شهدت العلاقات المصرية الأميركية تذبذبا شديدا بعد ثورة 30 يونيو، وظلت واشنطن ترسل إشارات متناقضة إلى القاهرة، تلوح أحيانا بقطع المعونات العسكرية والاقتصادية، وتعترف أحيانا أخرى بخارطة المستقبل، مؤكدة على أنها ما تزال في انتظار تحقيق بقية خطواتها.

عقب ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي فاز بها المشير عبدالفتاح السيسي، سارعت إدارة الرئيس باراك أوباما إلى إصدار بيان رحبت فيه بنتائج الانتخابات، وأعربت عن تطلعاتها إلى العمل مع الرئيس المصري الجديد، في خطوة اعتبرها كثيرون مقدّمة لتغيّر السياسات الأميركية تجاه مصر.

في ظروف أخرى، كان ترحيب الإدارة الأميركية بالرئيس المصري المنتخب، عبد الفتّاح السيسي، بروتوكولا عاديا، لكن في ظلّ المتغيّرات التي حصلت في المنطقة في السنوات الأخيرة والتي أثّرت بشكل كبير على العلاقات المصرية الأميركية عدّ مراقبون وخبراء إعلان الولايات المتحدة أنها تتطلع إلى العمل مع قائد الجيش السابق عبد الفتاح السيسي الذي فاز بانتخابات الرئاسة في مصر، دعوة صريحة من واشنطن لعودة التواصل مع القاهرة.

وعّلق عبدالرؤوف الريدي، سفير مصر الأسبق في واشنطن، على بيان البيت الأبيض، قائلا في تصريح لـ”العرب” إن البيان يدل على أن الاتجاه الأميركي يسير تدريجيا نحو تحسين العلاقات بين البلدين.

في ذات السياق، علّق محللون على هذا التصريح بأن واشنطن تعرف دور مصر في الشرق الأوسط ولا تستطيع أن تتخذ قرارا خاصا بالمنطقة بعيدا عن دور تضطلع به القاهرة، لكن عودة العلاقات ستكون مشروطة وفق قواعد جديدة تقوم على الندية وتكافؤ المصالح.

لكن عودة العلاقات المصرية الأميركية لن تكون، على الأقل في بدايات حكم السيسي، قوية كما كانت من قبل، على غرار عهدي أنور السادات وحسني مبارك، ثمّ خلال السنة التي تولّى فيها الإخواني محمد مرسي، رئاسة مصر.

فالإدارة الأميركية لن تتخلى بسهولة عن جماعة الإخوان المسلمين. كما أن تأثير الإخوان، ولئن تقلّص بشكل كبير في مصر، فإن التنظيم مؤثّر بشكل كبير في المؤسسات الأميركية. وقد كشفت تقارير أن جماعة الإخوان المسلمين اخترقت بشكل خطير الإدارة الأميركية.

سيبقى الإخوان حجر عثرة أمام تمتين العلاقة بين واشنطن والقاهرة، ويؤّكد ذلك محمد العرابي، وزير خارجية مصر الأسبق، الذي قال لـ”العرب”: “صحيح أن الإدرة الأميركية ستتعامل مع الرئيس المصري الجديد بقدر أكبر من التعاون، لكن سيظل العنوان الكبير الذي ستتحدث عنه واشنطن مع أي مسؤول مصري هو موضوع المصالحة وأن الإخوان يجب أن يشاركوا من جديد ويكون لهم دور في الحياة السياسية”.

وأضاف العرابي، الطامح للعودة مرة ثانية لمنصب وزير الخارجية في الحكومة المقبلة، أن استمرار تمسك الأميركيين بالرهان على جماعة الإخوان بلا شك سيؤثر على العلاقة بين البلدين، وسيجعلها تشهد المزيد من الشد والجذب والصعود والهـــبوط.

والمحدد الأهم لما ستكون عليه العلاقة المصرية الأميركية هو الواقع الذي يفرضه المصريون وتصميمهم على إدارة الأمور الداخلية من منطلق المصلحة الوطنية.

