استغلت الجماعات الارهابية الأوضاع الأمنية السيئة في الدول الافريقية،فضلاً عن ضعف الرقابة على الحدود نتيجة لحالة الترهل الأمني الذي تعانيه تلك الدول وعدم القدرة على تأمين حدودها وهو ما سمح لتلك الجماعات بالتنقل من بلد لآخر بمنتهى السهولة وتوسيع دائرة تحالفاتها،وتنفيذ عمليات إرهابية ضخمة.

وفي الوقت الذي تكافح فيه الدول العربية والافريقية ضد الجماعات الإرهابية التي باتت تحاصر المنطقة،تشير أصابع الاتهام في سبب توهج وتوغَّل تلك الجماعات الى دولة عربية أخرى هي قطر! التي بات يُذكر اسمها عند ذكر أية جماعة مسلحة في دولة عربية أو في الدول المجاورة لها وخاصة في منطقة الساحل الإفريقي، وفي القلب منها دولة مالي التي تنشط فيها العديد من الجماعات المسلحة.

ورغم أن دور الدوحة ظل غامضا وغير معروف لدى كثير من المراقبين للوضع الأمني في المنطقة،فقد ظهرت الأيادي القطرية بشكل واضح في الصراع الذي اندلع في مالي قبل خمس سنوات بين الجماعات المسلحة التكفيرية وحكومة باماكو.فقد أعلنت الدوحة منذ اليوم الأول وقوفها ضد التدخل الفرنسي لطرد المسلحين والحيلولة دون وصولهم إلى قلب العاصمة،ودعت إلى الحوار بين المسلحين والحكومة، بهدف السماح للجماعات المسلحة بأن يكون لها نصيب من السلطة.

واتُّهمت قطر بشكل واضح من سياسيين فرنسيين بأنها تدعم الجماعات المتمردة في مالي،حيث نددت مارين لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية –اليمين المتطرف- وميشال ديسمين، شيوعي في مجلس الشيوخ،بالدعم المالي الذي تقدمه الإمارة النفطية لهذه المجموعات.وتعقيبا على تصريح للشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، أمير قطر قال فيه إن القوة لن تحل مشكلة شمال مالي، قالت لوبان :" قطر غير راضية عن التدخل العسكري الفرنسي في مالي لأنه يهدف إلى دحر الإسلاميين المتشددين الموالين لهذه الإمارة في كافة أنحاء العالم".

وبالرغم من عدم توفر أدلة دامغة عن وجود رابط بين الجماعات المسلحة وقطر، إلا أن هناك بعض المؤشرات والاحتمالات التي تدل على ذلك.ففي يونيو عام 2012 نقلت أسبوعية "لوكانار أنشينه" الفرنسية، عن مصادر استخباراتية فرنسية أن أمير قطر منح مساعدات مالية للجماعات الإرهابية المسلحة التي احتلت شمال مالي، دون أن تذكر قيمة هذه المساعدات وطريقة منحها.

وفي يوليو/تموز 2012، وجه سادو ديالو، عمدة مدينة غاو في شمال مالي، اتهامات لقطر بتمويل الإسلاميين المتواجدين في هذه المدينة. وقال ديالو على إذاعة "ار تي إيل" :"إن الحكومة الفرنسية تعرف من يساند الإرهابيين. فهناك مثلا إمارة قطر التي ترسل يوميا مساعدات غذائية إلى شمال مالي عبر مطاري غاو وتمبكتو. 

