العشرية الأخيرة في تونس مازالت تترك أثارها المختلفة على كل المستويات. الأزمات السياسية تورث بعضها ولا أحد يعرف متى نهايتها حتى بعد إجراءات الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو وبروز أشكال جديدة من انقسام المواقف، أزمات الاقتصاد تقود البلاد نحو مرحلة غير مسبوقة وتعيد للأذهان لحظة "الكوميسيون المالي" ورهن البلاد للاستعمار الفرنسي قبل قرن ونصف القرن. يضاف إليها الجدل الجديد حول محاكمات ما بعد 25 يوليو والتي خرجت من الطور المدني المعتاد إلى المحاكم العسكرية التي كانت بعيدة في أغلب الفترات عن مشاكل البلاد إلا فيما ندر، ليعود الخوف والحديث عن هامش الحريات الذي يعتبر المكسب الوحيد في سنوات "الثورة".

في الـ25 من يوليو 2021، اتخذ الرئيس التونسي قيس سعيد قرارا بإقالة الحكومة وتجميد البرلمان وإجراءات أخرى أنهت سنوات طويلة من المناكفات والصراع اللذين لم تر منهما البلاد إلا الأزمات المتعاقبة أمنيا وسياسيا واقتصاديا. ثم أعقبها الرئيس بقرارات لاحقة في سبتمبر تحت مرسوم رقم 117، تمنحه صلاحيات التشريع من خلال المراسيم، وتنظيم وسائل الإعلام، والمجتمع المدني، والمحاكم، بما يعني جعل قصر قرطاج مكان أغلب القرارات بطريقة خلفت حتى انتقادات بغض النظر عن وجاهة بعض الخطوات التي اتخذت خاصة خلال الفترة التي أعقبت 25 يوليو من أطراف يقول مراقبون أن لدى القضاء العسكري كل المؤيدات لإحالتهم أمام دوائره وقد حصلت بالفعل عدة محاكمات لشخصيات مثيرة للجدل في البلد.

في شهر نوفمبر الماضي، انتقدت منظمة العفو الدولية بعض الإجراءات الرئاسية في علاقة بالمحاكمات العسكرية في تونس. وقالت المنظمة إن المحاكمات استهدفت مدنيين بشكل متزايد، وفي بعض الحالات، بسبب انتقادهم العلني للرئيس قيس سعيد منذ أن أعلن عن إجراءاته. وذكرت العفو الدولية أن أشهر أغسطس وسبتمبر وأكتوبر، حقق القضاء العسكري مع ما لا يقل عن عشرة مدنيين، أو حاكمهم، بشأن مجموعة من الجرائم.


ونبّهت المنظمة أنه “لا ينبغي أبدًا محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية. ومع ذلك، في تونس، يبدو أن عدد المدنيين الذين يمثلون أمام نظام القضاء العسكري يتزايد بمعدل مقلق للغاية ... وفاق عدد المدنيين الذين مثلوا أمام المحاكم العسكرية عددهم في السنوات العشر السابقة مجتمعة”.

وليس خاف على أحد في تونس، أن أروقة المحكمة العسكرية، كانت أكثر حركة بعد 25 يوليو، وأن عددا من السياسيين والمحامين قد اتخذت فيهم أحكام بالسجن، لكن هذه المحاكمات تقول أطراف أنها بنيت على اتهامات واضحة ولم تتخذ بسبب موقف من الرئيس، والدليل أن البعض حوكم على أحداث وقعت قبل ذلك التاريخ، من بينها قضية المطار التي حوكم فيها النائبان سيف مخلوف ونضال سعودي المقربيْن من حركة النهضة.

وإلى فترة قريبة وعلى الرغم من الانتقادات التي توجهها بعض المنظمات لمسار 25 يوليو، على مستوى الحريات الفردية والتعبير عن الرأي، إلا أن أغلب الانتقادات تزامنت مع وضع سياسي متداخل ومع إيقاف أشخاص يعتبرهم البعض يصفون حسابات خاصة مع الرئيس. لكن الجدل الحقيقي بدأ مؤخرا بعد إحالة محام وعميد سابق للمحامين على أنظار القضاء العسكري في تطور لافت انتقدته حتى الأطراف المنسجمة مع تمشي الرئيس سعيّد، وجعل الكثيرين يتخوفون من دخول البلاد في نفق المحاكمات العسكرية لكل مخالفي سعيّد.

الحادثة التي أثارت الرأي العام في تونس، بدأت يوم الأربعاء 2 مارس الماضي عندما أصدر قاضي التحقيق العسكري بطاقة ايداع بالسجن في حق العميد الأسبق للمحامين عبد الرزاق الكيلاني على خلفية اتهامات له بتحريض الأمن على العصيان خلال زيارته للقيادي في حركة النهضة نور الدين البحيري الذي يرقد بالمستشفى الجهوي ببنزرت (أفرج عنه مساء الاثنين)، منذ وضعه رهن الإقامة الجبرية قبل شهرين. وهي تهم على معاني فصول تتعلق بالانضمام إلى جمع من شأنه الإخلال بالراحة العامة وهضم جانب موظف عمومي.

وفي ردود أفعال مختلفة أصدرت منظمات وهيئات تونسية يوم الأحد 06 مارس، عبرت فيه عن تضامنها مع الكيلاني، معتبرة أن التهم الموجهة إليه، غامضة، داعية إلى إطلاق سراحه والكف عن استعمال القضاء العسكري لمحاكمة المدنيين وتصفية المعارضين والخصوم السياسيين وضرب الحريات العامة ومحاولة اسكات كل الأصوات الناقدة لنفوذ رئيس الجمهورية قيس سعيّد المتزايد ولمسانديه. بل نبهت إلى ضرورة ما سمته "الاستبدادي الزاحف الذي يتمدد ليضرب لا فقط المكاسب الديمقراطية التي حققها الشعب ، بل كل المنظمات والأحزاب المدنية والسلطة القضائية".

وفي مقابل هذه المواقف هناك من يعتبر أن الإجراءات الاستثنائية منحت القضاء العسكري وقتيا التعامل مع عدد من القضايا التي تأتي في ظروف استثنائية وبناء على اتهامات يمكن استئنافها وفق ما يمنحه القانون للمتهمين، وقد صدرت قرارات بالإفراج بعد الانتهاء من التحقيقات مع أغلب من تم إيقافهم، بالإضافة إلى أن صفات المحامين والنواب والنشطاء السياسيين لا تمنحهم صكوك البراءة ويجب التعامل معهم كأي مواطن آخر تلحقه أي اتهامات. كما أن البعض من مؤيدي الرئيس يعتبرون أن متهمين مثل سيف الدين مخلوف أو عبد الرزاق الكيلاني يصعدون ضد الدولة في إطار موقف سياسي من الرئيس قيس سعيّد ومناولة خدمة لأطراف سياسية معروفة وتضغط على الرأي العام المحلي لتحويل المعركة من قضايا في المحاكم إلى تسجيل نقاط ضد الرئيس.