نشر الصحفي والسياسي الليبي الدكتور مصطفى الفيتوري، مقالًا تحدث فيه عن كيف يرى العالم الغربي حكومة الوفاق الوطني، وكيف تغير وضعها من محاولة لحل الأزمة الليبية إلى صداع لا ينتهي للقوى الغربية.

وقال الفيتوري، إنه في 17 ديسمبر 2015 تم توقيع الاتفاق السياسي الليبي في الصخيرات بالمغرب بتشجيع من القوى الكبرى والجهات الفاعلة الإقليمية وجيران ليبيا المباشرين، وجرى الترحيب به باعتباره إنجازًا كبيرًا حيث وضع ليبيا على طريق الخلاص. في حفل استضافته وزارة الخارجية المغربية كان الجميع سعداء بأن ليبيا سيصبح لديها في النهاية حكومة وتبدأ في إعادة البناء بعد أربع سنوات من الدمار وسفك الدماء.

وأنشأ الاتفاق مجلسًا رئاسيًا قويًا مؤلفًا من تسعة أعضاء وأذن له بإنشاء ما يسمى بحكومة الوفاق الوطني. وكان من المفترض أن تكون حكومة الوفاق سلطة مؤقتة مع أجندة انتقالية تضمنت صياغة دستور جديد وتنظيم الانتخابات ووقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، فضلاً عن إدارة ليبيا.

وبعد أسبوع اتخذ مجلس الأمن الدولي القرار 2259 الذي يعترف بحكومة الوفاق الوطني بصفتها الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا ويمنحها السيطرة على إيرادات ليبيا الرائعة من صادرات النفط، وكان التصويت بالإجماع. ومع ذلك وفقًا للمادة 4 من الاتفاق السياسي الليبي فإن حكومة الوفاق لن تكون مشروعة إلا بعد الفوز بموافقة مجلس النواب في البلاد. وكانت الهيئة التشريعية -مجلس النواب-أحد الموقعين على الاتفاق الذي توسطت فيه الأمم المتحدة والذي أنشأ حكومة الوفاق الوطني.

وبعد ساعات قليلة من الاحتفال في المغرب قام البرلمانيون الذين وقعوا نيابة عن مجلس النواب برفضه علانية وادعوا أنه تم خداعهم للتوقيع. ورفض مجلس النواب منح حكومة الوفاق الوطني الثقة مرتين، مما جعلها غير شرعية وجعل عملها غير قانوني.

وفي الخلفية كانت القوى الموالية للجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر في شرقي ليبيا تكتسب الأرض من مجموعة من المنظمات الإسلامية المختلفة التي سيطرت على بنغازي والكثير من المناطق المحيطة بها. لم يقبل حفتر نفسه أبدًا بحكومة الوفاق الوطني ولا الاتفاق السياسي الشي أحدثها. واصل معركته وأخذها في ضواحي طرابلس في أبريل الماضي مدعيا -في بعض الأحيان عن حق-أن حكومة الوفاق يسيطر عليها الميليشيات ويجب الإطاحة بها.

وبعد تأسيسها انتقلت حكومة الوفاق إلى تونس ونظرت في كيفية إنشاء حكومة والعودة إلى طرابلس. وفي ذلك الوقت كان قد مر أربع سنوات منذ أن ارتكب الغرب والأمم المتحدة الخطأ الكارثي المتمثل في استخدام القوة التي قادها حلف شمال الأطلسي -الناتو-للإطاحة بحكومة الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي والتي أدت إلى اغتياله في أكتوبر 2011. كانت ليبيا ساحة معركة منذ ذلك الحين.

وكانت طرابلس تحت سيطرة عدد من الميليشيات المختلفة التي رفضت معظمها حكومة الوفاق الوطني ومنعتها من دخول العاصمة حتى مارس 2016. وشهدت المفاوضات المعقدة في الوقت الذي أجرته إحدى هذه الميليشيات التي أحببت فكرة تثبيت حكومة الوفاق الوطني في طرابلس. استغرق الأمر من باولو سيرا -المستشار العسكري للأمم المتحدة في ليبيا-ثلاثة أشهر لإقناع المليشيات الكبيرة بالسماح لحكومة الوفاق بدخول طرابلس. وبعد ذلك في 16 مارس 2016 انتقلت أخيرًا حكومة الوفاق الوطني إلى قاعدة بحرية مهجورة شرقي العاصمة.

