منذ نهاية الحرب الباردة التي ترتب عنها تفكك الاتحاد السوفييتي، دخلت الجزائر منعطفا جديدا من تاريخها حيث كانت أحداث أكتوبر 1988 محطة مفصلية بين جزائر الحزب الواحد وجزائر التعددية الحزبية، ودخلت الدولة في دوامة مفتوحة من الأزمات أثرت على علاقتها بمحيطها الإقليمي والأممي كان من نتائجها تقلص نشاطها الدبلوماسي. مع بداية القرن الحالي، حاول الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، في عهدتيه الأوليين (1999/2010)، حاول أن يستعيد البريق الديبلوماسي الذي ضاع في خضم التحولات، غير أن محاولاته بقيت حبيسة مظهرها الاستعراضي، ومع ثورات 2011، وإثر سقوط الريجيمين التونسي والليبي، واستقبال الجزائر لأبناء القذافي الفارين، وجد بوتفليقة نفسه في حيرة دبلوماسية، وتحولت هذه الحيرة إلى عجز سياسي إثر عجزه البيولوجي منذ عام 2013؛ فغابت الجزائر دبلوماسيا وكاد حضورها الإقليمي والأممي ينحصر في الشق الأمني.
باستثناء مبادرتها الداعية إلى ملتقى يضم بلدان الجوار الليبي عام 2014، دام هذا الغياب إلى غاية 2020. وبعد الوضع السياسي الذي ترتب عن حراك 22 فبراير سعت الجزائر في ظل الرئيس الحالي عبد المجيد تبون إلى استعادة حيويتها الدبلوماسية.
تعود فكرة اجتماع وزراء خارجية بلدان جوار ليبيا، إلى عام 2014، على خلفيةالأزمة الليبية التي نجمت عن صراع بين جماعات مسلحة عديدة خارج سيطرة الحكومة، عقب ثورة 2011. كان هذا الاجتماع مقترحا جزائريا أثناءانعقاد مجلس وزراء حركة عدم الانحياز في ماي 2014. بعد ذلك انعقد الاجتماع منتصف يوليو عام 2014 بمدينة الحمامات التونسية. وأكد وزير الشؤون الخارجية، السيد رمطان لعمامرة، في ذلك اللقاء، على قرار تشكيل لجنتين من قبل "دول جوار ليبيا"، تعنى الأولى بالشؤون الأمنية وتترأسها الجزائر، فيما تعنى اللجنة الثانية التي تترأسها مصر، بالجوانب السياسية، وذلك في إطار دعم مساندة ليبيا لتجاوز أزمتها الراهنة.
وتهتم اللجنة الأمنية العسكرية ـ وفق السيد لعمامرة ـ بتكثيف التعاون مع كل التشكيلات المسلحة التي "تضع نفسها تحت سلطة القانون وتؤمن بمستقبل ليبيا كوطن موحد"، مبرزا أن الاجتماع الوزاري ركز على مبدأ تجاوز الأزمة الليبية على أساس الوحدة الترابية لهذا البلد وسيادته واستقلاله، مع ضرورة عقد حوار وطني ليبي يجمع كل الوطنيين الليبيين الذين ينبذون العنف والإرهاب ويؤمنون بالوحدة الوطنية الشاملة، مع "عزل" الجماعات المرتبطة بتشكيلات إرهابية "أجنبية".
كما احتضنت الجزائر الاجتماع الوزراى الحادى عشر لدول جوار ليبيا تحت رئاسة عبد القادر مساهل وزير الشؤون المغاربية والاتحاد الافريقى، في 8 مايو 2017، ثم استضافت هذا الاجتماع في 23 يناير 2020 ثم 2021، في مسعى للتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة الليبية.
مؤخرا، وعلى رأس وفد سياسي وأمني رفيع المستوى، زار رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة الجزائر، وحظي باستقبال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، حيث تحدث الطرفان عن عدد من الملفات، ومن ضمنها الانتخابات المرتقب إجراؤها في ليبيا.
وفي تصريحه عقب اللقاء، قال الدبيبة إنّه أبرز للرئيس تبون تصوّر حكومته للانتخابات في ليبيا، للانتقال بالبلاد من المرحلة الانتقالية إلى الاستقرار مبرزا الدور المهم للجزائر في دعم هذه الانتخابات. فضلا عن دعم التعاون الاقتصادي بين البلدين ولاسيما في مجال النفط والغاز في ظل الظروف العالمية الراهنة.
