهديد حراب البنادق، التي تسكت الأصوات الباحثة عن رصد الواقع بحرية ومهنية.
وألقى هذا الوضع الأمني والسياسي بظلال وخيمة على واقع الصحافة والإعلام في ليبيا، وساهم بشكل كبير في قمع حرية التعبير، بعد أن وجد الصحافيين أنفسهم عرضة للاغتيال والخطف والتعذيب دون حماية أمنية ولا قضائية ولا قانونية. وقد وثقت وحدة الرصد والتوثيق مابين يناير عام 2012 وديسمبر عام 2015 ، 384 جريمة واعتداء جسيم تعرض له الصحفيون ووسائل إعلام عدة مابين القتل العمد والشروع بالقتل أو الاختطاف والتعذيب والاعتقال التعسفي والاعتداء بالضرب فضلاً عن الملاحقات القضائية الجائرة بقوانين باهتة.
وفي العام 2016، تم تسجيل 107 حالة اعتداء عنيفة ضد الصحفيين، بحسب المركز الليبي لحرية الصحافة. وهاجمت الجماعات المسلحة العاملين في وسائط الإعلام في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك الاعتداءات البدنية وقتل صحفيين اثنين. ووفقا للمركز، لقي تسعة صحفيين مصرعهم أثناء أداء واجبهم فى ليبيا منذ عام 2014.
وفي مايو 2017، رصد قسم شئون الصحافة والإعلام وقسم تقصى الحقائق والرصد والتوثيق باللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا منذ بداية عام 2017 وقوع 32 حالة اعتداء وانتهاكات بحق الصحفيين والإعلاميين والمؤسسات الإعلامية فى ليبيا تباينت بين الاختطاف والاعتقال القسرى ووقف بث الوسائل الإعلام المسموعة والاعتداءات على مقر قنوات فضائية وراديو مسموعة وتهديدات بالقتل والاختطاف لصحفيين وإعلاميين.
ويُعد ملفُ حرية الصحافة والإعلام وضمان وتعزيز حرية التعبير والعمل الصحفى ودفاع عنها من أبرز الملفات و القضايا الرئيسية التى تعمل عليها اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا، من خلال رصد وتوثيق الجرائم والانتهاكات التى ترتكب بحق الصحفيين والإعلاميين والمؤسسات الإعلامية والعمل على الحد منها ووقفها من خلال الدعوة لمحاسبة مرتكبيها وإنهاء حالة الإفلات من العقاب التى باتت متفشية فى ليبيا، نتيجة غياب العدالة والملاحقة القضائية وسط توسع دائرة العُنف والانتهاكات الجسيمة الموجه ضدَّ الصحفيين وغيابٍ للحُريات الإعلامية المنشودة فى ليبيا.
وفي تقرير لها في يوليو 2017، أفادت منظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الإنسان بتعرض ناشطين وحقوقيين للاعتداء الجسدي والاحتجاز والمضايقات والإخفاء على يد مجموعات مسلّحة "بعضها ينتمي إلى السلطات الحكومية، في طرابلس وفي أماكن أخرى غرب البلاد". وقالت المديرة التنفيذية بالمنظمة لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في تقرير نشره موقع المنظمة الرسمي، إن ثمة ميليشيات ومجموعات مسلحة تعمل بعقلية "إمّا معنا أو ضدّنا"، تلاحق الناشطين والمدونين والإعلاميين ودفعت بعديد منهم إلى مغادرة البلاد وأسكتت الآخرين، وفق قولها. وطالبت المنظمة على لسان المديرة التنفيذية بالشرق الأوسط، حكومة الوفاق الوطني بمحاسبة المجموعات المسلحة وتحديدا تلك التابعة لها في حال هددت ناشطين أو ضايقتهم أو اعتدت عليهم.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، رفعت مراسلون بلا حدود وسبع منظمات أخرى معنية بالدفاع عن حرية التعبير والصحافة رسالة مفتوحة إلى هيئة صياغة مشروع الدستور الليبي تدعو فيها إلى تعديل النص التشريعي حتى يتماشى مع المعايير الدولية المعمول بها في هذا الصدد، إذ من شأن اعتماد دستور يكفل حرية الصحافة ويضمن حماية المصادر وأمن الصحفيين أن يشكل رسالة قوية إلى كل من ينتهكون حرية الإعلام بشكل يومي، بل وقد يمثل خطوة هامة في سبيل مكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين.
