يثير الصراع المسلح بين الأطراف المتقاتلة في ليبيا الكثير من التساؤلات والمخاوف حول حقيقة الأوضاع في هذا البلد العربي ومآلات ونتائج الصراع وانعكاساتها عليه وعلى توازن القوى الداخلي فيه، وعلى دول الجوار المختلفة والإطار الإقليمي الأوسع. والحقيقة أن العنف الذي اندلع أخيرا هناك لم يكن مفاجئا، وإنما كان حصيلة اختمار تفاعلات متعددة منذ اندلاع ثورة الـ17 من فبراير 2011، بل ربما ترجع لعقود قبلها منذ عهد القذافي. وتتناول هذه الورقة بشكل سريع خلفيات هذا الصراع من خلال قسمين رئيسين: خلفيات ومسببات الصراع المسلح في شرق ليبيا، والمآلات المحتملة للصراع.

 

أولا: خلفيات ومسببات الصراع المسلح في شرق ليبيا

تفاعلت العديد من العوامل التي أدت لتفجر الصراع في ليبيا بشكل عنيف والتي اختلطت فيها العوامل الداخلية بالعوامل الخارجية. ويمكن تقسيم عوامل الصراع إلى عاملين رئيسيين داخلي محلي وخارجي إقليمي.

أ ـ العوامل الداخلية

1 ـ الصراع بين النخب الجديدة وبيروقراطية الجيش والدولة القديمة: يعبر هذا الصراع عن نزاع عميق ممتد بين النخب الجديدة التي أفرزتها الثورة من الداخل أو من معارضة الخارج، والنخب الموروثة من عهد القذافي سواء المؤيدة له أو المنشقة عنه والمعارضة، أيضا عن تنازع النخبتين على الثروة والسلطة في ليبيا ما بعد الثورة. كما يعبر هذا الصراع عن رغبة الطرفين في تصفية حساباتهما القديمة منذ عقد القذافي. فالمليشيات وكتائب الثوار السابقين ترفض تقوية الجيش الليبي من أجل إبقاء سيطرته على العديد من المناطق، إضافة إلى اتخاذ بعض التيارات الجهادية مواقف متشددة ضد الدولة والجيش عموما باعتبارهم أدوات في أيدي قوى خارجية وممثلين لاتجاهات غير إسلامية. ويتهم الإسلاميون المتطرفون باغتيال اللواء عبد الفتاح يونس في تموز (يوليو) 2011. من هنا فإن اللواء خليفة ختر هو في الحقيقة يعد استمرارا لرمزية هذا الصراع بين النخب الجديدة والنخب القديمة من الضباط والبيروقراطيين الذين يتصارعون في ليبيا الجديدة، فالعديد من ضباط الجيش يطمحون لتقوية الجيش ودوره لموازنة دور المليشيات وتحقيق الحد الأدنى من السيطرة الأمنية العسكرية على الأوضاع وهو ما تقاومه المليشيات بشدة وعنف، وشهدت بنغازي تحديدا، إضافة إلى طرابليس العديد من عمليات الاغتيال والاشتباكات المختلفة بين الإسلاميين وقوات نظامية ليبية، خاصة قوات الصاعقة، وصلت إلى حد اختطاف نجل قائد قوات الصاعقة. وتطورت هذه الاشتباكات أحيانا لمصادمات دامية أسفرت عن طرد تنظيم الشريعة من بنغازي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 بعد حرق مقرهم في المدينة. هذا إضافة إلى الدور الذي تلعبه العناصر الجهادية من أنصار الشريعة ومجلس شورى شباب الإسلام الذي أعلن في نيسان (أبريل) 2014 تأسيس إمارة إسلامية في مدينة درنة وباتت العديد من القوى الغربية تتخوف منه، بل تضع سيناريوهات للتدخل في حالة تهديد مصالحها من جديد على غرار حادثة مقتل السفير الأمريكي في بنغازي في أيلول (سبتمبر) 2012.

