لم تنجح ليبيا على مدى عقود من الزمن في أن توفي بالتزاماتها بموجب القانون الدولي في ما يتعلق باحترام وحماية استقلال السلطة القضائية، وقد تعرض النظام القضائي لتدخل مستمر من جانب السلطة التنفيذية، وللفساد ولمستوى سيء من التعليم والتدريب.
فالسلطة القضائية في ليبيا تواجه تحديات جمة، لا سيما في ظل تردي الأوضاع السياسية و الأمنية، فالنظام القضائي بالكاد قادر على تسيير أعماله و هو يواجه تحديات خطيرة من جانب الجهات المسلحة، كما يعاني من إطار قانوني و قضائي غير واضح، خاصة مع خروج بعض الإسلاميين من ذوي التوجهات الراديكالية يطالبون بقضاء شرعي مبني على أسس من الشريعة الإسلامية، من دون توضيح مطمئن لطبيعة هذا النوع الجديد من القضاء.
مرحلة انتقالية:
بعد شباط / فبراير عام 2011، استلم المجلس الوطني الانتقالي المعلن ذاتيا زمام السلطة بعدها معلنا عهدا جديدا من الديمقراطية في ليبيا وأصدر الإعلان الدستوري ليكون أساس للحكم خلال المرحلة الانتقالية، وقد نص الاعلان الدستوري على تنظيم عملية انتخابية حرة و نزيهة لانتخاب حكومة انتقالية جديدة سنة 2012، وتمت عملية انتقال السلطة على اثر انتخابات وصفت بالسلمية نسبيا، أما الخطوة التالية في العملية فكانت للتمثل في انتقال السلطة من المؤتمر الوطني العام إلى برلمان جديد و دائم،وهو مجلس النواب، الذي وجد نفسه محاصرا بالميليشيات في العاصمة طرابلس.
بدت ليبيا عند هذه المرحلة وكأنها تمر بفترة انتقالية ناجحة بالحد المعقول، رغم أعمال عنف مشتتة، ورغم التأثير المستمر للميليشيات، وذلك في العام 2014، تعرقلت عملية الانتقال بفعل تصاعد العنف في وقت أدى فيه تطور الخلافات المشتعلة حول طبيعة ليبيا الجديدة، وانتهاء ولاية البرلمان و إجراءات التسليم إلى انقسام الحكومة إلى حكومتين.
تم تكوين المجلس الأعلى للقضاء، وهي الهيئة الإدارية للجهاز القضائي، وتم حظر جميع المحاكم الخاصة والالتزام باحترام حقوق الإنسان وتوفير محاكمة عادلة. واختارت السلطات الجديدة الحفاظ على النظام القضائي القائم، ورغم العلم بمشاكل الوضع الأمني، دافع المؤتمر الوطني العام عن المحاكم المدنية والجنائية الحالية وكذلك الهيئة القانونية العامة.
في انتخابات مجلس النواب في حزيران / يونيو 2014 لم يعاد انتخاب عديد من الأعضاء الذين شغلوا مقاعد في المؤتمر الوطني العام، بعد ذلك، سيطر ائتلاف الميليشيات المعروف باسم "فجر ليبيا" على العاصمة طرابلس، و أعلن عن ولائه للمؤتمر الوطني العام الذي رفض الاعتراف بشرعية مجلس النواب و استمر في نشاطاته كسلطة تشريعية بحكم الواقع على بعض مناطق ليبيا .
وفيما اعترفت الأمم المتحدة و معظم الدول الأخرى بمجلس النواب باعتباره البرلمان الشرعي لليبيا، بادرت المحكمة العليا الليبية بقرار تعلن فيه أن مجلس النواب لم ينشأن طبقا للإجراءات المنصوص عليها في الاعلان الدستوري لسنة 2011، فرد مناصروا مجلس النواب ان المحكمة أصدرت قرارها تحت تأثير من الميلشيات التي كانت تبسط سيطرتها عليها في تلك الفترة.
في ليبيا اليوم برلمانان، لكل منها رئيس وزراء و وزارات عامة ولا يزال كل منهما يقر تشاريع يطبقها على الأرضي الليبية كلها، و نتيجة لذلك يسود ارتباك كبير في ما يتعلق بالقوانين التي تعد سارية فعليا في ليبيا، كما حاولت الحكومتان التدخل ببنية السلطة القضائية أيضا، ما أثر سلبا على استقلاليتها.