وكان هذا خطأ آخر من قبل الأمم المتحدة لقد أرسلت حكومة الوفاق مباشرة إلى أيدي الميليشيات. وفي ذلك الوقت كانت حكومة الوفاق الوطني ولا تزال إلى حد كبير بدون جيش أو قوة شرطة وغير قادرة على حماية نفسها. وبقيت في القاعدة البحرية لمدة عام تقريبًا غير قادرة على الانتقال إلى المكاتب الحكومية على بعد بضعة كيلومترات. وأرادت الميليشيات المحلية شيئًا في مقابل السماح لحكومة الوفاق الوطني بالانتقال إلى مقرها في طارق السكة. وخوفًا من فقدان السيطرة جاءت الميليشيات بفكرة أن تصبح جزءًا من حكومة الوفاق. ووافقت الأخيرة وأصبحت الميليشيات اسمياً جزءًا من وزارتي الداخلية والدفاع وتمتلك القوة على أرض الواقع. لم يكن لدى حكومة الوفاق الوطني التي لا حول لها ولا قوة خيار سوى قبول هذا وسارعت لبدء عملها. ومع مرور الأيام أصبح من الواضح أن أهم أولويات حكومة الوفاق الوطني كانت السيطرة على الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، ومحاربة داعش في سرت. ومع ذلك مع سيطرة المليشيات على حكومة الوفاق الوطني ازدادت الهجرة غير الشرعية واستولى تنظيم داعش الإرهابي على المزيد من الأراضي على طول الساحل مما يهدد منطقة إنتاج النفط الليبي وتصديره.

وفي وقت متأخر كالمعتاد بدأ الغرب الذي دعم واعترف بحكومة الوفاق الوطني كحكومة شرعية في ليبيا يدرك خطأه. ومن الواضح أن بعض الدول الغربية -ولا سيما فرنسا وإيطاليا وبريطانيا-أرادت تثبيت وإضفاء الشرعية على حكومة الوفاق الوطني فقط للادعاء بأن لديها شريكًا في الكفاح ضد منظمات الهجرة والإرهاب في ليبيا. لقد وجدت حكومة الوفاق الوطني نفسها مجبرة على مباركة الميليشيات التي كانت تسيطر عليها بصورة ضئيلة أو معدومة. لقد تم الاعتراف بتحالف الميليشيات التي طردت داعش من سرت كجيش لحكومة الوفاق على الرغم من أنها ميليشيات مستقلة حاربت المتطرفين من أجل مصالحها الخاصة وليس من أجل ليبيا.

وهذا جعل خدمة الشعب الليبي أقل أهمية بالنسبة لحكومة الوفاق الوطني. والظروف المعيشية حتى في العاصمة طرابلس انخفضت أكثر وارتفعت تكلفة المعيشة وأصبحت السيولة المصرفية نادرة كل يوم وتضاعفت ساعات انقطاع التيار الكهربائي بالإضافة إلى غياب الأمن. لم تتمكن حكومة الوفاق من العمل بشكل صحيح -حتى لو أراد ذلك-لمجرد لأنها كانت وما زالت رهينة للميليشيات. وبعد أن سيطرت على الدوائر الحكومية بدأت المليشيات في جني الأموال من خلال سلسلة من عمليات الاحتيال لا سيما في مجال الاستيراد والتصدير هذا بالإضافة إلى حصولها على رواتبها من الحكومة أيضًا.

وبدلاً من كونها سلطة مؤقتة لا تزال حكومة الوفاق الوطني قائمة لمدة أربع سنوات أطول مما كان مفترضًأ. وتحت ضغط من قوات الجيش الوطني الليبي-التي تسيطر على معظم أنحاء ليبيا-قبلت الحكومة الوطنية عرض تركيا بالمساعدة العسكرية ووقعت اتفاقًا أمنيًا مع أنقرة في 27 نوفمبر 2019. ولم يستطع الأوروبيون فعل الكثير بشأن هذا الأمر على الرغم من كرههم. وبالنسبة للشرعية الدولية فإن حكومة الوفاق الوطني هي حكومة معترف بها من قبل الأمم المتحدة ويمكنها إبرام اتفاقات مع دول أخرى وهذا ما فعلته في الصفقة مع تركيا. لقد جرت مفاجأة الأوروبيين والولايات المتحدة ولم يتمكنوا من تحدي قانونيا ما تفعله تركيا من إرسال أسلحة ومقاتلين لمساعدة حكومة الوفاق الوطني ضد قوات الجيش الوطني الليبي. ويجدر بنا أن نتذكر أن أوروبا والولايات المتحدة أنشأتا حكومة الوفاق الوطني في المقام الأول. ومع تورط العديد من الدول الأجنبية في الحرب في ليبيا فإن التخلص من حكومة الوفاق الوطني دون وجود بديل موثوق به أمر خطير ومحرج للغاية من الناحية السياسية.

والأمم المتحدة والغرب الآن في فخ خلقهما بأنفسهما. يُقال إن الخروج منه أسهل من القيام به، لأن تركيا وليس الأمم المتحدة لها اليد العليا الآن في طرابلس.