يذهب بعض الدارسين إلى أن سنة 1908 مثلت منطلق التأسيس للمسرح التونسي، ذلك أن هذا التاريخ شهد قدوم فرقة كوميدية شعبية مصرية لتقدم عرضا تحت عنوان "العاشق المتهم"، ثم شهد مجيء فرقة أخرى تحت إشراف سليمان القرداجي لتقدم بدورها سلسلة من العروض المسرحية. وهو ما دفع بالشباب التونسي إلى التجمع ومحاولة تأسيس مسرح تونسي، فتعددت المحاولات إلى أن تم بعث أول فرقة مسرحية تونسية، لتكون سنة 1913 شاهدة على أول مسرحية بنص تونسي وحملت عنوان "الانتقام".

كانت جلّ المسرحيات، التي شهدتها بدايات القرن العشرين، باللغة العربية الفصحى، في حين دارت مواضيعها حول معظم القضايا الإفريقية والعربية مستلهمة بذلك المخزون التراثي ورموزه التاريخية، كردة فعل على الواقع الذي تكبله أيادي الاستعمار الغاشم. وفي نفس الإطار، شهد الفن المسرحي أنذاك، بروز العديد من الفرق مثل "المسرح التمثيلي" و"جمعية التمثيل" و"فرقة المستقبل الكوميدي"، في الثلاثينات، ثم اضمحلت بعضها، لتشهد فترة الخمسينات بروز غيرها، وهو ما يشير إلى أن هذه التجربة كانت تشهد نوعا من الحراك الثقافي في سبيل تأسيس مسرح كبير، ظل يبحث باستمرار عن سبل تجاوز العراقيل التي تواجهه، وربما كان الحضور النسائي أهمّ المشاكل التي اعترضته.

إن مرحلة الاستعمار، برغم الصعوبات التي رافقتها، لم تتمكن من ردع هاجس التأسيس لمسرح تونسي، إذ نستطيع الإشارة إلى العديد من الأسماء التي حاولت تخطّي جلّ المصاعب، ومن بينها "خليفة الاسطنبولي" والهادي الأرناؤوط" و"محمد الحبيب" ومحمد عبد العزيز العقربي". أما في المرحلة التي تلتها، إبان الحصول على الاستقلال، فقد تأسست جملة من الفرق على غرار "الفرقة البلدية" التي كان "علي بن عياد" من أهم رموزها، نظرا لتمكنه من إنتاج جملة من المسرحيات مثل "الماريشال" وصاحب الحمار" وعطيل"، وهي أعمال جعلته يصل إلى الآخر الغربي خاصة بعد عرض مسرحيته "كاليغولا" في مسرح الأمم بباريس.وعرف المسرح التونسي، نقلة نوعية مكنته من خوض بداية التأسيس الفعلي له، وذلك منذ بدايات الستينات من القرن الماضي، حيث شهد نزوعا نحو الهيكلة والتنظيم، كما شهد انتشارية في معظم المجالات عبر تدريسه في المدارس الابتدائية والثانوية والجامعات، مما دفع به لإحداث حركية ثقافية واسعة تشهدها معظم المناطق في البلاد التونسية كالقيروان وصفاقس وسوسة وقفصة والكاف.

نستطيع الإشارة في هذا السياق، إلى أهم الفرق التي لعبت دورا كبيرا في مجال الإنتاج المسرحي، لنذكر فرقة قفصة مع محمد رجاء فرحات والفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري ورؤوف بن عمر، وفرقة الكاف بإدارة المنصف السويسي، وفرقة المسرح العضوي مع عز الدين قنون، ثم تواصلت التجارب إلى أن شهدت سنة 1983 ميلاد المسرح الوطني.ومنذ التسعينات، شهدت العديد من الولايات مراكزا للفنون الدرامية، وآخرها مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان، وتعددت شركات الإنتاج، لتم التمهيد إلى إنشاء طرق مختلفة في الإبداع سواء برعاية السلط المعنية، أو عبر الجهود الذاتية للمبدعين والمسرحيين، وربما تجدر الإشارة هنا إلى "فرقة فاميليا" و"فرقة التياترو" وفرقة "مسرح الحمراء"، كنموذج عن المسرح الخاصّ الذي عوّل على الاحتراف والمضي قدما في الإبداع دون انتظار أو التعويل على ما تنتجه الهياكل الحكومية من أعمال فنية. وإضافة إلى ذلك ساهم المعهد العالي للفن المسرحي في خلق حركية ثقافية ومسرحية شاسعة بعد أن مثل الغطاء الذي يفسح المجال لجل الطلبة المبدعين والموهوبين. 

