بعيدا عن الولوج في الكتابات والإسهامات التي قدمها الفكر العربي والإنساني في حقل تطوير مدارك العقل، أو الخوض في كتابات الفلاسفة العظام وتحليلاتهم العقلانية للإنسان والوجود، وبعيدا كل البعد عن اللغط الفلسفي أو الترويج العقائدي، أو الميل إلى تيار فكري معين، وبروح انفرادية ذاتية أنطلق هذا الكتاب لكي يمس الممنوع من مسهِ، وهو العمل علي تفكيك العقل العربي، في محاولة جادة، وقد تكون غير صائبة أحيانا، ليسلط الضوء علي المحرك العقلاني في عقل المُركب العربي، من أجل تفكيك جينات تخلفهِ. لهذا السبب أنصب هذا الكتاب علي محاولة التفسير والإجابة علي جملة من قضايا العقل العربي الراهن، وصولا إلى الجينات الذهنية المسئولة عن ظاهرة التقهقر العقلي العربي، وحالات التأزم التي من المأمول أن تخلق عاهات عقلية مستديمة يصعب معالجتها وتشخيصها في الأفق القريب.
إن الفكرة المركزية المبتغاة من عنوان وموضوعات الكتاب هي العمل على تحرير العقل العربي وتحويله من عقل متُلقي إلى عقل تخليقي من خلال زجه في آتون معارك التفكير والتأمل والتعامل مع المستقبل وبوسائل التفكيك التحليلي لذاكرته ووسائطها المُعطلة لنهوضهِ في محاولة لجرهِ للاستيقاظ من حاضرة ماضيهِ. كل ما أفرزهُ العقل العربي من مدارك وعلوم وتصورات وتضحيات لا يخرجُ عن إطار تفكيكه للماضي، بمعني ماضيه.
والزمن الذي أستثمره العقل العربي خلال مسيرته لم ينتج ما يتوقعه عقل الأخر.
لقد دأب العقل العربي دوما بالانشغال بتفكيك ماضيه واعتقاده طريق الصواب خطاءً في حيلة من الحِيّل التي يمارسها العقل العربي للهروب من مهمة استدعاء مستقبلهِ. لقد دفع العقل العربي أثماناً باهظة نظير انشغالهِ المستمر بتفكيك الماضي، وعجزهِ للخروج منهُ، فتوسعت بذلك سِعات عقلهِ المسئولة عن ذاكرة ماضيه، بدلا من توسع سِعات عقله المسئولة على استدعاء المستقبل. أن التقدم وتفكيك المستقبل واستدعائه هو ما يميز بين عقل الأمم. فالأمم المتقدمة تنشغل دائما باستدعاء المستقبل إلى حاضرتها في حين الأممالأقل تقدما معضلتها تكمن في استنبات التخلف في حاضرتها وبسبب انشغالها بالماضي.
إن التقدم قطارهُ تفكيك الحاضر وترك الماضي من أجل إفساح المجال أمام استدعاء المستقبل إلى حاضرة العقل. لقد تحولت ميكانيكية العقل العربي إلى وسيلة للتسلية بحاضرة ماضيه في غفلة من المُكون الأساسي لطبيعة عقله. نحن هنا لا نستهجن ماضي العقل العربي أو رفضه، أو الدعوة إلى نسيانهِ، أو ألتجنِ عليه، ولكن الاستمرار بالانشغال به لا يحقق له قيمة مضافة إلى الُرقي بحاضر عقله وعقل الأخر. ولكنها الرؤية والدعوة نحو الولوج إلى داخل السِعات الذهنية لدوائر العقل العربي لتوظيف حُسن الأداء للجينات المسئولة عن وظيفة التخليق واستدعاء المستقبل بديلا للانشغال بتفكيك طلاسم الماضي والذي سُجل وأنتهي. العقل مثل عقارب الساعة لا يرجع إلى الوراء لان في ذلك تركه للوجود.
إن فكرة الكتاب تهدف إلى معاينة جوهر القضية المثارة حول أهمية التحديث العقلي للمُركب البشري العربي طريقا لنشر ثقافية التنوير، وذلك من خلال عدة قضايا لصيقة بالعمليات العقلية والتفكيرية في عمل استشرافي محفوف بعديد المخاطر من خلال تقديم استشراف متواضع لتفكيك سؤال “كيف يمكن أن يكون التنوير فعلا وجوديا يهدف إلى تغيير نظرتنا إلى ذاتنا والي الأخر؟ وكيف يمكن استثمار قيم التنوير في واقع عربي مأزوم يعاني الكثير من الإعطاب والأعطال البنائية والمؤسساتية؟ وكيف يمكن أن يكون التنوير العقلي مستنبتاً من داخل عقل الإنسان العربي وفي أفق الإصلاح والتغيير؛ وكيف يمكن أن تسعفنا رؤية تنوير عقل المُركب البشري العربي في تدشين مشروع التقدم.