ولم يكن عمدة مدينة غاو شمالي مالي، سادو ديالو، هو الوحيد الذي وجه أصابع الاتهام إلى قطر، بتمويل الحركات المتطرفة والمنظمات الإرهابية في بلاده. ففي حوار له مع صحيفة الرياض السعودية ،في منتصف يوليو 2017، كشف الأمين العام للحركة الوطنية لتحرير أزواد، بلال آغ شريف، عن تسجيل ملاحظات تؤكد تورط قطر في دعم المنظمات الإرهابية في إقليم أزواد شمال مالي؛ حيث قال: "كانت لنا ملاحظات قوية على جهات محسوبة على دولة قطر لعلاقاتها بتنظيمات إرهابية في منطقة أزواد، بين عامي 2012 و2013، وذات أجندة بعيدة عن الأهداف السياسية والاجتماعية للشعب الأزوادي".

ومما زاد من الشكوك حول طبيعة الدور القطري في شمال مالي، هو النشاط الإنساني الذي كانت تقوم به جمعية الهلال الأحمر القطري بشمال البلاد،التي كانت توزع مساعدات غذائية لسكان غاو.حيث أكد الكاتب والصحفي الفرنسي ريشار لابفيير، الذي رافق قوات بلاده لمقاتلة الإرهابيين في مالي، أنه شاهد طائرة تابعة للهلال الأحمر القطري تقوم بتهريب المسلحين من مالي إلى ليبيا.

وعلى هامش مؤتمر ميونخ للأمن،في فبراير 2018، قال لابفيير خلال مداخلة له بالمؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب، إن الطائرة القطرية كانت تقوم بتهريب إرهابيين قاتلوا القوات الفرنسية إلى مكان آمن في ليبيا.وتابع: "غادرت الطائرة فور وصولنا، وكانت تحمل شعار الهلال الأحمر القطري وعلى متنها مجموعة من الإرهابيين الذين كان الجيش الفرنسي يقاتلهم".

وكانت صحف فرنسية عدة،نقلت في العام 2013، عن مديرية الاستخبارات العسكرية،التي تقدم تقاريرها إلى رئيس أركان الجيوش الفرنسية، أن أكثر من حركة في مالي تستفيد من الدعم المالي القطري، سواء بالحصول على مساعدات لوجستية أو مساهمات مالية مباشرة تحت غطاء جمعيات خيرية وإنسانية تنشط هناك.ونشرت صحيفة "ماريان" حينذاك نقلا عن مديرية الاستخبارات العسكرية الفرنسية أن أمير قطر قدم الدعم المالي للحركات المسلحة التي سيطرت على شمال مالي.

ومن بين المستفيدين من هذه المساعدات القطرية على وجه التحديد، حركة التوحيد والجهاد المتطرفة في غرب أفريقيا، والتي تعتمد أيضا في مصادر تمويلها على تجارة المخدرات والسلاح والاختطاف، وقد احتجزت لعدة أشهر 7 دبلوماسيين جزائريين وطالبت بفدية لكن السلطات الجزائرية رفضت ذلك.ومن أبرز من استفاد من هذا الدعم: متمردو حركة تحرير أزواد وحركة أنصار الدين، وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي التي تتلقى مساعدات مالية كبيرة من قطر.

وتعد دولة مالي الواقعة في غرب إفريقيا (الجزائر من الشمال، النيجر من الشرق، بوركينا فاسو وساحل العاج من الجنوب، غينيا من الجنوب الغربي، والسنغال وموريتانيا من الغرب) وتبلغ مساحتها 1.240.000 كم²، وعدد سكانها 14.5 مليون نسمة، الحلقة الأضعف في الساحل الإفريقي والجزء الشمالي من القارة حيث أنها الأكثر عرضة لزعزعة الاستقرار.

وكانت مالي عاشت في مارس 2012 عقب الإطاحة بنظام الرئيس أمادو توماني؛ فراغ أمني بالبلاد وسرعان سيطرت جماعات إسلامية مسلحة، يتقدمها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، على مناطق واسعة من شمال مالي، ولكن الفرنسيين تدخلوا يناير 2013 وتمكنوا من طرد هذه الجماعات من المدن الكبيرة، لتبدأ حرب أخرى طويلة الأمد، تعتمد فيها هذه الجماعات على الخفة وسرعة الحركة واستنزاف الخصم.