هذه الزيارة تمثل خروجا نادرا للدبيبة من طرابلس، منذ أن عيّن البرلمان في شرق ليبيا فتحي باشاغا رئيسا جديدا للوزراء.وكان الدبيبة قد رفض قرار البرلمان، وسط مواجهة مسلحة بين الأطراف المتنازعة للسيطرة على الحكومة.وسبق أن استقبل الرئيس تبون وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش في 7 أبريل.وانتقد الرئيس عبدالمجيد تبون خلال لقائه مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، «المتشبثين بالسلطة» الذين حالوا دون إجراء الانتخابات في ليبيا.
الدبيبة سلم للرئيس الجزائري الإطار العام وإجراءات خطته الخاصة بتنظيم الانتخابات، مؤكدا حاجة الخطة إلـى "دعم إقليمي ودولي من أجل تنفيذها".من جهته، عبّر تبون عن دعمه للحكومة وتقديره لهذه الإجراءات واستعداده للتنسيق الدولي بشأنها، من خلال التحضير لعقد مؤتمر دولي تستضيفه الجزائر على مستوى وزراء خارجية الدول المنخرطة في الشأن الليبي، بهدف دعم إجراء الانتخابات، بحسب ما أورده مكتب الدبيبة الإعلامي.
هذه الزيارة جاءت قُبيل انتهاء اجتماعات اللجنة الدستورية الليبية في القاهرة برعاية أممية. وجاءت الزيارة في ظرف متأزم تمر به ليبيا في ظل حكومتين تتنازعان السلطة؛ حكومة الدبيبة، وحكومة باشاغا المكلفة من مجلس النواب. وجاءت الزيارة كتحرك مضاد لاجتماعات اللجنة الدستورية في القاهرة، وبحثا عن محور يمكن الدبيبة من الضغط على القاهرة. وربما يراهن الدبيبة على الدعم الجزائري في فتح إنتاج وتصدير النفط من الحقول المغلقة القريبة من الحدود الليبية الجزائرية.
وبسبب حالة الجفاء بينها وبين خليفة حفتر، ولأسباب أخرى، دخلت الجزائر غمار الاستقطاب الحاصل بليبيا، من موقع الداعم لحكومة الدبيبة. وبسبب تشابك خيوط الملف السياسي الليبي مع المحيط الإقليمي والأممي في ظل سياسة استقطاب وتشابك بين مصالح القادة المحليين، وحسابات الأطراف الخارجية، تعمل الجزائر على تقوية دورها الإقليمي.
بناء على فكرتها المتمثلة في ملتقى دول الجوار الليبي وتنظيمها لهذا الملتقى أعوام 2017، 2020 و2021، ولاسيما في الشق الأمني، وفي إطار علاقتها بتركيا وإيطاليا كبلدين معنيين بالملف الليبي، تراهن الجزائر على فك عزلتها الإقليمية والأممية والإمساك من موقع القوة بالملف الليبي، ويراهن الدبيبة من خلال الجزائر على الانضمام إلى محور يضمن له استمرار حكومته وإشرافها على الانتخابات.
وفي ضوء المعطيات المتوفرة، تبدو رهانات الجزائر وحكومة الدبيبة محكومة بحسابات كل طرف منهما. فبخصوص الدبيبة، وبسبب فشل حكومته في إجراء الانتخابات في موعدها، فضلا عن تنكره للوعد الذي قطعه على نفسه في عدم الترشح للرئاسيات وتحركه على الطرف النقيض من المبادئ المؤسسة للحوار الوطني الذي أصبح بفضله رئيسا للحكومة، فإن حظوظ حكومته في البقاء تبدو ضعيفة، وأن مساعيه ستبوء بالفشل.
بخصوص الجزائر، وإذا اختارت أن تلعب دور الوسيط الدبلوماسي وقامت بمساعي التسوية وأقنعت الدبيبة بالانسحاب المشرّف وإفساح المجال للحكومة الجديدة، تكون قد حققت مكسبا دبلوماسيا مهما في كسب ثقة الليبيين. أما إذا سارت في اتجاه آخر، فإن مصير العلاقة الليبية الجزائرية سيكون مفتوحا على جميع الاحتمالات.