بدأت العلاقات المصرية الأميركية رسميا سنة 1832 بفتح قنصلية أميركية في مصر، ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن تميزت هذه العلاقات بالتأرجح بين التعاون والصراع، وفق المتغيرات والأحداث التي شهدتها المنطقة. فخلال الفترة الأخيرة من حكم الملك فاروق، يذكر مؤلّف كتاب “مصر كما تريدها أميركا من صعود ناصر إلى سقوط مبارك” لويدس. جاردنر، أن "السي أي إيه كانت على علم بثورة 23 يوليو 1952".

ولئن اختلف المؤرّخون وتضاربت الآراء حول وجود دور أميركي من عدمه في ثورة الضبّاط الأحرار، فإنهم اتفقوا على أن فترة جمال عبد الناصر، كانت الفترة الأصعب في العلاقات بين واشنطن والقاهرة. وكثيرون اليوم يستحضرون جمال عبد الناصر في شخص السيسي ويرون في رئيس مصر الجديد نسخة حديثة من عبد الناصر.

في عهد الرئيس جمال عبد الناصر كانت العلاقات في بدايتها مشجعة لكنّها انتهت بخلاف كبير عندما أوقفت الإدارة الأميركية تمويل السد العالي فتوجّهت حينها مصر إلى الاتحاد السوفيتي. واليوم يعيد التاريخ نفسه وفق المحللين، حيث ولّت القاهرة وجهها شطر موسكو حين قامت واشنطن بتجميد برنامج المعونة الأميركية البالغ مليار و300 مليون دولار على خلفية عزل الرئيس الإخواني محمّد مرسي.

بلغت العلاقات أوجها في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، حيث بدأت العلاقات تتحسن بعد أن كانت مقطوعة، وتطورت إلى حد أن الرئيس كارتر دعا السادات لزيارة واشنطن وانتهت في كامب ديفيد إلى توقيع معاهدة السلام.

هذه المعاهدة كانت السبب في إقراراها أن واشنطن وعدت بمساعدات لمصر، واستمرت هذه المساعدات التي كانت عبارة عن منح اقتصادية وعسكرية، في عهد حسني مبارك. ويقول لويدس. جاردنر، عن هذه الفترة في كتابه “مصر كما تريدها أميركا من صعود ناصر إلى سقوط مبارك”، “كان نهج واشنطن في التعاطي مع حكم حسني مبارك متشعبا، ومرتبكا أحيانا، وكانت الـ”سي أي إيه” تعتبر مصر حليفا لا يمكن الاستغناء عنه، وكانت للبنتاغون علاقات طيبة مع الجيش المصري”.

في مرحلة السبعينات استطاعت الدبلوماسية الأميركية، بعد احتواء النفوذ السوفيتي وإبعاده من المنطقة، أن تؤسس علاقات اقتصادية وتجارية مزدهرة حتى مع الدول العربية الثورية مثل الجزائر وسوريا، لكن نجاحها كان أبعد بكل المقاييس بالنسبة إلى تطور علاقاتها بمصر.

ومنذ عام 1978 أصبحت الولايات المتحدة بمثابة شريك كامل والمصدر الرئيس للأسلحة وأكبر مانح للمساعدات الاقتصادية لمصر، الأمر الذي زاد من حدة الانتقادات الداخلية والعربية التي تعرض لها النظام المصري من جراء ذلك إلى حد وصفه بالعمالة للولايات المتحدة، رغم أن إحدى الدراسات التي أجريت حول العلاقات المصرية الأميركية خلال الثمانينات أظهرت أن هناك درجة يعتد بها من الاستقلالية أظهرها نظام مبارك في مواجهة الولايات المتحدة إذ وضعت دراسة كريستوفر شوميكر وجون سبانير مصر في فئة "العميل – المسيطر أو العميل – المركز" حيث يتمتع العميل بدرجة ملموسة من الاستقلالية والقدرة على المناورة في إدارة سياسته الخارجية.