 

المهرجانات المسرحية في تونس

يشهد المسرح التونسي اهتماما كبيرا من قبل المثقفين، ذلك أنهم ساهموا إلى حد بعيد في بعث العديد من الملتقيات والمهرجانات التي تحفل به، وأبرزها تلك فتحت المجال للإبداع العالمي، فلم تقتصر على المحلية، وإنما حاولت جاهدة لإحداث نوع من التفاعل الثقافي يربط جل التجارب العالمية ويضعها ضمن تخوم الإنسانية بعيدا عن التعصب ورفض الآخر، وتقويضا للمبدأ القائل بالانغلاق والتحجر، ومن بينهما نستطيع أن نذكر مهرجان البحر الأبيض المتوسط بحلق الوادي، الذي نشط طويلا ولأكثر من 20 سنة، ومهرجان  أيام قرطاج المسرحية الذي فتح الطريق أمام المسرح الإفريقي والعربي. والى جانب آخر تفام العديد من المهرجانات الوطنية الأخرى، على غرار المهرجان الوطني لمسرح الهوّاة بقربة، ومهرجان خليفة الاسطنبولي بالمنستير، ومهرجان مسرح التجريب بمدنين، والمهرجان الجامعي الدولي للمسرح بالمنستير، مهرجان المسرح الحديث بالقيروان، ومهرجان فرحات يامون للمسرح بجربة، ومهرجان إبراهيم الأكودي، بأكودة، ومهرجان أيام نيابوليس لمسرح الطفل بنابل، ومهرجان ربيع المسرح بنابل، ومهرجان ربيع المسرح بحمام سوسة، ومهرجان المسرح بقفصة، ومهرجان المونولوج والمسرح الفردي بالقيروان.  

رواد التأليف المسرحي

ساهم المشهد الثقافي في تونس، وخاصة في مجال الفن المسرحي، بروز العديد من الكتاب المسرحيين، بالرغم من أن التجربة المسرحية باتت تعتمد على الكتابة الركحية، ومن أبرز هؤلاء الكتاب، عز الدين المدني الذي كتب "رحلة الحلاج" و"تعازي فاطمية"، و"ثورة صاحب الحمار" وابن رشد"، والعديد من المسرحيات الأخرى، ونشير أيضا إلى أن هناك أسماء أخرى كبيرة في نفس المجال، وعلى سبيل المثال نستطيع أن نذكر بعضها، على غرار سمير العيادي ومصطفى الفارسي وحسن المؤذن والحبيب بولعراس ومحمد إدريس وجليلة بكار ومحمد الغزي.إضافة إلى ذلك، تشهد الساحة المسرحية في تونس اليوم، بروز العديد من الكتاب المسرحيين، وخاصة من الشباب، الذي أخذوا على عاتقهم مسؤولية الحفاظ على جل المكتسبات، محاولين بذلك، حماية هذه التجربة من التصحر، وذلك عبر المزيد من الإصرار والمحاولة والدخول في التجريب، كاستيعاب الراهن ومحاولة تذويبه وتطويره لانجاز الأفضل، والسير به إلى أفق المستقبل، في سبيل بناء تجربة رائدة قد تحقق العالمية.

