مثل القرب الجغرافي بين ليبيا ومصر أحد عوامل نمو الحركة الإسلامية في ليبيا، خاصة وأن تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" في ليبيا أواخر الأربعينات من القرن الماضي كان على يد المصري عز الدين إبراهيم مصطفى. وقد تطور نشاط الجماعة بعد الاستقلال محققا انتشارا في صفوف الطبقات الوسطى بغطاء من الملك إدريس.
ومنح الملك الليبي السابق إدريس ملاذاً آمناً للجماعة بعد هروبهم من مصر، ورفض تسليمهم للحكومة المصرية التي كانت تلاحقهم آنذاك ما أدى لتوتر العلاقات وإغلاق الحكومة المصرية الحدود بينها وبين برقة. يقول الحاكم العسكري البريطاني لبرقة "دي كاندول" فى كتابه، "إن أول إجراء اتخذه الأمير بعد الاعتراف الرسمي به، أقحمه في صدام مع الحكومة المصرية، وكان رأيي الشخصي أن نُسلّم الرجال المطلوبين، ولكن الأمير إدريس ظل متشبثاً بموقفه".
لكن في 5 أكتوبر 1954، إستفاق الليبيون على أول عملية اغتيال سياسي في المملكة الليبية أو ما يعرف بليبيا الحديثة حيث قام الشريف محي الدين السنوسي باطلاق الرصاص على ناظر الخاصية الملكية إبراهيم الشلحي المقرب من الملك وصديقه الأقرب له فأرداه قتيلاً. ومثلت هذه الحادثة نقطة تحول في تاريخ جماعة "الإخوان المسلمين" في ليبيا. فعلى الفور أصدر الملك أدريس، أمراً ملكياً حظر بموجبه جماعة الإخوان المسلمين من ممارسة أي نشاط سياسي وأمر باتخاذ اجراءات لمراقبة ومحاصرة قياداتها وعناصرها الليبية لوجود علاقة بين القاتل وفرع الجماعة الإخوانية في ليبيا.
وبالرغم من حظرها، استمرت جماعة الإخوان الليبية، في نشاطها من خلال طباعة بعض الإصدارات وواصلت نشاطها التنظيمي "المصري – الليبي"، ومثل ما كانت ليبيا ملجأ ومأمناً للإخوان طيلة العشرين سنة (1949م – 1969م)، كانت بيئة سياسية واجتماعية حاضنة، وكانت مركزاً للتواصل وخط دفاع أول في مواجهة ما تعرضت له الحركة وما أصابها في مصر بعد ما اترتكبته هناك من قلاقل وعنف وسفك للدماء.
وفي أيلول/سبتمبر عام 1969، أطاح الضباط الوحدويون الأحرار بقيادة الزعيم الراحل معمر القذافي، بالنظام الملكي وتم إعلان قيام الجمهورية الليبية وأعلن عن تأسيس مجلس قيادة الثورة الذي إتخذ موقفاً عدائيًا جماعياً من الإخوان المسلمين وإعتبرهم تنظيماً مستورداً ومتطرفاً وقلب لهم تخطيطاتهم رأسًا على عقب على الرغم من مشاركتهم في الوزارات المختلفة التي شُكلت حتى العام 1973 ولكن في العام نفسه ُقبض على قادة الإخوان وسرعان ما ظهروا تليفزيونيا وأعلنوا عن حل الجماعة.
واستمرت الحكومة الليبية في مراقبة جميع حركات الإسلام، لضمان خلو الحياة الدينية من أي بعد سياسي، من خلال مراقبة المساجد وانتشار ثقافة المراقبة الذاتية بشكل عام، مع بقاء كل من رجال الدين وأتباعهم في حدود الخطوط الآمنة من الممارسات المقبولة. وتسارعت الأحداث وارتد الإخوان المسلمين إلى التنظيم السري مرة أخرى بينما كان نظرائهم فى مصر لا يتوقفون عن زعزعة أمن بلادهم وتنفيذ العمليات الإرهابية هنا وهناك.
وفي عام 1980، عاد طلاب ليبيون من الدراسة في الخارج حامليين فكر الإخوان وأعادوا بناء الجماعة وظلوا يعملون سرا حتى اكُتشفوا في يونيو 1998 حيث تم اعتقال أكثر من 152 من قياداتهم على خلفية اكتشاف تنظيم الإخوان، باعتبار أن النظام الليبي يحظر قيام تنظيمات سياسية ، بينما إختار المئات منهم الأرتباط بأجهزة المخابرات الأجنبية وخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا.
