كل التبريرات التي يحاول الساسة الليبيون، جميعهم دون استثناء، تقديمها حول أزمة مصرف ليبيا المركزي لا يمكن أن تقنع المتابعين ولا الشعب، باعتبار المسألة أصبحت نوعا من اللعب بمصير وطن بأكمله، بل هي إشارة انقسام لا يمكن تقدير خطورتها في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلاد، في ظل إصرار كل طرف على المضي قدما في مواقفه دون وجود أي ملمح للتنازل رغم الدعوات المتكررة بضرورة توحيد المؤسسة التي تتحدد عبرها موازنات الدولة وموقعها المالي والاقتصادي في العالم، وهي المتحكمة في أموال البلاد في الخارج والموكول لها معالجة كل الاضطرابات الاقتصادية محليا وخارجيا.

من دون أدنى شك أن ما يعانيه مصرف ليبيا المركزي هو نتيجة حتمية لما مرّت به البلاد بعد أحداث 2011 من اضطرابات مست كل مناحي الحياة ومن بينها مؤسسات الدولة الرسمية، الأمر الذي خلق أزمة في السيولة وتراجعا كبيرا في قيمة العملة المحلية بالإضافة إلى الخلاف حول عائدات النفط باعتبارها تنزّل عبره. فتنازع الصلاحيات والصراع على المناصب السيادية والطمع في المكاسب وغيرها من المسائل كانت سببا في ما وصل إليه حال المصرف وحال البلاد بصفة عامة باعتباره هو الصورة القيمية المادية لما يتحكم فيه من موارد.

إلى حدود العام 2014، حافظ المصرف المركزي الليبي على نوع من الاستقرار على مستوى رئاسته. حتى الفترة الأولى التي أعقبت الإطاحة بالعقيد معمّر القذافي تعاقب عليه عدد من المحافظين بشكل سريع ومتسلسل وغير منطقي، لكنه حافظ عموما على وحدته وكان يسيّر من مقرّه الرئيسي في طرابلس إلى حين إعلان مجلس النواب سحب اعترافه "بالصدّيق الكبير" بسبب مخالفات مالية تتعلق بتمويل أطراف سياسية قريبة منه، فتمت إقالته والمصادقة على تعيين علي الحبري الذي بدأ بعد تعيينه يسيّر أعمال المصرف من مدينة البيضاء بسبب تمسك أطراف في طرابلس ببقاء الكبير إلى حين التشاور المشترك حول بديل له.

ورغم أن بعض الأطراف النافذة خارجيا أعلنت في مرحلة أولى تأييدها لخطوة مجلس النواب والاعتراف بعلي الحبري محافظا للمصرف باعتباره معينا من سلطة شرعية قائلة "المجتمع الدولي ... يعترف بمجلس النواب بوصفه السلطة الشرعية الوحيدة في ليبيا. وطبقا للإجراءات المعمول بها في الصندوق تم الاعتراف بالسيد الحبري محافظا لليبيا لدى الصندوق." لكن التطورات السياسية التي عرفتها البلاد بعد 2015، غيّرت بعض المواقف الدولية بحجة الضرورة وأصبحت مواقفها تتجه نحو طرابلس، اعتبارا لما أفرزه اتفاق الصخيرات الذي بدوره لم يكن محل إجماع بين كل الليبيين. بل إن المصرف أصبح جزءا من المعادلة الدولية المتنفذة في ليبيا وهذا ما ألمح إليه عضو مجلس النواب عبدالسلام نصية في تصريحات إعلامية قريبة.

وفي محاولة منه لتوحيد القيادة في المصرف المركزي، قدّم رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج في نوفمبر 2017 دعوة للأطراف المعنية من أجل الالتقاء على أرضية واحدة تلقاها طرف البيضاء بإيجابية لكن الصدّيق الكبير اختار الصمت، وهذا طبيعي بالنسبة إليه باعتباره يرى في نفسه الشرعية المعترف بها دوليا و"المنقلب عليها" من مجلس النواب. إيجابية الحبري كانت عبر مكتوب رسمي جاء فيه نحن تحت تصرفكم وفي خدمة الوطن والمواطن، ولن يتردد أعضاء مجلس الإدارة في عقد جلسة استثنائية برئاستكم ، لاتخاذ ما يلزم من إجراءات من شاناه تصحيح المسار". ما فهم منه رغبة من مجلس البيضاء في التباحث الجدي إدراكا لخطورة الوضع المالي والاقتصادي للبلاد.

وفي الوقت الذي كان الاعتقاد سائدا بأن أطراف الخلاف ستجتمع من أجل توحيد المصرف، خاصة في ظل المؤشرات التي تخرج حول تقدّم نسبي في ما هو سياسي، جاء القرار الذي يشير إلى تواصل عمليات الشد في علاقة بهذا الملف، حيث صوت مجلس النواب في طبرق على تعيين محافظ جديد هو محمد الشكري خلفا لعلي الحبري لتخرج الخلافات إلى الواجهة من جديد، تضاف إلى مشكلة مصرف ليبيا الخارجي الذي بدوره أمام بعض الإشكالات التي يهدد كل طرف باللجوء إلى القضاء بسببها بعد قرار الصدّق الكبير وسط أغسطس الماضي، إقالة مجلس إدارته، وإصرار كل طرف على التمسك بمواقفه حوله.

 قرار تغيير محافظ مركزي البيضاء رد عليه طرف طرابلس بأنه إجراء غير قانوني مثل الإجراء الأول مع الحبري، باعتبار أن اتفاق الصخيرات (وهو الذي خصص مادة حول المؤسسات السيادية الليبية) نص في إحدى مواده على أن تعيينات تلك المؤسسات تتم بالتشاور بين مجلسي النواب والأعلى للدولة وهو ما لم يحصل في حالتي علي الحبري ومحمد الشكري، لتتواصل أزمة تنازع الصلاحيات وتتواصل معها أزمة دولة بأكملها اقتصادها يهترئ بسبب خلافات السياسة.

ورغم أن مجلس النواب صوّت على تغيير محافظ المصرف منذ ديسمبر 2017، إلا أن محمد الشكري أكّد أنه متمسك بتسيير صلاحياته من مركز العمل الرئيسي في طرابلس وترك صلاحيات التسيير الحالية للحبري، في انتظار أي تطورات قد تحصل حول الموضوع قد تخفف من حدّة الأزمة لعل أهمها اللقاء الذي جمع في 27 أغسطس بين الكبير والحبري في مقر البعثة الأممية بتونس التي علّقت في بلاغها أنه لقاء إيجابي في نتائجه في انتظار أن تُكتشف هذه الإيجابية على أرض الواقع.