بعد العديد من الأحداث المهمة التي تأخذ حيزاً في ليبيا، سواء أكانت الداخلية من تقدم للجيش والتحضير للانتخابات، أم خارجية لجهة موضوع اللاجئين ومقررات الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن، يبدو أن الأمور تتجه إلى رسم مستقبل جديد في طرابلس الغرب. عن هذه الأمور وغيرها، سأل مركز “سيتا” الأستاذ علي شندب، المراقب السياسي والخبير في الشأن الليبي، عن الواقع الموجود في ليبيا اليوم، ومدى إمكانية وجود حلول ترضي الأطراف فيها من أجل إنهاء الصرع الدائر فيها منذ العام 2011.
فرنسا شريك في “العدوان والحل”
في البداية، يجب القول بأن اللقاء الذي شهدته فرنسا أواخر الشهر الماضي تقريباً، بين قوى وأفرقاء ليبيين، هو نتاج طبيعي لأشخاص “مولودين” من رحم عدوان الناتو على ليبيا والذي قادته فرنسا بشخص رئيسها الأسبق، نيكولا ساركوزي. إن هذه “القوى الثوروية”، بمن فيها الجنرال خليفة حفتر، هم أطراف أتوا على متن الأساطيل الناتوية وكانوا “جيش الناتو البري” لتحقيق هدف مشترك غربي – عربي يتمثل في الإطاحة بنظام الجماهيرية بقيادة العقيد معمر القذافي، من خلال ما سمي بـ “ثورة 17 فبراير” (شباط) أو “ثورة برناير” كون زعيمها الحقيقي هو برنارد هنري ليفي.
ما يبرر ذلك، عدم وجود خطة عمل بديلة لـ “اليوم الثاني” على إسقاط القذافي. وبرغم مرور أكثر من سبع سنوات، لم تستقر ولم يتم حتى وضع نظام لها إلى الآن، مع تسجيل أمر خطير جداً وهو انتشار الفوضى من خلال الميليشيات المسلحة التي تقتطع الأزقة وتتحكم بالمدن، إذ يمكن التسليم بوجود نوع من “الفيدرالية الميليشياوية – القبائلية” التي تتحكم بالمشهد الليبي مدارة من قبل أجندات خارجية “إقليمية – دولية”. بالتالي، إن من يتحكم بالمشهد، اليوم وبالتأكيد، هي الولايات المتحدة الأمريكية ومن تحتها أوروبا، ثم تركيا وقطر عبر ذراعهم المسمى “الإسلام السياسي في ليبيا”، إضافة إلى الإمارات العربية ومصر والسعودية إلى حد ما “نسبياً”، كونهم يقفون خلف الجنرال حفتر.
من هنا، تريد فرنسا وقف فاتورة الحرب الليبية التي دفعت ثمنها عمليات إرهابية، لكن ذلك يبقى جزءاً من الثمن الذي دفعته باريس وقد تدفع المزيد منه لما ارتكبوه إذ دمروا الدولة التي كانت تضبط البر والبحر والجو. أما اليوم، أصبحت ليبيا ممراً للهجرة غير الشرعية وللإرهاب والمخدرات والسلاح.
الجيش الليبي.. “الأمل البديل”
ما يسجل في هذا المشهد، استثناء ولعله يكون مدماكاً قد يؤسس لبناء الدولة الليبية، هو بناء الجيش الليبي الآن بقيادة خليفة حفتر الموجود في المنطقة الشرقية من ليبيا. فلقد أصبح عديد هذا الجيش يقارب الـ 50 ألف مقاتل، بينهم ضباط محترفين. أما العصب الحقيقي لهذا الجيش، فيتمثل في انضواء أغلبية الضباط الذين كانوا مع العقيد القذافي ضمنه، ومنهم رئيس الأركان البرية وقيادة المناطق الجنوبية، حيث وجدوا في إعادة بناء الجيش فرصة لتوحيد البلاد وضرب الإرهاب ومحاولة القضاء على الحركات التي قوضت ودمرت ليبيا.
