أعياد تذهب وأخرى تأتي وليبيا حزينة... تكاد تتمزق... والليبيون يألمون... ويخسرون ولا يربحون... لكنهم لا يترددون في الدفاع عن الوطن بالأرواح وبكل غالٍ وثمين. وها قد غادرنا الشهر المبارك ليأتي بعده العيد... وليحتفل به الليبيون لعله يخفت شيئاً من لهيب القلوب... فالعيد بريء من كل ما يُقترف بحق الليبيين... في الشارع الليبي شيء لا يُفهَم ولا يُقبل، ولا ينبغي أن يستمر... "أجسام سياسية" تخلت عن مظلة ليبيا، واستظلت بغيرها، و"أجسام سياسية أخرى" تبحث عن خلاص في فضاءات هي انعدام كل خلاص، وميليشيات ينهشون شعبهم ودولتهم ومجتمعهم، ويساهمون في تشويه هويتهم وصورتهم... وهناك تآكل بالغ، وتهافت وتواكل، ناشئ عن خوف وفقر وجوع وترويع وانسداد آفاق، وعن تسليم بسيطرة منطق الميليشيات والعملاء والمغامرين والغوغاء، ومنطق مَن يسيطرون على كثير من المَواقع والمرافق الحكومية الحساسة والثروات، ومن يسيطرون على المسيطرين... 

يباغت العيد ليبيا مطالباً بالفرح عربوناً، والفرح شرائط غار معقودة على شواهد القبور، لتكمل الحكاية المحبوكة من وجع محبوك مكتوم، ولتستكمل الجملة المختزلة في إشارتها إلى مصير ينتظر الليبيين (فيما لو طال صبرهم) تطلق فيه المليشيات الرصاص ليس على الحقيقة والرؤوس فقط، بل أيضاً على الجغرافيا والتاريخ! يباغت العيد الليبيين ويحاصرهم، ويصلبهم على أعمدةِ ذاكرة تغص بالوجع، يتكدس فيها آلاف أشلاء الأحلام، وبقايا مناف، وصور نال منها الزمن والإرهاب، وشكوك وقلق وريبة، يتناول الليبيون لها يومياً الصبر والتجلد مسكنات، ويتسولون الأمل بالشفاء..!.

يباغت العيد، بعد أكثر من عشر سنوات من القلة والظلمة، وضعت كل واحد من الليبيين على أبواب الإجابة عن أسئلة للذات ولآخرين شركاء: ما الذي فعله الليبيون، أي جرم ارتكبوه، هم الذين اعتقدوا يوماً أنهم سيغيّرون ليبيا على طريقتهم، وسيجعلون الكون كله وليس ليبيا فحسب، أجمل وأنقى وأصدق!؟ ولا جواب، رغم السنوات التي انقضت، على الأسئلة العلقم، أسئلة الذات التي تحولت بمرور الأيام إلى مواجهة بين الليبيين وبين أقنعتهم، التي باتت ملامحهم، وزعمهم الذي ادّعوا فيه الانتماء إلى تاريخ محمد تسامحاً... لكن عندما وقعت الواقعة، رموا مخزون الصبر حصى زلقة، في دروب الصابرين الحقيقيين، ونسوا عهدهم بأن يجعلوا أرض ليبيا أقل ملوحة، وأن يؤمموا الفرح ويجبروه على النزول إلى المقاهي والمطاعم الشعبية، والشوارع الخلفية، وهوامش الفقر، التي لطالما تجرعت الحياة كرهاً، على تخوم المدن الليبية المتخمة بوهم الطمأنينة، أن خلف الجبال العالية البعيدة فقط، تمتد سهول القيح والقبح، ورياح الموت الصفراء، ومليشيات وعصابات تجار الأزمات تستجدي الإرهاب..!. 

يفاجئ العيد الليبيين، وقد تعرت كل الادعاءات أن القادم أجمل، وظهر الجميع على حقيقته، مجرد ظلال فكت ارتباطها مع ذاكرتها الأولى، وحولت وجودها في الحياة إلى مجرد قرار إداري على درجة وظيفية..!. يباغت العيد الليبيين، بعد ثمالة وجع طويل، كشف كل مستور، وكشف كيف اختبأ الجميع خلف المتاح والممكن وخلف اتفاق جمعي، تبين أنه أوهى من بيت العنكبوت، وكيف عند بدء العاصفة تشظى، وعادت ليبيا إلى صفر الصفر في معادلة بناء الأمم...! 

يباغت العيد الليبيين، وهم في العراء اليوم، حيث لا حجة لهم بل عليهم، وهو عراء إذا لم يقدهم إلى اليقظة، فحتماً... هو قائدهم إلى مزيد من السراب، الذي يتخبطون فيه منذ سنوات، ويتوهم البعض على اختلاف خنادقهم واصطفافاتهم، أنه سفينة نوح التي ستحمل فقط مما يحبون، ومما يريدون، اثنين... اثنين... لكن الوهم غفلة، وهو عدو لغدٍ يتوسله كل الشرفاء في ليبيا منذ سنين، غد حدوده الاختلاف وسياجه الحرية في الاختلاف، ومناعته من الاستباحات، تكمن في رضا الليبيين وفخرهم أنهم ليسوا قوالب جبس تشبه بعضها البعض، وأنهم وهم في الخسارة ينحنوا لنعمة الاختلاف، ويقبلوا بالموت إذا كانوا سبباً لولادة ليبيا الجديدة، التي يحبونها من جديد، وطن لا مليشيات ولا عصابات إعدام فيه، ولا سفن تحمل قراصنة أحلام وأوطان، تسرق من الليبيين إيمانهم بالله وبليبيا وبالذات، ولا تجار أزمات يعرضون على الليبيين كل عيد أسباباً جديدة للموت، ومن ثم يطالبونهم بالفرح...!

إنني إذ أكرر تهنئتي بعيد الفطر لكل الليبيين، ألتمس من الفرحين، والمبتهجين، والمستمتعين منهم بحقهم، في العيد... ألتمس منهم ألف عذر وعذر، لأنني ربما أكون، ببعض هذا الحديث عما يخالجني ويستولي عليّ، بسبب ما يجري للمواطن الليبي في ليبيا... ربما أكون أثرت لدى بعضهم شجنا، أو أشجيت قلوبا بما ذكرته وذكَّرت به... لكن من باب تأكيد المؤكد أنه مهما تعاظمت المصائب، واشتدت النوائب، فالحياة تستمر وليس هناك ما يوقفها مادام الزمان يتحرك، ومادام هنا المكان... وللتاريخ ذاكرته التي لا تنسى المصائب، والأهوال التي مرت على ليبيا، وهي كذلك لا تنسى.