و في شهر كانون / ديسمبر من سنة 2015، وبعد جولات من محادثات السلام برعاية الأمم المتحدة، وقعت الفصائل الليبية المتنازعة على اتفاق لإقامة حكومة وحدة وطنية، إلا أن كبار القادة ضمن المؤتمر الوطني العام رفضوا التوقيع على الوثيقة و مازال على مجلس النواب أن يصوت للموافقة على الحكومة الجديدة.
الإعلان الدستوري و محاولات الإصلاح
في العام 2011 و على اثر الأحداث ضدّ نظام القذافي، عمل المجلس الوطني الانتقالي على صياغة و إصدار الإعلان الدستوري ليكون أساس الحكم في المرحلة الانتقالية، إلى أن يتم التصديق على الدستور الدائم في استفتاء شعبي، "وقد الغي هذا الإعلان الكتاب الأخضر و الإعلان الدستوري لسنة 1969 و دستور سنة 1951 أيضا.
انتخبت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور سنة 2014 و فوضت إلهيا مهمة صياغة دستور جديد للبلاد، على حسب ما ينصّ عليه الاعلان الدستوري، قوبلت هذه الهيئة بجدل واسع، سيما في ظل الأنقسامات بين المحافظين من جهة و الأعضاء الليبراليين حول بعض المواد الأساسية، كدور الشريعة في الإطار القانوني و حقوق المرأة.
وقد عكست تلك الخلافات بشكل أو بآخر الانقسامات السياسية السائدة في البلاد، وعلاوة على ذلك، قامت الجماعة الأمازيغية بمقاطعة الهيئة منذ بداية عملها، و تلتهم بعض المقاطعات لاحقا من الطوارق و التبو على فترات مختلفة نظرا لاعتقادهم بأن المسار الدستور لا جماعاتهم.
في شهر كانون الأول / ديسمبر 2014، نشرت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور مقترحا لجانها النوعية لمختلف أبواب الدستور، تمت مناقشة تلك المقترحات إلى حد ما من قبل أفراد و منظمات المجتمع المدني و غيرهم من أصحاب المصلحة المعنيين خلال سنة 2015 قبل أن تصدر عن لجنة الصياغة المؤلفة من 12 عضوا من الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور مسودة شاملة في شهر تشرين الأول –أكتوبر من العام نفسه.
و على نحو مثير للجدل، يسعى الإعلان الدستور لسنة 2011 إلى رسم حدود للإطار القانوني الليبي، فينص في المادة 1 منه ‘لى أن ليبيا "دينها الإسلام و الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع "و تستعاد هذه الفكرة في المسودة الأخيرة للدستور الجديد التي تنص في المادة 8 على أن "الإسلام دين الدولة و الشريعة الإسلامية مصدر التشريع وفق المذاهب و الاجتهادات المعتبرة شرعا من غير إلزام فقهي معين منها في المسائل الاجتهادية".
تطرح هذه المقتضيات، بتحديدها أن الشريعة تتفوق على الدستور، مخاوف حيال قدرة ليبيا على الامتثال لاتزاماتها الدولية، بما في ذلك تلك التي تنشأ على القانون الدولي لحقوق الإنسان، لا يجوز اخضاع اتفاقيات حقوق الإنسان التي انضمت إليها ليبيا للقانون المحلي، بما في ذلك أي تفسيرات أخرى بحجة احتمال التعارض مع الشريعة أو أي قوانين أخرى لا تتوافق مع الهدف و الغاية من هذه المعاهدات.
قضاء تحت الضغط
المعايير الدولية واضحة في ما يتعلق بضرورة اختيار قضاة تتوافر فيهم شروط موضوعية و شفافة، بما في ذلك التدريب و التعليم و القدرة و النزاهة، حرصا على ضمان استقلاليتهم و حيادهم، وفقا لمبادئ الأمم المتحدة الأساسية، "يتعين أن يكون من يقع عليهم الاختيار لشغل الوظائف القضائية أفراد من ذوي النزاهة و الكفاءة، وحاصلين على تدريب أو مؤهلات مناسبة في القانون، وبالتالي فإن المؤهلات و النزاهة عاملان أساسيان عند اختيار القضاة.
كما أكدت عليه مبادئ الأمم المتحدة الأساسية، بتعين أن يكون من يقع عليهم الاخيار لشغل الوظائف القضائية أفرادا، حاصلين على تدريب أو مؤهلات مناسبة في القانون، ولكن لا تتوقف عملية التعليم و التدريب القضائية لحظة التعيين، بل هي تستمر كجزء لا يتجزأ من المهنة القضائية، لهذا السبب ناشدت اللجنة المعينة بحقوق الانسان الدول إيلاء عناية خاصة إلى تدريب القضاة من أجل تمكينهم من تحقيق العدالة بسرعة و حياد .