2 ـ الصراع بين الإسلاميين وخصومهم السياسيين: حيث سعى الإسلاميون للتغلب على الأغلبية النسبية التي حظي بها ائتلاف القوى الوطنية الذي يتزعمه محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي السابق للمجلس الوطني الانتقالي، في المؤتمر الوطني العام عبر العديد من الطرق، لعل أهمها قانون العزل السياسي الذي تم فرضه بقوة السلاح عبر الضغط على أعضاء المؤتمر واقتحامه عدة مرات من أجل الضغط لإقرار القانون، وتفتيت ائتلاف القوى الوطنية والضغط على أعضائه لإجبارهم على التصويت للقانون. ومنع هذا القانون كل من عمل في نظام القذافي من تولي مناصب سياسية، وأجبر الموجودين منهم على الاستقالة، وكان من ضمن المستقيلين محمد يوسف المقريف الرئيس السابق للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا ورئيس المؤتمر الوطني الذي انشق عن نظام القذافي عام 1980، وعبد الرحمن شلقم وزير الخارجية الليبي السابق، ومندوب ليبيا السابق في الأمم المتحدة والذي انشق عقب الثورة مباشرة، فالقانون حرم بالتالي معظم كوادر وبيروقراطية الجيش والدولة وشريحة واسعة من السياسيين الذين قد يمثلون خطرا على الإسلاميين من ناحية المنافسة مستقبليا. ورد خصوم الإسلاميين على هذا القانون فيما بعد برفض التمديد للمؤتمر الوطني العام وذلك في بيان تجميد عمل المؤتمر في 14 شباط (فبراير) الذي ألقاه خليفة حفتر وسماه الكثيرون " الانقلاب التلفزيوني"، ولم تصاحبه تحركات واقعية اللهم إلا تحركات محدودة من قبل كتيبة القعقاع الزنتانية التي ترتبط بائتلاف القوى الوطنية.

من هنا فإن الصراع في ليبيا حاليا هو استكمال للصراع السياسي بوسائل مسلحة بعد أن فشل الفرقاء السياسيون في بناء جسور ثقة وتوافق بين الطرفين، والرغبة في الاستئثار والهيمنة، وتظهر طبيعة الصراع بين الطرفين بشكل واضح في الدعاية التي يتبناها الطرفان، فيما يصف الموالون لحفتر اللواء المتقاعد بأنه قاهر الخوارج والإخوان وتشبيهه بالسيسي من حيث قدرته على محاربة الإسلاميين وفرض الأمن والنظام، بينما يتبنى الإسلاميون دعاية مضادة تقوم على مسميات الشرعية ورفض الانقلاب ونقل السيناريو المصري لليبيا، ومحاربة فلول نظام القذافي الذين يطلق عليهم محليا "الأزلام" أو "الطحالب".

3 ـ الصراع القبلي والمناطقي: وهو مستوى آخر للصراع المسلح الحالي في ليبيا، فمعظم قوات حفتر تنتمي لكتائب وقوات عسكرية، بينما يأتي خصومه من صفوف الكتائب الإسلامية وبعض كتائب الثوار السابقين، وينقسم سكان بنغازي بين الأطراف المتصارعة، ورغم هذا فإن الطبيعة القبلية للمتصاعرين متداخلة للغاية، لكن الطرفين يسعيان لإبرازها بشكل أو بآخر، فحفتر مثلا يسعى لاستنهاض العديد من القبائل ضد الإسلاميين، خاصة من قبيلة العبيدات التي انتمى إليها عبد الفتاح يونس. على الجانب الآخر فإن الصراع المناطقي يبرز واضحا في التنافس بين القوتين الأكبر في الغرب مصراتة والزنتان اللتين تقفان مع قوتين سياسيتين مختلفتين، فبينما تدعم مصراتة المؤتمر الوطني تتحالف الزنتان مع تحالف القوى الوطنية في محاولة لمنع هيمنة مدينة مصراتة على السلطة السياسية في طرابلس، ويتداخل في الصراع بين المدينتين دور القبائل والمناطق الأخرى وعناصر النظام السابق، الأمر الذي يغير لحد كبير طبيعة التحالفات السياسية التي أنتجتها الثورة.