وفي الأثناء، أنتج وجود الإخوان ونشاطهم في ليبيا وتحديهم لنظام الدولة، ظهور الحركات المتطرفة ، التي كان من أوائلها جماعة تأسست بقيادة علي العشبي عام 1982 مع ثمانية من رفاقه، ما لبثت أن فككتها الأجهزة الأمنية الليبية وقتلت عناصرها التسعة. وفي عام 1989 استطاع عوض الزواوي تشكيل جماعة أخرى أطلق عليها "حركة الجهاد"، فاعتقل هو أيضاً وفي نفس العام شكل أحد أنصاره وهو محمد المهشهش الملقب بــ" أبو سياف" تنظيما يدعى" حركة الشهداء الاسلامية".
وبعدها انتقل العديد من الشباب الليبي ذي التوجه الجهادي إلى أفغانستان ملتحقين بتنظيم "الاتحاد الإسلامي" الذي يترأسه القائد الأفغاني عبد رب الرسول سياف. ونشط الجهاديون الليبيون في معسكر يعرف بمعسكر سلمان الفارسي في منطقة من مناطق القبائل الباكستانية على الحدود مع أفغانستان، كما نشطوا في معسكرات أخرى في قندهار وخوست وغيرهما، وكانوا النواة الأولى للجماعة الليبية المقاتلة التي كان من أبرز أهدافها عودة عناصرها إلى ليبيا والإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي.
لم تعلن الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة عن تكوينها إلا في وقت متأخر جدا بعد نشاطها في ليبيا وأفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، فبعد أن عادت بعض قياداتها من المعارك ضمن ما سمي "الأفغان العرب"، أعلنت مجموعة من المتطرفين الليبيين تأسيس الجماعة الإسلامية المقاتلة سنة 1995
وقد استغل أعضاء الجماعة الإرهابية جبهات القتال التي فتحت ضد السوفييت في أفغانستان لتطوير مهاراتهم القتالية وتلقن استراتيجيات عسكرية ذات نطاق واسع. وقامت الجماعة بعمليات مسلحة في مواقع مدنية وأمنية بليبيا في تسعينيات القرن العشرين بهدف إسقاط نظام العقيد معمر القذافي. إلا أن القوات المسلحة الليبية وأجهزة الأمن قضت عليهم، واعتقلت مجموعة كبيرة منهم.
اضطرت المقاتلة إلى تغيير استراتيجيتها في المواجهة وعبرت عن ذلك في بيان لها بــ "الهجوم الاستراتيجي والتراجع التكتيكي" فأوقفت بمقتضى تلك الاستراتيجية الاشتباكات مع الجيش الليبي مقتصرة علي عدد من محاولات اغتيال إستهدفت العقيد معمر القذافي بائت جميعها بالفشل. وألقي القبض على المئات من أعضاء الجماعة وقتل عدد كبير منهم مما دعاها إلى الهرب مرة ثانية لأفغانستان.
وقد توقف تمرد "الجماعة المقاتلة" وحملتها الإرهابية داخل ليبيا بحلول عام 1998، غير أنه لم يعلن عن وقف إطلاق النار الرسمي حتى عام 2000. وتم سجن العديد من أعضاء الحركة في ليبيا. وفي 16 فبراير من العام 2002 أصدرت محكمة الشعب الخاصة التي شُكلت لمحاكمتهم حكمها بالإعدام على المراقب العام للإخوان المسلمين في ليبيا عبد القادر عز الدين ونائب المراقب سالم أبو حنك وحُكم على 73 متهما آخرين بالسجن المؤبد.
ومنذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2006 دخل عناصر الجماعة المسجونين في ليبيا في حوار مع الحكومة الليبية ترعاه مؤسسة القذافي للتنمية برئاسة سيف الإسلام نجل العقيد معمر القذافي وبرعاية ثلاثة أجهزة أمنية ليبية هي الاستخبارات العسكرية والأمن الخارجي والأمن الداخلي. وفي العام 2009، قام زعماء الجماعة بتقديم اعتذار للدولة الليبية، الأمر الذي أدى إلى إطلاق سراحهم. واختار أعضاء الجماعة تأسيس إطار سياسي جديد وبديل، سموه "الحركة الإسلامية الليبية للتغيير"، وأعلنوا عنه في بيان تأسيسي يوم 15 فبراير/شباط 2011.
لكن هذه المرجعات سرعان ما اتضح أنها مجرد مناورة استخدمتها الجماعات الإسلامية ، "الإخوان" و"الجماعة الليبية المقاتلة"، لإخراج عناصرها من السجون، فهذه الجماعات سرعان ما عادت إلى السلاح ومحاربة الدولة مع اندلاع أحداث فبراير 2011، لتؤكد أن ما كتب من مراجعات جمعت في كتاب من 600 صفحة لم تكن سوى خداع ومراوغة، ضمن مشروع تآمري لإسقاط الدولة الليبية ونشر الفوضى.
وبالرغم من الشحنة التكفيرية المتطرفة التي لدى هذه الجماعات، فقد انخرطت في لعبة التحالف الدولي التي استهدفت إسقاط نظام العقيد معمر القذافي. حيث قادت العناصر العسكرية المدربة للجماعة الليبية المقاتلة عديد العمليات ضد الجيش الليبي مع إندلاع أحداث فبراير، وذلك تحت غطاء جوي من حلف الناتو الذي شارك بدوره في استهداف نقاط عسكرية نظامية عديدة في تلك الفترة.
