منذ نشأتها بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت منظمة الأمم المتحدة بهيئاتها الفرعية، ورشة للتفكير وصياغة المشاريع والمقترحات في بعدها الكوني الإنساني، وعلى مدى قرن إلا ربع، وضعت عدة مشاريع وبرامج في قضايا التنمية والسلام والبيئة والعيش المشترك والهجرة والأمن....، وهي قضايا تهمُّ كل المجتمعات والأمم، تقف بعض مقاصدها على الطريف النقيض من مقاصد قومية شوفينية في عدد من دول العالم. وقد أقرّت الأمم المتحدة عشرات من الأيام العالمية لم تندمج بعد في ثقافة عدد من المجتمعات بسبب تجاهل سياسات عدد من الدول لقيمة هذه الأيام وعدم إدراجها في مقرراتها التربوية وسياستها الإعلامية، وهو أمر يعيق سيرورة التطور في تلك الدول المنغلقة في وجه العالم والمتقوقعة حول ذاكرتها.
ويبدو الاختلاف واضحا بين البلدان التي تعاملت بجدية مع قضايا التطور والتنمية وتلك التي تعاملت معها باستخفاف وبنوع من الغطرسة والتعالي. الاختلاف كبير بين البلدان العربية نفسها، حيث هناك بلدان قطعت أشواطا في التنمية بمعاييرها الأيكولوجية والتكنولوجية، بينما بقيت بلدان أخرى ترزح تحت مشاكل الفقر والبطالة والانفلات الأمني والهجرة غير النظامية.
وتبقى المدينة بمواصفاتها الحديثة مؤشرا على تطور الوعي لدى المواطنين كما لدى الحكومات، وهذا ما نسعى إلى فتح النقاش حوله في حدود الإمكانات المتوفرة لدينا.
منذ سبعة أعوام، في 27ديسمبر 2013، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها 239/68 ، الذي أقرت بموجبه تعيين يوم 31 أكتوبر من كل عام بوصفه اليوم العالمي للمدن. ويراد من هذا اليوم تعزيز رغبة المجتمع الأممي في نشر الحضرية على مستوى العالم، والدفع قدما نحو التعاون بين البلدان لاستغلال الفرص المتاحة والتصدي للتحديات الحضرية، والمساهمة في التنمية الحضرية في كل أنحاء العالم.
في العام الماضي حيث تزامنت المناسبة مع انتشار جائحة كوفيد – 19، خصصت الأسبوع المغاربي ملفا حول الموضوع (انظر الأعداد 31- 32 و33)، بهدف إثارة الانتباه إلى ضرورة الانشغال السياسي بالمخاطر المترتبة عن غياب الوعي المدني والبيئي وإلى ضرورة الاشتغال العلمي على المدينة. وكانت الأمم المتحدة أولت هذا اليوم اهتماما في سياق التغيرات التي عرفها العالم تحت تأثير جائحة كوفيد 19.
كانت كل تقارير العام الماضي عن مدن العالم، الصادرة عن موئل الأمم المتحدة ركزت على أهمية المبادرة المحلية وعلى فوائد المدن التي تشرك جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك المجتعمات المحلية لتعزيز المدن المستدامة للجميع، واعتبر الأمين العام المدن والمجتمعات المحلية على أنها في الخطوط الأمامية للاستجابة لكوفيد - 19.
موضوع احتفالية 2021: تكيف المدن من أجل المرونة المناخية
تعاني المدن في جميع أنحاء العالم بشكل متزايد من آثار التحديات والمخاطر المرتبطة بالمناخ وغيرها مثل الفيضانات والجفاف وارتفاع مستوى مدينة مينائية يزيد عدد سكان كل منها عن 130سطح البحر وموجات الحر والانهيارات الأرضية والعواصف. من المتوقع أن تتأثر ما لا يقل عن مليون نسمة بالفيضانات الساحلية. في عالم يزداد احترارًا، يجب معالجة الآثار المباشرة وغير المباشرة لتكرار حالات الجفاف وموجات الحر.