يشكل الجيش أملاً لأمان ليبيا خصوصاً بعد النجاحات التي حققها، كتحرير مدينة بنغازي من مجلس شورى “ثوار بنغازي” وبعض التنظيمات الإسلامية الأخرى، وتحرير مدينة درنة التي كانت تعتبر معقلاً لـ “تنظيم القاعدة” وغيره من التنظيمات الإخوانية، واستعادة الحقول النفطية، بالتزامن مع تحرير درنة، من “ثوار فبراير” الذين حاولوا وضع يدهم على منطقة الهلال النفطي حيث الموانئ النفطية، فلقد استطاع الجيش توجيه ضربات قاصمة لهذه المجموعات وأعاد السيطرة على المنطقة. إخضاع تلك المنطقة، بثت رسائل كثيرة على المستوى الشعبي مفادها أن الجيش قد يشكل أملاً بديلاً عن الميليشيات والجماعات المسلحة غير المنظمة، والتي تقتل بلا سبب وتمتلك سجون سرية وتعمل بأجندات خارجية غربية وخليجية وإقليمية.
هنا، وعند حديثي عن الجيش، فإنني لا أعني الجنرال حفتر، لأن القيادات تتبدل تبعا للظروف، بل أقصد الجيش كمؤسسة منبثقة من الشعب يقع عليها عاتق توحيد البلاد وتحريرها.
مخيمات للاجئين
يبرز موقع ليبيا لجهة كونها مركز وسوق مزدهر للإتجار بالبشر عبر عصابات منظمة ترعاها أجهزة استخبارات دولية، “تستورد” البشر من كل القارة الأفريقية ويتم تسهيل عبورهم من خلال الصحراء وصولاً إلى الشواطئ، وبعدها يتم نقلهم إلى أوروبا بحرا.ً
ففي ألمانيا، تقدم وزير الداخلية الألماني، هورست زيهوفر، باستقالته بسبب خلافاته مع المستشارة أنجيلا ميركل على خلفية ملف المهاجرين غير الشرعيين، والمعني بذلك ليس السوريين أو العراقيين إنما الأفارقة تحديداً القادمين عبر الصحراء الليبية، مهدداً بذلك الائتلاف الحكومي، لكنه عدل عن هذه الاستقالة لأسباب لم توضح بعد.
وخلال مناقشة المقترح الأوروبي بشأن وضع خطة لتدفق اللاجئين، حدثت مشادات عنيفة قادها وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو سالفيني، الذي طرح إقامة مراكز إيواء أو “مخيمات” للمهاجرين من أفريقيا، إذ تحدث سالفيني عن إقامة وتجهيز مخيمات استقبال للمهاجرين الأفارقة، بمدينة غات، في عمق الصحراء الليبية بمحاذاة الجزائر المفتوحة على كل من السودان، لجهة الكفرة، تشاد، لجهة سبها، ومالي والنيجر عبر غات أيضا. هذا وستبدأ اللجنة الإيطالية – الليبية اجتماعاتها في طرابلس لتمكين القوات الإيطالية من مراقبة الحدود الجنوبية والتصدي للهجرة غير الشرعية، وترأس الوفد الإيطالي سفير ايطاليا في ليبيا، جوزيبي بيروني.
ضمن تفاعلات هذا المقترح، رأت أوروبا أنه من المفيد إنشاء مخيمات للجوء داخل ليبيا وتوطينهم فيها، غير أن هذا الإجراء يعني إحداث تغيير ديموغرافي خطير في التركيبة السكانية الليبية ذاتها، كما قد يتحولون إلى قوة نفوذ، أو جيش إيطاليا “المستقبلي”، بسبب عددهم الكبير للسيطرة على منابع النفط في الجنوب. فإذا كان الجيش قد استعاد منطقة الهلال النفطي لقطع الطريق على روما حيث تتمركز شركة ايني الإيطالية في مليتة قرب الحدود مع تونس، فهي تستطيع أن تلعب بورقة السيطرة على المنابع. والحديث عن الموضوع الإنساني للهجرة لا يهدف سوى إلى إنشاء “كيان بشري جديد” قوامه المهاجرين لتحقيق مصالح دولية، وهو ما يوحي عملياً بإمكانية تقسيم ليبيا مستقبلاً.