4 ـ انهيار الدولة الليبية وسيطرة المليشيات: فقد عجزت الدولة الليبية عن الحفاظ على الأمن وفرض النظام حتى في العاصمة طرابلس المستباحة من قبل الأطراف المتقاتلة، وتعتمد في بقائها على دعم المليشيات الموالية لها، بينما هي عاجزة حتى عن إجبار منتسبيها على الالتزام بقراراتها. على مستوى آخر، فإن الأزمة بينت مدى الاضطراب في المنظومة العسكرية، فالعديد من عناصر الجيش أعلنت تأييدها لخليفة حفتر، عكس أوامر رئاسة الأركان العامة للجيش، بل خرجت طائرات عسكرية مروحية ونفاثة من قاعدة بنين 1 الجوية من غير علم رئاسة الأركان وضربت أهدافها وعادت إلى قواعدها. وسبق أن أصدر النائب العام الليبي قرارا باعتقال حفتر، بينما كان يقيم بشكل علني في مدينة المرج، وتحت أعين الجميع وبدون قدرة حتى على تنفيذ أي قرار ضده، وفشلت الدولة في بناء قوة نظامية غير حزبية منذ الثورة حتى الآن واكتفت بمحاولة دمج ظاهرية للمليشيات، ما أدى إلى تضخم الهيكل الأمني ليبلغ في وزارة الداخلية نحو 200 ألف عنصر والجيش نحو 100 ألف عنصر، جلهم من عناصر الميليشيات الذين يتلقون رواتب من الحكومة، لكنهم حافظوا على هيكل ميليشياتهم وولاءاتهم بعيدا عن الدولة، هذا إضافة إلى عجز الحكومات المتلاحقة عن التعامل مع الأزمات السياسية والأمنية وحالة الصراع الحزبي العنيف في المؤتمر الوطني بين المكونات السياسية المختلفة. وانعكس هذا التناحر السياسي على خريطة الطريق التي أصدرها المجلس الوطني الانتقالي وتأخر انتخابات الهيئة التأسيسية للدستور، ما يترتب عليه تمديد المؤتمر الوطني لولايته، الأمر الذي فجر مظاهرات ضد القرار وأدى للأزمة الراهنة. وبالتالي يعكس الصراع الحالي التطور المتسارع لحالة تفكك الدولة في ليبيا، وصراع الأطراف المختلفة على السلطة والثروة وتململ قطاعات واسعة من الشارع الليبي من الأوضاع الأمنية المتدهورة والسياسية المتأزمة.

 

ثانيا: المآلات المحتملة للصراع المسلح

يبقى الصراع المسلح في ليبيا مفتوحا على احتمالات متعددة، تراوح بين التهدئة والتصعيد، ويمكن حصر هذه السيناريوهات في الآتي:

1 ـ التهدئة والانفراج: وهو السيناريو الذي من المفترض فيه أن تؤدي إليه انتخابات مجلس النواب الجديد في 25 حزيران (يونيو) المقبل، ثم استكمال الهيئة التأسيسية للدستور عملها في آب (أغسطس) بإتاحة الفرصة للفرقاء السياسيين لحل مشكلاتهم في البرلمان الجديد، بدلا من حلها بالسلاح، ويعول الكثيرون على هذه الانتخابات باعتبارها ستمتص غضب الكثيرين في الشارع الليبي وإلى انخراط المواطنين من جديد في العملية السياسية بعد الإحباط الشعبي من أداء المؤتمر الوطني العام. لكن هذا السيناريو يبدو مستبعدا لأسباب عدة، أهمها أن البرلمان القادم من المتوقع أن يعيد إنتاج نفس مشكلات المؤتمر الوطني العام، وبالتالي لن تحل المشكلة، وعدم وضوح النظام السياسي الذي سيقرر الدستور الجديد بين نظام برلماني أو رئاسي أو مختلط، فالنظام البرلماني سيكون تكرارا لتجربة المؤتمر الوطني بمثالبها وسيرشح ليبيا لمرحلة عدم استقرار طويلة، بينما الرئاسي سترفضه أطراف عدة متنفذة خوفا من تكرار تجربة القذافي، بينما المختلط قد يشكل حلا وسطا بين النظامين. كما أن قانون العزل السياسي سيبقى محل جدل وتنازع، وهو الأمر الذي لا يتوقع أن يقوم البرلمان الجديد بمراجعته على الأقل حتى ا لانتخابات الرئاسية لقطع الطريق على المنافسين من الترشح فيها، كما أن تسلح الفرقاء السياسيين ووجود القوى الفيدرالية وتشكيك البعض ـ بشكل حقيقي وغير حقيقي ـ في شرعية الإجراءات المتخذة بدءا من تمديد عمل المؤتمر الوطني مرورا بحكومة أحمد معيتيق وحتى الانتخابات القادمة وعدم القدرة المتوقعة على عقدها في بعض المناطق لظروف أمنية سيجعلها محطة جديدة من محطات الصراع، وليس بداية لحل الصراع. وفي النهاية فإن هذا السيناريو سيعتمد على قدرة البرلمان الجديد على التصدي للأوضاع المضطربة بشكل مسؤول وناضج، يتلافى أخطاء المؤتمر الوطني، وهو أمر غير متوقع في ظل استمرار النهج نفسه للقوى السياسية والحزبية الليبية.