إن المليار شخص من سكان العالم الذين يعيشون في مستوطنات حضرية غير رسمية معرضون للخطر بشكل خاص. فهم محرومون، بدرجات متفاوتة، من السكن اللائق والحصول على الخدمات الأساسية مثل الصرف الصحي المناسب، والمياه العذبة والصالحة للشرب، وأنظمة تصريف مياه الأمطار، وإمدادات كهربائية موثوقة وفعالة، والتنقل بأسعار معقولة. وهم عرضة بشكل خاص للعديد من المخاطر، بما في ذلك تغير المناخ، حيث أن المستوطنات العشوائية تقع في أماكن مكشوفة وغير مستقرة.
وبالرغم من التحديات الجسيمة التي تواجهها المدن، إلا أنها كذلك أماكن للفرص والابتكار في تطوير حلول مستدامة للارتقاء إلى الأمام بعد حدوث اضطراب. يمكن أن يؤدي بناء القدرة على التكيف والاستفادة من رأس المال الاجتماعي في المدن إلى الحد من مخاطر الكوارث وتعزيز المرونة الحضرية في مواجهة التحديات المستقبلية التي لا يمكن التنبؤ بها في كثير من الأحيان، ونقاط الضعف التي يمكن التنبؤ بها. يساعد تكييف المدن من أجل المرونة المناخية المدن والسكان على الاستعداد للمخاطر التي تشكلها الصدمات والضغوط التي يمكن التنبؤ بها والتي لا يمكن التنبؤ بها والتخفيف من حدتها والاستجابة لها. لذلك، يُعد التكيف مع المناخ أحد الأولويات الرئيسية للمرونة الحضرية المستقبلية ولصحة ورفاه الناس والبيئة.
المدينة والتنمية في التقرير العربي الأخير
في التقرير العربي للتنمية المستدامة 2020، وفي الهدف 11 (جعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود ومستدامة)، نص التقرير أن المدن العربية هي مراكز حيوية للنشاط الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. غير أن التوسع العمراني المتزايد على غير تخطيط في جميع أنحاء المنطقة، بفعل الفقر وتغير المناخ والصراعات، يثقل المدن والمستوطنات البشرية والموارد الطبيعية الشحيحة بضغوط هائلة، تزيد من الإقصاء الاجتماعي والمخاطر.
والمدن، يقول التقرير، التي طالما احتضنت جماعات متنوّعة من المهاجرين الأمميين والنازحين الداخليين، تنتشر فيها وفي ما بينها أوجه عدم المساواة. وتستمر الفوارق في إمكانية حيازة أرض أو سكن، والحصول على خدمة، والاستفادة من بنية تحتية جيدة النوعية، والخروج إلى مساحات عامة وبيئة نظيفة. ولتسريع التقدم في تحقيق الهدف 11 من أهداف التنمية المستدامة، على الدول العربية مواجهة تحديات التوسّع العمراني بالتخطيط الذي يركز على الإنسان والسياسات المتكاملة لتصميم المساحات. فتحسين الحوكمة في المدن والمستوطنات البشرية هو ضرورة لا تقل عن الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية، بما في ذلك الأراضي.
ووفق التقرير، ازداد عـدد سـكان المـدن فـي المنطقـة العربيـة أكثـر من أربع مرات بيـن عامـي 1970 و2010 ، وسـيزيد أكثـر مـن مرتيـن بين عامي 2010 و2050.
فـي منتصـف عـام 2018، بلـغ عـدد اللاجئين فـي المنطقـة7.3 مليـون بحسـب مفوضيـة الأمم المتحـدة لشـؤون اللاجئين، بالإضافة إلـى 4.5 مليـون فلسـطيني مسـجلينً 9.14 مليون فـي الأونروا. وقـد ناهـز عـدد النازحيـن داخليـا فـي عام 2017.