مستقبل المسرح التونسي

لا يمكن التغاضي عن فكرة تقول بأن المسرح التونسي يشهد العديد من الأزمات والهنّات، تكمن تجلياتها في العديد من الصراعات بين المسرحيين، وفي مستوى الدعم المادي الذي تخصصه وزارة الثقافة لهذا الغرض، وفي لجوء البعض الى تسييسه، وفي العديد من المستويات الأخرى كضعف بعض الأعمال تقنيا وإبداعيا، وربما يعود ذلك إلى سياسة التصحر الثقافي التي تشهدها البلاد منذ أمد بعيد، نظرا للعوامل السياسية التي انتهجت طريق المراقبة والمعاقبة من جهة، وعدم اكتراث البعض أو لا مبالاتهم بخصوص التكوين الفكري والأكاديمي الذي من خلاله تعمق الرؤية الفنية وتسمو إلى تخوم التخييل والإبداع من جهة ثانية.لكن هذه الأزمات والهنات، لا يمكنها أن تمثل خطرا من شأنه طمس الأفق المستقبلي للتجربة المسرحية في تونس، فهي إلى حد الآن مازالت متمسكة بدورها الطليعي، إفريقيا وعربيا، نظرا لحجم المراكمة الكبيرة التي أحدثتها والإرث الثقافي الذي زرعته، مما خوّل لها أن تصبح بمثابة الخبز اليومي للمسرحي التونسي، ولا يمكن إطلاقا التحدث عن أفولها لأنها الآن محلّ إقبال كبير من قبل الدارسين والباحثين الذين جعلوا منها محط اهتمامهم، واعين بحجم الأخطار التي تهددها. وهذا الوعي هو الذي سيمكنهم من تحديد تنظيمات ومؤسسات وهياكل تساهم في تطويرها وتحقق لها المزيد من الإشعاع.

 إن تراكم التجربة، سمح بتحقيق الإضافة وفرض التواجد في محافل عربية ودولية، شهدت للمسرح التونسي بثرائه، ودعت للاستفادة منه،  فهو برغم محاولات النظام السابق، في تمييع الأنشطة الثقافية وشراء بعض الوجوه المسرحية لتلمع له صورته، ورفضه للعديد من الأعمال وحرمانها من الدعم أو العروض لأنها لا تتماشى وسياسته، إلا أنه ظل متماسكا وقادرا على تخطي جل الصعوبات. وهو أيضا برغم حكومة الإسلاميين التي جرمت الفنانين ولاحقتهم وزجت بهم في السجون وحرمتهم من العروض بإطلاق الميليشيات في الفضاءات الثقافية، إلا أنه أنتج أعمالا فنية راقية ومبدعة ومجددة، كي يثبت أن تجربته من الصعب جدا خلخلتها أو ردعها، أو حتى تحويل وجهتها من طريق الإبداع والنقد إلى مسالك أخرى رجعية وأصولية.

وانه بمجرد الحوار مع البعض، نلمس إصرارا كبيرا على تحدي جل المصاعب، كما أنه بمجرد الإطلالة على البحوث الجامعية التي يقدمها طلبة المعهد العالي للفن المسرحي، نشهد أنه هناك ضرب من التأسيس لحركة نقدية جدّية، من شأنها خلف أفق مستقبلي وعالمي للمسرح التونسي، ذلك أنها فتحت المجال لتطرق جل الأبواب في شتى المواضيع الفنية والإيديولوجية والفكرية، وتدرس تاريخ المسرح الإفريقي والعربي والعالمي حدّ السواء.إن وعي المثقف التونسي اليوم بأن المسرح يطرح أسئلة الكبيرة، كمغامرة للدخول في صلب القضايا المصيرية، ويعكس إلى حد كبير الاتجاهات الذاتية الباحثة عن حلول للمعضلات الكونية الكبرى، هو ما يجعل الآن من المسرح التونسي، يحمل هم التجديد ورؤى فنية وجمالية ومعاصرة،