يؤكد زعيم حركة "النهضة" التونسية، راشد الغنوشي، في حوار مع صحيفة "العربي الجديد"، أن تونس في حاجة إلى التوافق، وليس إلى غلبة فريق على آخر، محذراً من وجود إرادة لتعميق الصراع السياسي ذي الطابع الأيديولوجي الذي كان موجوداً في السبعينيات.

وقيم الغنوشي السنوات الأربع الأخيرة في تونس قائلاً، السياسة تُقيّم بالنتائج، والنتائج كانت إيجابية. فتونس هي الشمعة التي تضيء في الربيع العربي، وهي الشاهد على أن العرب مؤهلون للديمقراطية، وأن الإسلام لا يتناقض مع الديمقراطية. كانت سنوات مليئة بالأحداث والتقلبات، وتمكن شعب عربي، في محيط عاصف، من اجتياز العقبات التي كانت في طريقه، واستطاع مركبه الوصول إلى الشاطئ، في حين غرقت كل المراكب الأخرى. وهذا يُحسب للتونسيين وللحكومات التي حكمتهم طيلة هذه المرحلة، وكذلك للمجتمع المدني، من خلال رعايته للحوار الوطني الذي كان بمثابة مركب الإنقاذ، ونُقدّر أن دور حركة "النهضة" من دون مبالغة كان مهماً.

ودافع زعيم النهضة عن تغير مواقف جبهته السياسية من النقيض للنقيض مؤكداً انهم في النهضة ينطلقون من أرضيات عدة، أولها أرضية الإسلام، باعتباره مرجعيتنا كحركة، وهو الذي يتيح لنا مجالاً واسعاً للاجتهاد والتعامل مع واقع متحرك ومتغير. وحتى يبقى الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان لا بد من الاجتهاد، أي ضرورة تنزيله على واقع معين في ظرف معين.

والأرضية الثانية هي التعامل مع موازين القوى المتحركة بطبيعتها، أي ما يُسمى بالسياسة الواقعية، فالظروف التي اندلعت فيها الثورة والتي صعدت فيها "النهضة" إلى السلطة عام 2011 غير الظروف التي وقّعت فيها الحركة على خارطة الطريق عام 2013.

وبين المحطتين مياه كثيرة جرت، فنحن حصلنا وقتها على الأغلبية النسبية في المجلس التأسيسي، وكان ما يُسمى بالإسلام السياسي وقتها في ذروة صعوده في المنطقة. ولكن ظروف توقيعنا على خارطة الطريق، والتخلي عن السلطة، كانت بعد شهرين من "الزلزال المصري" عندما كانت حركة التغيير على صعيد المنطقة في تراجع.

ومصر ليست بلداً هامشياً كي لا نتأثر به، وعدم التفاعل مع موازين القوى الجديدة كان سيؤدي بالتجربة التونسية إلى الانهيار الكامل.

ويكفي في هذا السياق النظر إلى التجارب الأخرى، على غرار ليبيا التي لم تتعامل مع التغيير الذي أصاب موازين القوى في المنطقة، ولم تستوعب بشكل جيد تداعيات الزلزال المصري، على الرغم من كونها هي الأقرب منه، فحاولت أن تواصل طريقها على المنهج نفسه، وكانت النتيجة أن غرقت في بحر من الفتن. أنا أعتقد أن الخلل في التجارب في البلدان العربية الأخرى ناتج عن عدم التفاعل مع تغير موازين القوى في المنطقة.

وكانت الأوضاع عندنا متأزمة حتى قبل اندلاع الأزمة المصرية، لأن القوى التي كانت تقف في وجه الترويكا أو الإسلاميين وحلفائهم، والتي اندفعت للتحالف مع بقايا النظام القديم، راهنت على إسقاط الترويكا حتى لو أدى ذلك إلى إسقاط التجربة ككل. وكان يمكن أن تُمنى التجربة التونسية بالفشل، وأن يسقط البيت على الجميع، لولا تنازل "النهضة" عن الحكم، في حين كان بإمكاننا الإصرار على شرعيتنا الانتخابية، ولكننا آثرنا مصلحة تونس ونجاح التجربة وإنقاذها.

إذاً كان الواقع التونسي مهيأ، وجاء تغير ميزان القوى الإقليمي من خلال الحالة المصرية ليعطي دفعاً لمن راهنوا على إسقاط التجربة في تونس، وكان في الإمكان أن تسقط التجربة التونسية كما سقطت أخواتها، ولكن السلوك السياسي، غير المعتاد لـ"النهضة"، حال دون ذلك، بفضل تنازلها عن السلطة، وامتناعها عن "الإجهاز" على خصومها التاريخيين، وذلك برفضها قانون الإقصاء السياسي، وعدم موافقتها على تحديد سن الترشّح للرئاسة الذي كان موجّهاً ضد (الرئيس الحالي) الباجي قايد السبسي، واعتراضها على بعض فصول القانون الانتخابي. كل هذه المواقف السياسية، غير العادية لـ"النهضة"، أنقذت التجربة التونسية التي كان يُراد لها أن تفشل.

