لم يكفي الفقر و البطالة ،و البنية التحتية الرثّة و لا غياب الحلول التنموية الناجعة و الجذرية في مدينة القصرين التونسيّة الحدوديّة مع الجزائر حتّى إنضاف إليها الإرهاب و أحداث الشعانبي و المنطقة العسكريّة المغلقة ثّم بعد ذلك ما يعرف بقضيّة شهداء الثّورة التي حُكم فيها بالبراءة على وزير الدّاخلية السابق في عهد بن علي رفيق بالحاج القاسم و كبار المسؤولين الأمنيين .
القصرين التي تقع على سفوح جبل الشعانبي أعلى قمّة في البلاد التّونسيّة ،و الذي يتحصّن في غاباته الكثيفة و كهوفه الكثيرة منذ عام تقريبا مجموعة جهاديّة مسلّحة دخلت في مواجهة مع قوات الأمن و الجيش و تستهدف الآمنين و المدنيين ،تعاني من مشاكل إقتصاديّة كبيرة ،حيث تبلغ نسبة البطالة حدود الــ40 بالمائة حسب بعض الإحصائيات مقارنة بالمعدل الوطني الذي هو في حدود الـ17 بالمائة ،و قرابة الــ20 بالمائة دون مستوى تعليمي و تبلغ نسبة الفقر في الجهة 22 بالمائة ،و هو ما يُصوّر بدقّة الحالة الإجتماعيّة و الإقتصادية في مدينة يبلغ سكّانها قرابة النصف مليون ساكن .
عندما تتجوّل في مدينة القصرين تلاحظ ثنائية غريبة حيث الشارع الكبير و الطويل وسط المدينة لا يعكس أبدًا المشهد داخل الأحياء الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية و البنية التحتية الرثّة و البناءات الفوضوية و غياب الإنارة ليلا و حالة الطرقات الرّديئة و تصريف المياه و غياب مرافق الحياة الضّروريّة ،و هي عوامل تساهم في انتشار الجريمة و المظاهر السلوكية المنحرفة و تفشي ظواهر خطيرة كالمخدّرات و الإنقطاع المبكّر عن الدّراسة .
هذه الظّروف الإجتماعيّة القاسيّة تمثّل في نظر الخبراء أحد أهم العوامل التي تفرّخ الإرهاب و التطرّف و تنتعش فيها الحركات الأصولية و الجهاديّة ومنها تستمد عناصرها و فيها تجد حاضنتها الشّعبيّة ،يقول السيّد البودالي عسيلي ناشط سياسي و رجل تعليم بالمدينة أنّ الكثير من شباب الجهة قد إنخرطوا في تيارات دينيّة متشدّدة و كثير منهم إلتحق بالإرهابيين في الشعانبي ،و الأمر حسب تقديره يعود إلى غياب خطاب ديني وسطي و ثقافة دينيّة متساحة و هي خطأ الدّولة على المستوى الوطني عموما و ثانيا لغياب التنمية و انتشار البطالة و الفقر و الإنقطاع المبكر عن الدّراسة على المستوى الجهوي .
في مقهى "باريس" وسط القصرين إلتقينا مجموعة من الشباب الذين تحدّثوا لنا عن الوضع في المدينة ،حيث أجمعوا كلهم على أنّ البطالة و الفقر و غياب التنمية و التهميش هي السمات الأبرز لجهة القصرين بكل معتمدياتها و قراها و مدنها و أريافها ،و الجميع هنا في المدينة يطالب الدّولة بالإلتفات الى المدينة و أهلها و إيجاد حلول ناجعة للحد من نسبة البطالة و الفقر .