المدينة المغاربية بشكل عام ولا سيما في الجزائر وتونس والمغرب أنتجتها الفترة الكولونيالية، تم تصميم تلك المدن وفق الثقافة الأوروبية، ولم يكن المغاربيون يشكّلون سوى نسبة مئوية صغيرة قد لا تتعدى 10 بالمئة من ساكنة تلك المدن، وما إن رحل المستعمر وشرع الأوربيون في الرحيل حتى حدث نزوح عشوائي في اتجاه تلك المدن من البوادي والأرياف، ووجد الوافد المغاربي على تلك المدن نفسه في فضاء غريب عنه ودخل في صراع سيكولوجي مع فضائه الجديد سرعان ما تحول إلى صراع أيديولوجي انعكس سلبا على أجيال الاستقلال التي لاذت بالثقافة الأصولية بعد أن عاشت حالة الاغتراب. ولأن النازحين من البوادي والأرياف كانوا يشكلون أكثر من تسعين بالمئة من ساكنة المدن المستقلة، ولأسباب ذات صلة بالفشل السياسي وغياب ثقافة العيش المشترك وثقافة المدينة واتساع رقعة البطالة ورقعة الفساد، أصبحت المدن أرضا منتجة للعنف والتطرف، ومسرحا للصراع السياسوي المناهض لكل مظاهر التمدن.
بعد أن راكم دعاة الأيكولوجيا العميقة تجربة في البحث العلمي والنضال الأيكولوجي بدأت البرامج السياسية في الغرب تتبنى الأطروحات الأيكولوجية، ومع الثورة التكنولوجية أصبحت السياسات أكثر انشغالا بتصميم مدن بمعايير حديثة، فأصبحنا نسمع بالمدينة الأيكولوجية، والمدينة الذكية ومدينة المعرفة، وشبكات المدينة (City networks) و الشبكة المدينية “MAN” وما شابه.
ومنذ النصف الأخير من القرن الماضي، وبعد أن دخلت البلدان العربية غمار الاستقلال، اختلفت السياسات في تدبير شؤونها الداخلية على خلفيات متخمة بالأيديولوجيا، وفي الوقت الذي تورطت بعض الدول في انشغال غير متبصر بما هو خارجي على حساب مصالح شعوبها، ركزت دول أخرى اهتمامها على البناء الداخلي، وأبلت حسنا، فأسست مدنا أصبحت ذات صيت عالمي، وهي اليوم تضاعف جهودها وفق رؤية استباقية لتشييد مدن وفق مواصفات حديثة، ولعل ما يحدث في بلدان الخليج يستدعي منا نحن المغاربيين إعادة النظر في طريقة تفكيرنا التي حرمت شعوبنا من بلدان يطيب فيها العيش.
مؤخرا فقط، نظمت السعودية "قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر"، حيث كان النقاش بين رؤساء الدول والحكومات حول تحديد الحلول والسياسات الخضراء للأصول البيئية المشتركة، وكيفية التعاون على المساهمة بأفكار في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (كوب 26). كوب 26 أو قمة غلاسكو التي تجري أشغالها هذه الأيام وتدوم أسبوعين باسكتلندا، تشارك حوالي 200 دولة فيها، لبحث سبل التقليل من الانبعاثات الحرارية بحلول عام 2030 والمساعدة في تحسين الحياة على كوكب الأرض الذي أفسدته السياسات الجاهلة.
الجزء من الملف سيصدر بالأسبوع المغاربي غدا الثلاثاء 2 نوفمبر. وإذ تشكر بوابة أفريقيا الإخبارية، والأسبوع المغاربي السيدات والسادة اللواتي/الذين ساهموا بجهدهم ووقتهم في إثراء هذا الملف، يطيب لنا أن نعبر عن ترحيبنا بكل الصديقات والأصدقاء في مجال الثقافة بمساهماتهم في هذا الملف الذي يكتسي، من وجهة نظرنا، أهمية قصوى، ويحتاج إلى عمل نسقي ومنتظم.