بالنسبة إلى ردة الفعل الشعبية الليبية، فقد صدر عن أهالي وقبائل غات، وهم من الطوارق الموالين للعقيد القذافي، بياناً نددوا فيه بتلك المقررات مشيرين بأنهم لن يسمحوا، لا لإيطاليا ولا لغيرها، بنشر قطع عسكرية في الجنوب وهو ما تطرق إليه أيضا المتحدث باسم حفتر العميد أحمد المسماري خصوصاً بعد أن استتب الأمن في المنطقة الشرقية ، فأصبح لدي الجيش فائض من القوة إذ بإمكانه إرسال نصف تعداده إلى الجنوب لمكافحة عصابات الإتجار بالبشر وتأمين الليبيين هناك وبالتالي قطع الطريق على الأوروبيين للتدخل بحجج إنسانية ومنع نشر قطع عسكرية كمقدمة لـ “استعمار جديد” والاستحواذ على منابع وحقول النفط لا سيما مع توافر معلومات تشير إلى أن الإيطاليين تواصلوا مع بعض وجهاء منطقة الجنوب، التي تفتقر إلى الخدمات من بنى تحتية وكهرباء وغذاء وغير ذلك، إلى العديد من التفاهمات في هذا الخصوص، بالرغم من نفي السفير الإيطالي في ليبيا.
للأسف، لم ينبه الإعلام العربي ومراكز الدراسات والأبحاث المهتمة لمخاطر التوجه الأوروبي في نشر قطع عسكرية وإقامة مخيمات للمهاجرين الأفارقة في الجنوب الليبي. وحدهم الجزائر ومصر رفضوا المشروع على أن قبائل الجنوب الليبي متداخلة مع قبائل الجزائر، فهم قبائل واحدة موزعة على حدود البلدين.
الانتخابات العامة
فكرة الانتخابات خرجت من “لقاء باريس” الذي جمع الرئيس ماكرون مع الثلاثي الليبي، خليفة حفتر – عقيلة صالح – فائز السراج، وكان مقررا أن ينضم إلى اللقاء، الإخواني خالد المشري، رئيس مجلس الدولة، حيث قال “أنا لا أشارك في اجتماع يحضره عسكريين”، وبالتالي وضع “فيتو” على حفتر رافضاً الاعتراف به.
الانتخابات قد تجري وقد لا تجري تبعاً للظروف الأمنية التي قد تتطور بشكل أو بآخر. فإذا حصلت، يجب على الليبيين الارتكان إلى نتائجها وما تقرره صناديق الاقتراع خصوصاً إذا ما سمح للجميع بالمشاركة دون استثناء، لا سيما “أنصار القذافي” والمنتشرين في دول جوار ليبيا والعالم وهم يمثلون ثلث الشعب.
بالنسبة لي، أقول من الآن بأن النتيجة شبه محسومة لسيف الإسلام القذافي لأن أداء الحكام الجدد، أي “الميليشيات الناتوية” ما بعد سقوط القذافي ولمدة سبع سنوات، حول ليبيا من دولة دائنة إلى مدينة يجوب الموت شوارعها، إضافة إلى حوالي مليون ونصف مهجر ومنفي قسراً. لقد أسقطوا القذافي لكنهم لم يستطيعوا إنتاج حكم يوافق عليه الشعب واستطاع أن يحكم، لماذا؟ لأنهم أدوات لجهات خارجية.
*المصدر: مركز سيتا للدراسات