يقول وليد الغرسلي ناشط سياسي من أبناء مدينة القصرين متحدّثا لــ"بوابة إفريقيا الإخباريّة" عن الوضع في المدينة التي تقع في الوسط الغربي التونسي على الحدود التونسي/الجزائرية :"بالنسبة للوضع الإجتماعي و الإقتصادي بالقصرين تقريبا لم يتغيّر منذ بداية الثورة ،فقد كانت الإنتظارات كبيرة بتحقيق التنمية و التشغيل و العدالة الإجتماعية إلاّ أنّ الناس أصيبت بصدمة و خيبة أمل كبيرة نتيجة لتساقط شعارات الثّورة الشعار تلو الآخر بدء من محاسبة رموز النّظام السابق و إعطاء حق الشّهداء كما لم يتحقّق اي مطلب من مطالب التنمية و التشغيل على الأقل في ما هو ظاهر و ملموس على الأرض في مايخص حياة المواطنين ،و مازاد الوضع تعقيدا هو ما يحصل الآن في الشعانبي حيث كان لهذه الأحداث تأثيرات سلبية على جلب الإستثمار للمنطقة ،حيث أن المستثمرين إتخذوها تعلّة لوجود الإرهاب ،و المسألة في تصوّري أعمق من هذا حيث أن الدّولة هي من يفترض أن تبادر بالإستثمار في مشاريع عمومية ذات قدرات تشغيلية عالية في الجهات الدّاخلية ،فمعلوم أن رجال الأعمال لا يغامرون بأموالهم في مناطق ليس بها بنية تحتية و وضع أمني غير مستقر ،و بالتالي كان على الدّولة أن تتدخّل و تكون هي المبادر في هذا السياق" على حدّ تعبيره .
و في ذات الإطار تحدّث عمران رزقي (29عاما) لــ"بوابة إفريقيا الإخبارية" بالقول :"بالنسبة لموضوع التنمية في القصرين و الحالة الإقتصادية عموما فالمسؤولية تقع على عاتق الدّولة فهنالك الكثير من الفقر و البطالة و التهميش و مشاكل الإنقطاع المبكر عن الدّراسة و سببه الرئيسي هو الظّروف الماديّة للعائلات ،فالأغلبية هنا تعيش تحت خط الفقر بكثير ،فعندما تشاهد داخل مدينة القصرين تستطيع أن تلاحظ وجود بعض الأحياء الراقية خاصة على الطّريق الرئيسي و تجد بنية تحتية "خادعة" تجعلك تعتقد بأن أهل المدينة يعيشون في أحسن الظّروف ،غير أنّه و بمجرّد الدّخول إلى الأحياء الشّعبية التي تمثّل الوجه الحقيقي للمدينة فستجد المأساة و المعاناة حيث هناك عائلات تتكون من 13 و 14 فردا يعيشون في بيت واحد"
و يضيف عمران :"الجانب الثاني الذي يجب الحديث عنه هو الإستثمار ،فالدّولة لم تراهن على الإستثمار في الجهة فالمنطقة الصناعية التي عمرها يتجاوز الخمس سنوات ،لايوجد يها مشاريع كبيرة و هامة يمكنها تشغيل الكثير من اليد العاملة ،ثمّ إنّه على مستوى الإستثمار الخاص فإنّ الأغلبية لا تستثمر هنا ،فالمستثمر لا يضع أمواله في المدينة بل يذهب للبحث عن أماكن أخرى و لو كان من أبناء الجهة ،و هذا مردّه الى الكثير من العوامل ،فالسبب الأوّل هو أنّ القصرين منطقة حدوديّة ،حيث أنّ المستثمر لا يريد الدّخول في منافسة مع السلع المهرّبة الرّخيصة التي يقبل عليها المواطن نظرًا لثمنها الزّهيد أكثر من غيرها من المنتوجات الوطنيّة عالية السّعر ،إضافة و هذا العامل الثاني إلى ما شهدته القصرين و خاصة بعد الثّورة من الرجّات الأمنيّة و آخرها مشكلة الشعانبي التي أضرت كثيرا بصورة المدينة و جعلت المستثمر لا يغامر بأمواله في منطقة مضطربة أمنيًا" على حدّ قوله .
و هنا يتدّخل أشرف علواني (29 عاما) أستاذ تعليم ثانوي في المدينة ليتحدّث عن مشكلة التشغيل و التنمية و الإستثمار فالسبب يعود في نظره الى تفشّي ظاهرة الرّشوة و الفساد و فساد بعض المسؤولين –على حدّ تعبيره- الشيء الذي يجعل المستثمر يهرب من الجهة و لا يغامر بالدّخول في عملية توظيف للأموال في ظروف كهذه .