وفي كتابهما المشترك الذي صدر العام 2016 تحت عنوان "أمراؤنا الأعزاء"،كشف الصحافيان الفرنسيان كريستيان شيسنو وجورج مالبرونو،عن تغلغل قطر في فرنسا وشراء الدوحة لبعض المسؤولين السياسيين الفرنسيين،وكيف أن قطر متورطة في دعم وتمويل الجماعات المقاتلة في شمال مالي منذ العام 2012

وبحسب المؤلفان فقد استبقت قطر التدخل الفرنسي في شمال مالي، في يناير 2013، للتصدي للجماعات المسلحة،حيث سارعت الدوحة الى سحب ثلاث طائرات قطرية كانت موجودة بالمنطقة يشتبه في أنها كانت محمّلة بالأسلحة والعتاد والأموال للمسلحين.

ويقول المؤلفان إن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي عقد تحالفا مع أمير قطر وسمح للدوحة بالتسلل إلى مفاصل الاقتصاد والسياسة في فرنسا، كما تبادل مع قطر المصالح الاستراتيجية في عدة مواقع مثل ليبيا الذي ظهر فيها التنسيق واضحا بين باريس والدوحة خلال الحرب ضد نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي عام 2011، لكن وصول فرنسوا هولاند إلى السلطة عام 2012 غيّر مجرى الأمور، إذ أدار هولاند ظهره إلى الإمارة الصغيرة وانفتح على المملكة العربية السعودية بوصفها الدولة الأكثر استقرارا في منطقة الخليج واللاعب الرئيسي فيها.

وسرعان ما توترت العلاقات القطرية الفرنسية،حيث ندد زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي هارلم ديزير،الذي خلف فرنسوا هولاند على رأس الحزب بعد انتخاب الأخير رئيسا لفرنسا،بوجود ما أسماه "نوعا من التساهل" لدى قطر "إزاء مجموعات ارهابية كانت تحتل شمال مالي"، وطالب المسؤولين القطريين بتقديم "ايضاح سياسي" إزاء هذه المسألة.

وأضاف ديزير في برنامج أسبوعي على إذاعة "راديو جي"،الفرنسي في فبراير 2013،قائلا "إنه تصرف غير متعاون، ونوع من التساهل إزاء مجموعات ارهابية كانت تحتل شمال مالي، وهو أمر غير طبيعي من قبل قطر".وتابع ديزير،"لا بد من إيضاح سياسي من قبل قطر التي نفت على الدوام مشاركتها في أي تمويل لأي مجموعة إرهابية، ويجب أن تتصرف على المستوى الدبلوماسي بشكل أكثر حزما إزاء هذه المجموعات.

وهي المرة الأولى في فرنسا التي يوجه فيها مسؤول على هذا المستوى انتقادات الى قطر بهذا الحجم.واعتبر مراقبون حينها إن تصريحات المسؤول الأول بالحزب الحاكم الفرنسي تخفي سخط باريس على مسألة أكبر من مجرد الاحتجاج على معارضة الدوحة للهجوم العسكري على الجهاديين في مالي، وهي الدعم القطري لتلك المجموعات مثلما لمح إلى ذلك مسؤولون بارزون بالحكومة الفرنسية والمعارضة.

ورغم أن الدور القطري،في تمويل الجماعات المسلحة في شمال مالي ظل غامضًا لفترة من الوقت، إلا أن توالي الكشف عن المعلومات التي تشير إليه، وتؤكده، ساهم في تبيان الظاهرة القطرية، التي وصلت إلى حدود لا يمكن التعايش معها عربيًا،وهو ما كشفت عنه المقاطعة العربية منذ حوالي السنتين والتي اعتبر مراقبون أنها ساهمت في تبديد مشاريع قطر للهيمنة وخطط توسيع رقعة نفوذها واستثماراها في القارة السمراء.