ويلخّص المحللون الاستراتيجيون أساس اهتمام الإدارة الأميركية بمصر في دورها الإقليمي، فخلال سبعينات القرن الماضي لعبت الإدارة المصرية دور الحليف الثاني للولايات المتحدة في المنطقة بعد إسرائيل وفي الثمانينات طور نظام مبارك علاقاته بإسرائيل، بحيث لعبت دور المدخل الذي ولجت من خلاله المنطقة، وفي التسعينات مثلت مصر حجر الزاوية فيما أطلق عليه وقتها عملية التسوية الشاملة سواء على المستوى الثنائي أو الإقليمي أو الدولي. وفي أعقاب ثورة 25 يناير 2011، كانت مصر تمثّل حجر الأساس في كيان المشروع الإخواني الأميركي، ومقياس نجاحه واستمراره. لكن هذا الكيان انهار محدثا شرخا كبيرا في العلاقات المصرية الأميركية.

ولم يكن ردّ فعل الإدارة الأميركية إيجابيا على ما اعتبرته “انقلابا” على حكم الإخوان، رغم أنها ثورة قادها الشعب ضدّ النظام الحاكم. فقد ألغت في أغسطس الماضي مناورات النجم الساطع مع مصر، ردا على ما وصفته بالإطاحة بنظام الإخوان المنتخب. ثم أعلنت واشنطن في أكتوبر الماضي إعادة النظر في حجم مساعداتها لمصر، وعلقت تزويد القاهرة بمروحيات “أباتشي” وصواريخ متطورة وقطع غيار لدبابات هجومية، قبل أن تعود في شهر أبريل الماضي وتعلن عن استئناف المساعدات العسكرية لها، وإتمام صفقة طائرات “أباتشي”.

دبلوماسيون مصريون أكّدوا أن واشنطن أخطأت في تقدير ما حدث في القاهرة بعد عزل محمد مرسي، وهي اليوم بدأت تراجع الموقف من جديد، خاصة بعد ما قامت به جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها من محاولات اغتيال ومن تظاهرات دموية ومن أحداث عنف، هذا بالإضافة إلى خوف الأميركيين من التقارب المصري الروسي الذي يهدد مصالحهم في الشرق الأوسط.

عن تصوره لمستقبل المساعدات الأميركية لمصر، شدد العرابي على أن واشنطن في النهاية ستنصاع للإرادة المصرية وستتقبل الواقع المصري الجديد، لكنها ستأخذ وقتا، كما حدث عندما أوقفت المساعدات ثم عادت لتستأنفها مرة أخرى.

ولفت إلى أن المبدأ العام الذي يحكم سياسة القاهرة بعد 30 يونيو أن مصر أولا وقبل كل شيء، بمعنى المصلحة المصرية ومصلحة الشعب أولا، ثم تأتي بعد ذلك مصالح الآخرين، وهذا هو سبب انزعاج الأميركيين، لأنهم رأوا أن هناك تغييرا حقيقيا في الإدارة المصرية، وهناك رأي عام ضاغط يحكم الأمور ويدفع الدولة إلى اتخاذ مواقف معينة، وهذا موقف جديد لم يروه منذ عهد عبد الناصر.

 

عودة مشروطة

بعض جماعات الضغط في الولايات المتحدة التي تضم مراكز أبحاث وأعضاء في الكونغرس حذّرت الإدارة الأميركية من عودة العلاقات مع مصر. لكن عبدالرؤوف الريدي، سفير مصر الأسبق في واشنطن، أشار إلى أن هؤلاء لن يكونوا مؤثرين في صياغة توجهات الإدارة الأميركية مع مصر.

وكان مركز “غلوبال ريسيرش” الأميركي للأبحاث السياسية قد أكد في تقرير له أن أولويات الرئيس السيسي الخارجية، هي التحرك بعيدا عن النفوذ الأميركي، وبناء علاقات أقوى مع القوى العالمية الأخرى. في هذا الصدد أكد الريدي أن الرئيس السيسي، قادر بمستشاريه ووزير خارجيته الذي سيختاره على صياغة شكل العلاقة مع الولايات المتحدة، ومع القوى الدولية بما يحقق المصالح المصرية، متوقعا أن تشهد سياسة مصر الخارجية تغييرا عما كانت عليه من قبل.

وتوقّع عدد من المحللين الأميركيين في تقرير أذاعه راديو “صوت أميركا” المزيد من التوتر في العلاقات المصرية الأميركية تحت قيادة عبد الفتّاح السيسي، وهو ما اعترض عليه بشدة الدكتور عبد المنعم المشاط، أستاذ العلوم السياسية والأمن القومي بجامعة القاهرة والملحق الثقافي المصري السابق بواشنطن.