وفي الأثناء، كان العقيد الراحل، مدركا تماما أن الهدف الرئيسي لتلك الجماعات هو السلطة السياسية والوصول إليها بقوة السلاح لفرض الهيمنة على نطاق واسع ومدة طويلة، كما كان مدركا لخطورتهم على الأمن الدولي عموما. وإتضح هذا من خلال تحذير أطلقه الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير من خطر التطرف الإسلامي الذي يهدد أوروبا.
وذكرت صحيفة "تلغراف"، في يناير 2016، أن القذافي قال لبلير في 25 فبراير/ شباط عام 2011، عندما عمت الفوضى وأعمال الشغب في ليبيا، إنه يسعى لحماية البلاد من المتمردين من "تنظيم القاعدة". ونقلت الصحيفة عن القذافي قوله "نحن لا نقاتلهم بل هم من يهاجموننا، وأخبرك الحقيقة: إن الموقف ليس صعبًا والقصة ببساطة هي أن هناك منظمة زرعت خلايا نائمة تسمي نفسها تنظيم القاعدة في شمال إفريقيا، استطاعوا الحصول على أسلحة، وهم يرهبون الناس، والناس لا يستطيعون الخروج من بيوتهم، إنها حالة جهاد".
وأشارت الصحيفة إلى أنه بعد ثلاثة أسابيع من هذه المكالمة، بدأ تحالف الدول الغربية، بما في ذلك بريطانيا، بشن غارات جوية على ليبيا، وأضافت الصحيفة: "يبدو أن تحذيرات القذافي كانت في محلها، فبعد الإطاحة به، تدهورت الأوضاع في ليبيا وما زالت غارقة في حرب أهلية. الكثير من الأراضي يسيطر عليها المتطرفون الإسلاميون المرتبطون بتنظيم. "داعش"، والكثير من الإرهابيين أرسلوا إلى فرنسا، في نوفمبر/ تشرين الثاني، قاموا بالهجمات الإرهابية التي ارتكبت في باريس".
وبعد سقوط نظام معمر القذافي، انقسمت الجماعة الليبية المقاتلة على نفسها، إذ كون عبد الحكيم بلحاج حزب الوطن الذي لم يفز بأي مقعد في المؤتمر. وكونت مجموعة أخرى من الجماعة حزب الأمة الوسط، بقيادة سامي الساعدي الذي حصل على مقعد واحد، شغله عبد الوهاب القايد شقيق أبو يحيى الليبي. كونت الجماعات السلفية حزب الأصالة والمعاصرة المقرب من دار الإفتاء، قاده علي السباعي، ولم يفز بأي تمثيل. فيما ارتبطت بعض مجموعات الجماعة المقاتلة بكتائب عدة في طرابلس وبنغازي.
وتحولت ليبيا منذ 2011 إلى ملاذ آمن للإرهاب، وظهرت الجماعات الإسلامية المتشددة، التي اتضح تهديدها المستمر في سبتمبر 2012 عندما هاجم جهاديون، بعضهم ينتمي لتنظيم أنصار الشريعة، المجمع الدبلوماسي الأمريكي في بنغازي، وقتلوا كريستفور ستيفينز، السفير الأمريكي في ليبيا، وثلاثة من زملاءه. كما تمكن المتشددون من السطو على مخازن السلاح التابعة للجيش الليبي، والسيطرة على مدن بأكملها وفرضوا على السكان قوانينهم ورؤيتهم المتطرفة.
وفي أكتوبر 2018، وقال رئيس الوزراء الإيطالي السابق، سيلفيو برلسكوني في مقابلة مع صحيفة الأهرام المصرية اليومية، إن الزعيم الليبي الراحل العقيد معمر القذافي كان هو الوحيد القادر على الحفاظ على الوحدة الليبية. وفي تصريحات لوكالة الصحافة الإيطالية، أكد يرلسكوني، إن وصول الإسلاميين في السلطة في ليبيا سيكون بمثابة "كارثة" لمنطقة البحر الأبيض المتوسط.
ويؤكد العديد من المراقبين أن هدف الجماعات الإسلامية خاصة المسلحة منها، كان الوصول إلي السلطة بقوة السلاح لفرض فكر معين، مستغلة شعارات دينية لسهولة استنباطها تبني مقولاتها لأنها مبهمة وغير واضحة ولا تحوي نظاما محددا يترك الباب مفتوحا أمام أهواء قياداتها الكبيرة. وهو ما يعكسه التحاف بين الإخوان والجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة ومجموعات مقاتلة إسلامية أخرى مع الناتو لإسقاط النظام، رغم أن شعارهم دائما هو محاربة المصالح الغربية.