2 ـ التصعيد والحرب الأهلية: وهو السيناريو الأكثر صعوبة وتعقيدا، حيث يؤدي انسداد الأفق السياسي وغياب الحوار بين الفرقاء المتنازعين إلى تفجر الأوضاع بشكل كامل، وهذا السيناريو ـ وإن كان غير مستبعد، لكن تواجهه تحديات عدة، أهمها العملية السياسية القادمة التي يتوقع أن تؤدي إلى تهدئة مرحلية للأوضاع السياسية على المدى القصير، وإدراك القوى السياسية والكتائب المسلحة غياب قدرتها على الحسم في ظل توازن القوى الحالي بين الطرفين، وعدم وجود مصلحة من دول الجوار العربية الثلاث: مصر، تونس، والجزائر، في انفجار الأوضاع بشكل كامل، إضافة إلى القيود الدولية التي ستسعى لمنع هذا السيناريو لأخطاره عليها، ولدور عوامل مهمة مثل الهجرة غير الشرعية والسلاح والبترول، الأمر الذي يجعل هذا السيناريو غير مطروح بشكل حقيقي على المدى القصير.

3 ـ الاستنزاف الطويل: وهو السيناريو الأكثر توقعا في ظل الأوضاع الحالية، حيث تستمر حالة الاضطراب السياسي مصحوبة باضطرابات أمنية متفرقة ما يرسخ الوضع الانقسامي الحالي بدون قدرة طرف ما على الحسم بصورة نهائية، ويمكن تقسيم مثل هذا السيناريو في ضوء عوامل عدة أهمها: قوة التنظيمات والكتائب الإسلامية في الشرق سواء من حيث العدد والعتاد وعدم امتلاك حفترة قوة مماثلة في الشرق، وكذلك وجود مصراتة بثقلها العسكري الكبير وتصديها لمحاولات الزنتان حل المؤتمر الوطين، كذلك من العوامل المهمة الشخصية الخلافية للواء حفتر حتى في صفوف أنصاره وحلفائه، فرغم أن كتائب الزنتان تتحالف مع حفتر لكن من غير المتوقع أن تقبل هيمنته السياسية على ليبيا في المستقبل. كما تتماثل حالتها مع حالة القوى الفيدرالية التي توافقت أهدافها ـ فقط مرحليا ـ مع حفتر دون القبول بهيمنته السياسية، بينما يرى قطاع من الليبيين حفتر أنه قائد عسكري غير ناجح باعتباره خسر في معركة وادي الدوم وعلى علاقة مشبوهة بالأمريكيين، يرى أنصاره أن القذافي قد تخلى عنه بسبب التخوف من نجاحه المستقبلي. وهذا الخلاف بين الليبيين حول شخصية حفتر يعوق تحوله إلى قائد جامع بغض النظر عن اتجاههم السياسي أو الأيديولوجي. إضافة إلى الطريقة التي يقدم بها اللواء حفتر نفسه على أنه المنقذ العسكري الذي يخشى الكثيرون ـ بفعل تجربة القذافي ـ تكرارها مرة أخرى، على جانب آخر، فإن حفتر يمتلك العديد من عوامل القوى أهمها وجود دعم كبير له بين صفوف الجيش النظامي ـ أو بالأحرى ما تبقى منه ـ وفي صفوف البيروقراطية الحكومية والمواطنين العاديين بسبب العنف والفوضى المستشريين والدعم الضمني المؤقت والمرحلي الذي يقدمه أنصار الفيدرالية لحفتر لكسر شوكة الحكومة المركزية وإشغالها عن محاولة السيطرة على منطقة الهلال النفطي. ويبقى العامل الأكبر في استمرار الصراع وهو الفشل الذي تواجهه العملية السياسية الحالية والمتوقع للعملية السياسية القادمة، وانقسام وتناحر النخب السياسية واختراقها من قبل قوى خارجية، الذي سيدفع بالصراع العسكري قدما وبقطاعات جديدة لدعم حفتر أو لمناهضته على حد سواء.

 

*نقلا عن الإقتصادية