سقطت ليبيا منذ 2011 في أحضان الفوضى السياسية والصراع الميداني بين المجموعات المسلحة والتنظيمات المتطرفة التي كانت بمثابة العدو الداخلي الذي ناهض تطور الدولة وتحقيق أهداف الرفاهية والنمو الاقتصادي وتحطيم طموحات الشعب الليبي، وأدخلت على إثرها في أزمة اقتصادية تاريخية ترنحت فيها عائدات النفط وتناقصت بشكل مخيف.
انهيار متواصل
شكل النفط في ليبيا عام 2010 نحو 94% من عائدات ليبيا من النقد الأجنبي و60% من العائدات الحكومية و30% من الناتج المحلي الإجمالي حيث كانت ليبيا تنتج 1.65 مليون برميل يوميا من معدل احتياطي قدره 41.5 مليار برميل. وكانت تعتزم في خطة 2011 زيادة إنتاجية بحوالي 3 ملايين برميل يومياً، وكان معدل دخل الفرد في تلك الفترة هو 4400 دينار.
ففي نهاية عام 2012 بدأت الاحتجاجات والنزاعات الإدارية في التأثير على الإنتاج ثم تم إغلاق بعض المنشآت النفطية والغازية في يوليو 2013 وانخفضت الصادرات إلى أقل من 200 ألف برميل نفط يومياً. ومع احتدام الصراعات وخروج الشركات الأجنبية من البلاد ومن ذلك الحين والقطاع النفطي يشهد تقلبات جراء الفوضى الأمنية والسياسية التي تشهدها ليبيا ففي عام 2014 توقف إنتاج النفط رغم محاولات الحكومات في المفاوضات وفك الحصار عن الموانئ التي أضحت تحت سيطرة المليشيات التي تمارس بدورها ضغطاً على الحكومة لإعادة توزيع ثروة النفط، وعلى الصعيد نفسه النزعات السياسية بين المؤتمر العام في طرابلس والبرلمان في طبرق والذي ولد تنافس على المؤسسات المالية والإدارية في الدولة ومنها المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار، وفي الوقت التي ضعفت فيه القدرات الإنتاجية وانخفاض الإيرادات وتزايد الإنفاق وانخفاض عرض النقود وانخفاض المستوى المعيشي للفرد.
وواصل سعر صرف الدينار الرسمي للدينار الليبي مقابل الدولار تراجعه إذ سجل هبوطاً آخر يزيد 9% في 2015 وفي السوق الموازية انخفضت قيمة الدينار نحو 160% بسبب القيود على معاملات النقد الأجنبي التي ينفذها البنك المركزي الليبي والذي أدى بدوره إلى تفاقم مشكلة السيولة في المصارف التجارية الليبية وضعف احتياطاتها، وعلى الصعيد نفسه انخفض نمو الناتج المحلي الحقيقي بنحو 10.2%.
تحذيرات دولية
في تقرير للبنك الدولي أكد فيه أن الاقتصاد الليبي على شفا الانهيار فيما يحول الجمود السياسي والصراع الأهلي دون استغلال البلد لمورده الطبيعي الأساسي وهو النفط. ففي ظل انخفاض إنتاج النفط إلى خمس أضعافه في السابق هبطت الإيرادات وتفاقم عجز الميزانية وعجز الحساب الجاري بأرقام قياسية تاريخية في اقتصاد ليبيا. ومع فقدان الدينار السريع لقيمته أمام الدينار وتسارع معدل التضخم مما أدى إلى تآكل الدخل الحقيقي وتدني مستوى المعيشة للمواطن، ومع المضاربة والقيود المفروضة على صرف العملة، دخل الاقتصاد الليبي حلقة مفرغة ونشطت السوق الموازية التي لجأ إليها الليبيون لعقد كل صفقاتهم التجارية تقريبا، وقد فقدوا ثقتهم في المصارف، وأدى هذا الوضع إلى إفراغ رفوف المتاجر، إذ عمد التجار إلى الحد من البضائع المستوردة خشية تكبد خسائر في سوق عملات متقلب للغاية وتفاقمت أزمة السيولة بسبب عجز الحلول السريعة والاقتراحات غير المجدية لحلها.
تململ داخلي
قال محافظ المصرف المركزي، الصديق الكبير، إن التحديات الأساسية التي تواجه ليبيا في الوقت الراهن أسبابها الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية التي شهدتها البلاد منذ العام 2011، إلى جانب أوضاع السوق العالمية وتأثيراتها على أسعار النفط. وقال الكبير، في حوار مع العدد الجديد من مجلة «غلوبال فاينانس» الأميركية، إن تلك الظروف تسببت في تقلب الاقتصاد، وتضخيم العيوب الهيكلية القائمة، وخلقت حالة من عدم اليقين حول السياسات النقدية.
وأشار إلى تراجع العائدات المالية للحكومة إلى 4.6 مليار دولار في العام 2016 من 53.2 مليار دولار في العام 2012 بسبب انهيار الإنتاج النفطي منذ العام 2013 لاندلاع معارك مسلحة لأسباب سياسية وتوقف العمل في المنشآت النفطية، وما أعقبه من انخفاض حاد في أسعار النفط عالمياً في العام 2014، الأمر الذي يعني خسارة ليبيا ما قيمته 48.6 مليار دولار خلال تلك السنوات، بسبب الصراعات السياسية.
وهو المعنى نفسه الذي أظهرته النشرة الاقتصادية للربع الثاني، الصادرة حديثاً عن مصرف ليبيا المركزي، فقد تراجعت الإيرادات النفطية بنسبة 90% أو ما يزيد على 60 مليار دينار خلال أربع سنوات، إذ هوت الإيرادات من 66 ملياراً و932 مليون دينار في العام 2012 إلى 6 مليارات و665 مليون دينار في العام 2016، وهي الفترة التي شهدت فيها ليبيا إغلاقاً متكرراً للموانئ النفطية، وتوقف الصادرات بسبب الاشتباكات المسلحة التي اندلعت حول المنشآت النفطية.
ومع أن الإنتاج النفطي شهد زيادة كبيرة في العام 2017، إذ ارتفعت الإيرادات النفطية إلى 19.2 مليار دينار، لكنها ظلت منخفضة بنسبة 71.3% مقارنة بإيرادات العام 2012، وبلغت في النصف الأول من العام الجاري المنتهي في 30 يونيو الماضي، 15 مليارًا و605 ملايين دينار.
ورغم استئناف الإنتاج النفطي في العام 2017 وزيادة العائدات المالية، نقلت المجلة الأميركية في عدد أكتوبر الجاري، أن الكبير أبدى تخوفه من استمرار حالة عدم اليقين المحيطة بالوضع الأمني في ليبيا والسياسات المالية، وهو ما يظل عقبة أمام تعافي الاقتصاد. وعلى صعيد آخر، تحدث الكبير عن تأثر الوضع في ليبيا بالتطورات السياسية والاقتصادية في دول شرق أفريقيا، نظراً للحدود الشاسعة للدولة وضعف المؤسسات الحكومية.