ونوه الغنوشي أن الخلافات داخل جبهته تحدِّ آخر أيضاً، فـ"النهضة" حركة تحكمها المؤسسات، وليست طريقة صوفية يحكمها شيخ، ولذلك فإن قراراتنا كُلها تؤخذ بالتشاور، ونرى أن "النهضة" تُعتبر أكثر حزب في تونس يدير شؤونه عبر الشورى وعلى أوسع نطاق ممكن. ولذلك فماكينتنا الحزبية تعمل باستمرار، والنقاشات تطول وقراراتنا بطيئة وتُطبخ على نار هادئة، على الرغم من أن الأجواء حولنا غير هادئة.

يبلغ أعضاء مجلس الشورى 150، وهم مقتنعون بأنهم السلطة الأكبر في الحزب، ويمارسون هذه السلطة بكل قوة. من المفترض قانونياً أن يجتمع مجلس الشورى مرة كل ثلاثة أشهر، ولكن اجتماعاته في الفترة الأخيرة كانت متلاحقة وبلغت 30 مرة، مما يعادل نشاط ثمانية أعوام، مثله مثل المكتب التنفيذي والسياسي، وهي عملية مرهقة، ولذلك لا يمكن أن يحدث انشقاق في الحركة، ولا يمكن لأحد أن يخرج من "النهضة" ويدّعي أن رأيه لم يُسمع، الحركة يمكن أن تفقد أشخاصاً، ولكن لن تشهد انشقاقاً، ولن تنقسم.

ومثال ذلك، أن الموافقة على الحوار مع حزب "نداء تونس" لم تكن في البداية سهلة، فضلاً عن التفكير في الاشتراك معه في السلطة، وكذلك موقف الحياد في الانتخابات الرئاسية، أو عدم ترشيح أحد للرئاسة باسم الحركة، وذلك على الرغم من كونها حزباً كبيراً. كل هذا لم يكن سهلاً، ولكن لأن الخط السياسي كان صحيحاً، فهو لم يفضِ إلى انسداد، والدورة الأخيرة لمجلس الشورى شهدت أغلبية 62 صوتاً مع الالتقاء مع "النداء" ضد 12 صوتاً تقريباً، لأنه تبين صحة الخيار الأول.

وفسر سبب تحالفهم مه نداء تونس إلى أن الدين لا يمنع من التحالف مع هذا الطرف أو ذاك، وموازين القوى تغيّرت في البلاد، وقد سبق أن تحالفنا مع أحزاب علمانية. كما أن المصالح هي التي تحدد العلاقات السياسية. ولا ننسى أيضاً أن موازين القوى قد تغيرت. كنا في بداية 2013 نرفض الجلوس مع "نداء تونس" خلال الدورة الأولى للحوار الوطني، ولكن في آخر السنة أصبحنا نقبل العملية؛ لأن الموازين تغيرت.

ويثق الغنوشي أن الشعب التونسي الذي قام بثورة هو الحامي من مخاوف انقلاب نداء تونس على النهضة، بما يعني حالة نفسية جماعية جديدة جعلته يتحرر من الخوف، وأصبح يثق في ذاته وفي قدراته، ويشعر بأنه صاحب قرار، وذلك بعد أن رأى أمام عينيه رؤساء جبابرة يفرّون ويُسحلون ويُساقون إلى السجون. ومن يظن أن النظام القديم عاد فهذا تقدير خاطئ، لأن النظام ليس أشخاصاً، وإنما هي فكرة الحزب الواحد، والزعيم الأوحد، والإعلام الخشبي، وانتخابات الـ99 في المائة، والأموال التي تحتكرها العائلة الحاكمة، وكل هذا أشرقت عليه شمس الثورة.

نعم أنا تصديت لفكرة عودة النظام القديم وسفّهتها، واعترضت على فكرة التماهي بين حزب "التجمع" المنحل و"نداء تونس"، لأن تحليل الوضع التونسي على أساس أن "التجمع" هو "النداء" تحليل خاطئ، وسيقود إلى نتائج خاطئة. فالذين رفعوا شعار "ارفع رأسك فأنت تجمعيّ" لم يعطهم الشعب شيئاً ورفضهم، لأنه يرفض العودة إلى النظام القديم، كما رفض أيضاً الذين رفعوا شعارات الثورية الراديكالية، ودعوا إلى الإطاحة بكل عناصر النظام القديم، ورفضوا الحوار الوطني والتوافق، وخلطوا بين بناء النظام القديم الذي سقط وبين بعض أحجاره وعناصره التي يمكن أن تكون جزءاً من النظام الجديد.

وهذا أمر يحصل في كل الثورات، لأن الشعب حريص على وحدته ويخشى الذهاب إلى حرب أهلية. ولذلك كانت صورة الحوار الوطني مريحة للشعب؛ لأنه يرى جيرانه يتقاتلون بفعل الانقسام، وأنا أرى أن كل من قبِل بالدستور الجديد ودخل تحت خيمة "دين الثورة" فهو آمن، وهو مواطن كامل الحقوق. فالحكومات التي أفرزتها الثورة هي التي منحت الترخيص لهذه الأحزاب، فكيف نرفض الحوار معها؟ هذا غير معقول، لأن السؤال الذي يترتب بعد ذلك: مع من سنتحاور إذاً؟