فرضت الظروف المعيشية والتغييرات الاقتصادية المغاربية خطراً من نوع خاص، وهو خطر العنوسة! وعلى الرغم من أن كلمة "عانس" لفظة ثقيلة على النفس ترفضها الكثيرات باعتبارها امتهاناً للمرأة ومصادرة لمستقبلها، لكن العنوسة أو تأخر زواج الفتاة المغاربية مشكلة حقيقية تستحق الوقوف أمامها، لأنها من المشاكل الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات المغاربية بشكل كبير، ولا يمكن لعاقل أن يتغافل عن حقيقة وجود مشكلة العنوسة في بلداننا المغاربية. وبعيدا عن رفض لفظ "عنوسة'' من قبوله أو تعديله، فإن الإحصائيات تطالعنا بأرقامٍ خطيرة بل مفزعة، تجعل من "العنوسة"، أو "تأخر زواج المرأة" ظاهرةً مخيفةً في مجتمعاتنا المغاربية بخاصة وتستوجب الدراسة، والبحث، والتصدي لها.

وحسب دراسات أجرتها وسائل إعلام غربية، ومراكز أبحاث في العام 2018، فقد سجلت بالمغرب نحو 40 بالمائة، و50 بالمائة في الجزائر، و62 بالمائة في تونس، وليبيا 35 في المائة، أما في موريتانيا فترتفع فيها نسبة العنوسة، لدرجة ارتفعت بعض الأصوات النسائية تدعو إلى تقبل تعدد الزوجات، للقضاء على العنوسة.

وتعزو جلّ الدراسات الاجتماعية هذه الظاهرة إلى ضيق ذات اليد والصعوبات المادية والبطالة... فقد لعب التغيير الاقتصادي دوراً كبيراً في زيادة الخلل، حيث بدأت بعض الأسر بالمغالاة في المهور والبذخ في حفلات الأفراح، وما إلى ذلك من مصاريف تثقل كاهل الشباب المغاربي، الذي قد يعجز عن تأمين كل متطلبات أسرة الفتاة، وفي هذه الحالة نجد أن هناك متهمين وعناصر تتعدى نطاق الشاب والفتاة، كالأب الذي وجد في ابنته سلعة يطلب فيها أغلى المهور والذي لا يزوج الصغيرة قبل الكبيرة، وكذلك الأم التي تدفع العريس للهرب بسبب كثرة طلباتها. وللأسف كان لتعلم الفتاة دور في استفحال هذه الظاهرة، فقد استفادت بعض الفتيات من الانفتاح في دفع مسيرتهن العلمية والعملية، في حين كانت أعباء الشباب ثقيلة لم تسمح لهم بمتابعة تعليمهم، الأمر الذي أدى إلى تفاوت كبير في المستوى التعليمي بين الشاب والفتاة، فأحجم الشاب عن الفتاة المتعلمة خوفاً من تعاليها عليه نتيجة عدم التكافؤ ورفضت هي الاقتران بمن هو أقل منها خوفاً من اضطهاده لها والتعامل معها بعنف ليقتل فيها إحساسها بالتميز.

هذا وقد أصبح الزواج بأجنبيات سبباً آخر خطيراً وراء انتشار العنوسة في مجتمعاتنا المغاربية، أضف إلى ذلك بعض العوامل التي ساعدت على استمرار تفاقم هذه الظاهرة كالانتشار الكبير لبدائل غير مشروعة، مثل الزواج العرفي وزيادة إقبال الشباب على الأنترنت، وهي طرق بديلة خاطئة لجأ إليها الكثير من الشباب للتخفيف من الشعور بالأزمة والرغبة في الارتباط بالجنس الآخر. ولن ننسى هنا أن ننوه إلى أن بعض الفتيات يلجأن إلى العنوسة الاختيارية التي تزداد يوماً بعد آخر نتيجة الاستقلال المادي، ورفع شعار "الوحدة خير من زوج يمارس سلطات نحن في غنى عنها"، وينسين عاطفة الأمومة التي لابد أن تفرض نفسها فطرياً. ويمكن القول إنه للعنوسة نتائج آنية تمس الأفراد، الشاب والفتاة، اللذين يحلمان بالاستقرار في حضن مؤسسة الزوجية وإنجاب الأولاد، وهؤلاء تستمر معاناتهم وعدم استقرارهم طالما أنه لم تتح لهم فرصة الزواج، وهناك نتائج على الأمد البعيد تهدد استقرار المجتمع بأكمله، إذ إن هذه الظاهرة تساهم في إشاعة سلوكيات منحرفة تؤثر على مسيرة المجتمع وتقدمه.

إن هذه المشكلة يحاول البعض إيجاد حلول لها بشكل فردي بينما يحاول البعض الآخر التقليل من شأنها، ويكاد علماء الاجتماع يجمعون على أن تداعيات العنوسة لا تتوقف على الفتاة وحدها، وإنما تمتد لتشمل باقي أفراد الأسرة كالأخت الصغرى التي قد تهيىء نفسها لتكون في الوضع ذاته، وتعيش المأساة ذاتها، والواقع يشير إلى أن العديد من اللواتي تأخرن في الارتباط، يتعرضن لحالات القلق النفسي والضغوط العصبية بسبب ما يدور حولهن (ولا سيما من العائلة) من أقاويل عن تأخرهن في الزواج، خصوصا اللواتي حساسات بطبعهن، ولديهن الاستعداد النفسي لدخول أزمات نفسية أو صراع مع الذات وصولاً إلى الاكتئاب وعدم النوم، فقط لأنهن يعتبرن أنفسهن مختلفات عن بقية النساء ويفتقدن حياة الأسرة والأمومة. وهذا في حد ذاته نوع من الضغط المعنوي المتواصل الذي يشكله المجتمع في وجدان العانس.

خلاصة الكلام: إن الثقافة الاجتماعية في مجتمعنا المغاربي، تجعل الرجل يعتقد أن الفتاة إذا تجاوزت سنا معينا تصبح عانساً، والحل لا يكون بمعالجة المجتمع ككل دفعة واحدة، بل يبدأ من خلال تقوية شخصية الفتاة وإقناعها بأن موضوع تأخر الزواج أمر أصبح طبيعياً في مجتمعنا الحالي، ولابد للفتاة أن تكون صاحبة قوة وقناعة وإنجاز وعلم وعمل وتستطيع أن تعول نفسها، فإذا كانت على هذا المستوى لن يهمها تأخر الزواج، أو على الأقل لن تلجأ للزواج لمجرد الهروب من كلمة (عانس). وإذا كانت بهذه الصفات لن تكون عبئا على أهلها، وسوف تحسن اختيار رجل من مستواها الفكري والعلمي.

*مصطفى قطبي

كاتب صحافي من المغرب.