لكن رغم التقدم في القانون، يبقى أن انعدام الاستقرار السياسي الحالي في ليبيا قد أثر على التعيينات القضائية، وقد أشارت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الانسان في شباط فبراير 2016، إلا ان "التعيينات الأساسية في ما يخص القضاة و غيرهم من أعضاء الهيئات القضائية قد اندرجت في سياق النزاع السياسي الأمل في ليبيا، وقد ناشدت اللجنة الدولية للحقوقيين جميع السلطات في ليبيا احترام استقلالية القضاء و تجنّب أي تدخل غير مشروع بأي وسيلة كانت، لا سيما في ما يتعلق بالتعينات.
بالرغم من عدم وجود مؤشرات بحسب الظاهر تدل على سوء أوضاع القضاة، إلا أنه حسب تقارير عدة، تأخر صرف المرتبات عن كثير من القضاة، وعن موظفين عموميين آخرين منذ مطلع عام 2015، من الضروري إرساء جهاز قضاء فعال و ضمان حسن سير العدالة من أجل ترسيخ سيادة القانون و إعادة الاستقرار في البلاد.
و قد أصدر المجلس الأعلى للقضاء مدونة اخلاقيات وسلوك شامل لأعضاء الهيئات القضائية من خلال القرار رقم 3 لسنة 2008، تكرّس المدونة مبدأ استقلال القضاء، بما في ذلك وجوب ممارسة القاضي لمهمته من دون أي تأثير أو ضغط خارجي و تضمن تقوية ثقة الناس في القضاء من خلال احترام قواعد السلوك القضائي في حين تنص المادة 2 على معيار النزاهة الذي يطبق على القرارات و الأحكام القضائية و الإجراءات التي تؤدي إلى دور القرار.
ويعتبر الخضوع لـ"الإملاءات الخارجية"، وضعف المستوى الفني، بسبب المحاباة في الاختيار من رؤساء المحاكم، وعدم جدوى الدورات المعدّة لتأهيل رجال القضاء والنيابة، من أهم ما يواجه القضاء الليبي من مشاكل، بنظر بعض المختصين في القضاء الليبي، سواء من الدولة، أو من المحيط الاجتماعي.
وفي جميع أنحاء البلاد، تعمل المحاكم الجنائية بالحد الأدنى، ففي الجبل الأخضر أجبر عدم كفاية الأمن والتهديدات ضد أعضاء النيابة العامة والقضاة المحليين على تعليق جميع التحقيقات والمحاكمات منذ شهر ديسمبر 2012، كما تم إضرام النار في مقر محكمة ودان، وهي مدينة صحراوية تبعد 600 كم عن جنوب شرق طرابلس، في فبراير 2013، وأتلفت جميع الملفات.
أضف إلى ذلك أن معظم السجون التابعة للحكومة مكتظة وخالية من نظم الأمن المناسبة، وهو ما أدى إلى حالات فرار، وما يزال هناك عجز إلى حد الآن على القبض على آلاف المجرمين المدانين الذين قام القذافي بإطلاق سراحهم خلال الأيام الأولى لأحداث فبراير 2011.
ولكن الأهم من ذلك، هو أن الدولة غير قادرة أو غير راغبة في منع الأفراد والجماعات المسلحة من تطبيق عدالة المنتصر، حيث ترفض المئات من الجماعات المسلحة تسليم سلاحها بعد سقوط النظام، ورغم أن البعض منها يقع رسميا تحت سلطة مكتب المدعي العام المدني أو العسكري، فإنها تميل إلى التصرف بشكل مستقل وتعسفي.
ويشعر العديد من الليبيين العاديين، حتى من الأوائل المؤيدين للثورة، بالغضب حيال عجز الحكومة عن استعادة النظام، وقد اعترف رئيس المؤتمر الوطني العام نفسه بأن التأخير في تفعيل وإصلاح القانون خلق حالة من السخط والتوتر بين مختلف شرائح المجتمع وساهم في انتشار الفوضى والاضطرابات والفساد وضعف أداء الجهات الحكومية المختلفة.
ومن بين هذه الاشكالات الخلاف مع المحكمة الجنائية الدولية بخصوص محاكمة سيف الإسلام القذافي وعبد الله السنوسي، وسيكون على ليبيا إقناع قضاة المحكمة الدولية بقدرتها على ضمان محاكمة عادلة.