وقال المشاط لـ”العرب”: “من المؤكد أن السياسة الخارجية في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي ستكون أكثر توازنا وستستفيد من التطور الحادث في النظام الدولي مع بروز الصين التي توقع أن تتربع على عرش الاقتصاد العالمي بنهاية هذ العام ومحاولات روسيا فرض واقعها الجديد على العالم”، مضيفا أن العلاقات الاستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة، خصوصا في الجانب العسكري، ستقوى وتستمر، لكن على أساس من الندية والتكافؤ واحترام المصالح الوطنية لكل طرف.

وشدد الملحق الثقافي المصري السابق بواشنطن، على أن العلاقات بين مصر والولايات المتحدة في ظل رئاسة السيسي لن تكون أبدا مثل ما كانت عليه في السنوات الأخيرة، لأنها كانت أشبه بعلاقة تبعية أكثر من علاقة استقلال وندية، متوقعا أن تتمتع مصر بدرجة أكبر من الاستقلال في تنويع سياستها الخارجية.

ولفت المشاط إلى أنه من المهم خلال المرحلة القادمة إعادة التأكيد على الدور الإقليمي المركزي لمصر مع أشقائها العرب، مشيرا إلى أن واشنطن كانت لا تريد ذلك من قبل مبارك، لكن الاختلاف في توازن القوى الدولية حاليا يعطي مصر وغيرها من الدول العربية دورا أكبر في الإقليم.

وشدد أستاذ العلوم السياسية على أن العلاقات العربية المصرية ستكون أوثق بكثير عن المراحل السابقة، وهذا التطور لا يمكن أن يتم إلا إذا كانت مصر أكثر استقلالا عن الولايات المتحدة، وعلاقاتها مع دول العالم كافة متكافئة ومتوازنة.

 

القاهرة لها "اليد العليا"

عتبر مايكل سينغ، مدير عام معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أن مصر على الرغم من الصعوبات التي واجهتها على مدى السنوات الثلاث الماضية مازالت لها اليد العليا في علاقتها بالولايات المتحدة الأميركية، مشيرا إلى إمكانية تحول القاهرة إلى دول أخرى للوفاء باحتياجاتها على المدى القصير. وذكر سينغ أن روسيا يمكن أن تسد احتياجات مصر العسكرية، ودول الخليج توفر المساعدات الاقتصادية، في حين يقدم المجتمع الدولي التأييد والدعم اللازم، وذلك على عكس واشنطن التي لن تجد بديلا استراتيجيا لمكانة مصر.

وأضاف أن استمرار تدهور العلاقات يجب ألا يتواصل، مشددا على ضرورة اعتبار فوز المشير عبدالفتاح السيسي في انتخابات الرئاسة “فرصة لإعادة صياغة العلاقات” لتحمل وصف الاستراتيجية مرة أخرى.

وأوصى مدير معهد واشنطن، بتحديد الولايات المتحدة لاستراتيجيتها في المنطقة ومكانة مصر بها، على أن تعزز هذه الاستراتيجية العلاقات الثنائية مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة “والتي أصابها الضعف مؤخرًا”، مع التركيز على التعاون الأمني وتدعيم قدرات الدول الحليفة بالمنطقة وتعزيز الإصلاحات السياسية والاقتصادية على المدى الطويل.

ولفت “إلى وجوب استغلال “واشنطن” للتحالف القوي كأحد المنابر لتدعيم الإصلاح والدفاع عن حقوق الإنسان، وتأخذ في الاعتبار حدود نفوذ الولايات المتحدة في هذه المجالات، والعمل على وضع رؤية للعلاقات طويلة المدى”.

واختتم الكاتب بتوجيه دعوة للرئيس الأميركي باراك أوباما وإدارته، يطالبهما فيها بمراجعة السياسات الراهنة تجاه مصر، وتجنب ما شابها من “أخطاء”، محذرًا من أن استمرار هذه السياسة “سيتسبب في عزوف مصر وجميع الحلفاء الأميركيين عن واشنطن نتيجة التقلبات الأميركية المزعجة”.

 

*نقلا عن العرب اللندنية