ويضيف أشرف بالقول :"نحن في القصرين لا نصدّر شيئا غير الشّهداء منذ معارك الإستقلال الى ثورة 14 جانفي التي دفعت فيها المدينة أكبر عدد من الشهداء على المستوى الوطني و لم نحصل مع ذلك على شيء ،ثمّ البنية التحتية في المدينة لا تساعد على تشجيع الإستثمار و لو تشاء نذهب الآن الى داخل الأحياء الشّعبيّة حي السلام أو حي النّهضة أو حي الزّهور و ترى حالة الطرقات الرثّة و سبق أن قام أصحاب سيارات الأجرة بإضراب من أجل تحسين الطّرقات في المدينة و هذا من حقّهم فهم يدفعون الضّرائب من أجل تحسين الطّرقات ،و لكن السّلطات الجهوية لم تفعل شيئا غير ردم الحفر بالتراب" على حدّ تعبيره .
و يواصل أشرف علواني بالقول :"هذه المدينة مهمشة و كم من حكومة مرّت على هذه البلاد و لم تفعل لنا شئيا من بورقيبة الى بن علي الى حكومة الغنوشي الأولى و الثانية مرورا بالترويكا و حتى الحكومة الحالية و كلّها تنتهج نفس المنهج ،و لم يقدّموا للجهة شيئا غير الحضائر رخيصة الدّخل و التي تنهك ميزانية الجهة دون أي مردود يذكر ،و نحن لا نريد حضائر بل نريد مشاريع استثمارية حقيقية و هي وحدها الكفيلة برفع مستوى الحياة في الجهة و الحدّ من ظاهرة الفقر و البطالة". على حسب رأيه
الحياة في القصرين عاديّة و لا يبدو أن الإرهاب الرابض على مرتفعات الشعانبي المطلّ على المدينة قد أثّر كثيرا على نسق الحياة فيها بخلاف ما تسبّب فيه من أضرار إقتصاديّة على مستوى السياحي و الإستثماري و حتى الفلاحي حيث أنّ الكثير من القطاعات الفلاحية تضرّرت بفعل الإرهاب و بفعل أن جبال السلوم و سمامة و الشعانبي التي تحاصر المدينة هي مناطق رعي بالأساس للمئات من الفلاحين و جامعي الحلفاء و مربيّي النّحل .
مباركة (60 عاما) بعصابة سوداء و وشم أخضر على ذقنها و بلباس تقليدي بالوان زاهية ،و جدناها بسوق المدينة تبيع "الثّوم" تحدّثنا إليها و لم يكن ذلك يسيرًا حيث تعلّلت في البداية بأنها تعمل ،ثمّ الخوف من التّصوير و لكن عندما أقنعناها بالحديث و سألناها ما الذي يدفع إمرأة كبيرة للعمل في السّوق قالت مباركة :"أنا أعمل من أجل بناتي و زوجي المريض الذي يحتاج الدّواء هُو غير قادر عن العمل بسبب العجز المرض ،فلمن أترك بناتي ؟" .
الحضور الأمني في القصرين كثيف جدًّا خاصة على مداخل المدينة ،و يقول محدّثنا عدنان عامري عضو المكتب الجهوي للإتحاد العام التونسي للشغل بأنّ الأمر عادي بحكم طبيعة المنطقة الحدوديّة و أكّد لنا السيّد عدنان بأنّ الحضور الأمني خاصة داخل المدينة عادي بمقارنة بما قبل أحداث الشعانبي ،غير أنّ مداخل المدينة و أطرافها تشهد حضورًا أمنيا ملحوظًا و انتشارًا مكثفا لحواجز التفتيش و المراقبة ،إضافة الى عدم السّماح بدخول أي كان الى داخل المنطقة العسكريّة المغلقة التي أعلنها الجيش الوطني التّونسي منذ 11إبريل/نيسان الماضي .