ورغم التحذيرات المتواصلة، فإن مسلسل الاعتداءات على الصحافيين، ففي أبريل الماضي، أعلن "المركز الليبي للإعلام وحرية التعبير"، أن العضو في المركز الصحافي رمضان التويب أوقف في منطقة عين زارة في العاصمة طرابلس من قبل مسؤول أمني، واصفاً الواقعة بـ "الخطف"، معرباً عن "أسفه لاستمرار نهج وسياسات تضييق الخناق وملاحقة الصحافيين والحقوقيين من قبل الجهات الأمنية، والمجموعات المسلحة، والتنكيل بحرية الصحافة.
فيما أكد مقرر"اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا"، أحمد حمزة، في تصريح لوكالة "سبوتنيك" الروسية، إن "عمليات الخطف والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري في ليبيا باتت شائعة وظاهرة بشكل كبير"، مشيراً إلى أن عدد الضحايا في العام 2017، بلغ 186 حالة خطف، و143 حالة اعتقال تعسفي، بالإضافةً إلى رصد 34 حالة اعتداء واعتقال غير قانوني وتهديدات ضد الصحافيين والناشطين المدافعين عن حقوق الإنسان.
وفي ظل فشل الحكومات الموجودة، سواء عن قصد أو عن عجز، على حماية الإعلاميين وتتبع الأطراف المتورطة في جرائم ضدهم، لا يجد الصحافيون في هذا البلد من خيارات سوى المغادرة أو الإقلاع الإجباري عن مزاولة العمل الصحفي. وفي تقرير لها في فبراير 2018، أشارت منظمة مراسلون بلا حدود، إلى إن ممارسة المهنة في ليبيا أصبحت "مغامرة" محفوفة بالمخاطر، وأدانت الإفلات من العقاب الذي ينعم به من يرتكبون الانتهاكات ضد الصحفيين، مضيفة أن هذا المناخ يدفع نحو إخلاء البلاد من الصحفيين.
ويرى المتابعون للشأن الليبي، إن الصحافة اليوم في ليبيا تمر بأصعب أوقاتها التي لم تعهدها من قبل، حيث إن الجناة الذين يمارسون هذه الانتهاكات التي تصل حدَّ القتل لا يجدون عقابا رادعاً لأفعالهم من قبل السلطة القضائية، مما جعل هذا الأمرَ سهلاً وبسيطاً إلى حد كبير، فيستطيع أي شخصٍ أن يعتدي على صحفي دون أن يلاحق قانونيا.
وفي مايو 2018، قالت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا في بيان لها، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، أن هذه الذكرى السنوية العالمية، تأتي "في ظل استمرار الانتهاكات والتضييق على حرية الصحافة والإعلام والكلمة والوصول إلى المعلومة وعدم السماح للرأي المخالف بالتعبير الحر بحق الصحفيين والإعلاميين والمؤسسات الإعلامية في ليبيا.
وأشارت اللجنة إلى تصاعد الاعتداءات والانتهاكات بحق الصحفيين الليبيين من جرائم الاختطاف والاعتقال والإخفاء ألقسري من قبل الجماعات والتشكيلات المسلحة بعموم البلاد في ظل استمرار حالة الإفلات من العقاب نتيجة انهيار الأجهزة الأمنية وضعف منظومة العدالة واستمرار حالة الإفلات من العقاب التي باتت عاجزة عن ملاحقة الجُناة ومحاسبتهم.
وأعربت اللجنة "عن تضامنها الكبير مع الصحفيين والإعلاميين الضحايا والمتضررين جراء هذه الجرائم والانتهاكات البشعة التي ارتكبت بحقهم". مطالبة "جميع السلطات الأمنية والعسكرية بعموم البلاد بضرورة بالالتزام بالقوانين والأعراف والمواثيق والإعلانات الدولية الضامنة لحرية الصحافة والإعلام، ووقف جميع أشكال الممارسات والانتهاكات التي تمس بشكل مباشر حرية الصحافة والإعلام وحرية الصحفيين والإعلاميين في ليبيا، وكذلك وقف ممارسة سياسة تكميم الأفواه أو تقييد العمل الصحفي والإعلامي في ليبيا".
يعتبر الإعلام، السلطة الرابعة في البلاد، نظرا لدوره المؤثر في إيصال المعلومة للرأي العام وكشف الحقائق ورصد القضايا وتحليلها، لكن في غياب السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، تبقى السلطة الرابعة في ليبيا، رهينة خروج البلاد من الأزمة التي ألقت بها في دوامة من الفوضى والصراع وسط غياب تام لمعالم الدولة القادرة على بسط نفوذها وتحقيق الأمن والاستقرار وضمان حرية التعبير.