وهذا الكتاب لم يستعين بكتابات الأولين وفي بعض ثناياه استشهد بأمثلة لتعزيز أفق التحليل، واستعان أيضا بإحداث معاصرة، وشهادات دينية كأمثلة ذات صلاحية عقلية طويلة المدي. وفي هذا البعد أسهب الكتاب في خلق بيئة حوارية مع المستقبل ليخاطب بها عقل المُركب البشري العربي من خلال سلسلة وصور من محاولات استدعاء المستقبل في العلوم والحياة والتفكر والتعلم والنسيان إلى حاضرة عقل الإنسان العربي، والذي منُح صفة الإنسان الأقدم في مقابلة الإنسان العقلي العربي المنشود. لقد تم مخاطبة العقل العربي في هذا الكتاب ليس من واقع حاضره، ولكن من واقع مستقبله. وفكك الكتاب قضية الغيب الأكبر والغيب الأصغر والمستقبل كثلاثية معقدة في تأزيم العقل العربي.
وفي سبيل ذلك حسم الكتاب أم القضايا المعاصرة للإنسان العربي أن الدين في عمومه يرتبط بشدة بالغريزة التي أوجدها الله في الإنسان، والتي هي بدورها مرتبطة بالخوف، وعليه فأن الحديث في الدين والغلو فيه وعمومه محفوف دائما بالمخاطر كونه بلاغ إلى العقل الفرداني مباشرة ومتصل بالذات الفردانية إلى الذات العليا في الكون. أشار الكتاب إلى أن العقل الغربي سبق العقل العربي في أن تنبه وتيقن إلى هذه الجدلية وترك مسألة الدين للذات الفردانية ونزعها عقليا من الذات الجمعوية حفاظا على مكونه العقلي والجمعي والروحي والمعرفي.
لقد تيقن الغرب أيضا لمسألة الدين والتدين، حيث المجتمع هناك بادر إلى خلق مجتمعه وخلق دولته بعقله الجمعوي وبذات الوقت حافظ علي مكونه الروحي من الانشطار والتشرذم، فقط بعقله الفرداني عنوان مجده، وبذلك تحولت دولته إلى خادمة له إلى يومنا هذا.
وعالج الكتاب هذا المنظور المفقود في الفكر العربي المعاصر من زوايا متعددة. ففي الحالة العربية كان العكس، الدولة العربية هي التي خلقت مجتمعها، وهي التي تصنع المجتمع بمقاييسها، وتصنع خطابه الديني والاجتماعي، وتصنع له المثقف، وبالتالي هي المسئولة ومعها نخبها، أو طلائعها عن توطين الخطاب ولكن بمعايير دولاتية.
ومن أجل عدم تحويل العقل العربي إلى مجال للتندر به، أو الإقلال من قيمته، دون تفكيك بنيته المعنوية والروحية، تحت غطاء النقد والتنوير، وفي سبيل ذلك يدعو الكتاب إلى رفض مقولات كل من ماكس فيبر وتاكوفيل في الدين والسياسة، حيث أن “الدين معرقل للتفكير وصنع النهضة والتقدم”، وقصد الاثنان بذلك مجتمعات العالم الثالث. بهذا نتصور أن الكتاب قد فتح الطريق أمام المزيد من الكتابات التي سوف تتصل بالعقل العربي لتخليق مسافات التنوير المفقودة في الفكر العربي ورفض كل ما يتعلق بتأخره عن ركب حضارة الأمم.
إن مهمة استشراف المستقبل تتجاوز عمليات تفكيك الماضي والانشغال بالحاضر ولكنها مهمة لا يُحققها إلا العقل القادر على تفكيك جينات تخلفهِ، وإعادة أعمار سِعتهِ العقلية والتحكم فيها وعدم إخضاعها لحيل عقلهِ من خوف ونسيان وغرائز غير مُعدلة عقليا. أن المستقبل لم يعد بعد مجالا للخوف إذا بادر العقل العربي أن يفرق بين الغيب الأكبر والغيب الأصغر والمستقبل، وأن أسباب انحدار الأمم وفنائها ليس بسبب ضعف قوتها المادية ولكنهُ بسبب فقدانها للمنوال والبوصلة العقلية ومن ثم اندثار عقلها المُدبر.