ممَّا لا شك فيه أن الأزمة الليبية في بُعدها الخارجي إنّما هي حرب مُعلنة تدور رَحاها بين عواصم القرار الاقتصادي والسياسي العالمي، حربٌ عنوانها اقتسام الهيمنة بينَ دولٍ تريدُ حِصّتها من الثروات الليبية، هذا البُعدُ الخارجي للمُصابِ الليبي تمَّ تعزيزُه بالتعاطي السلبي لفريقٍ من الليبيين مع أزمةِ بلادِهم، نتيجةَ النجاحِ في اختراقِ عقلهم الوطني الجامع عبرَ وسائلِ إعلام عربيةٍ وعالمية تمارس جهاراً نهاراً جريمة الترويج الإعلامي للحرب النفسية على ليبيا بكل مكوّناتها الوطنية، كيف لا ووسائل الإعلام هذه يديرها خبراء بالإعلام والدعاية، يقومون يوميا بتحديد عناصر اللغة وتوحيد الرسائل الواجب تمريرها، ثم إصدار الأوامر والتعليمات لبث تلك الرسائل عبر وسائل الإعلام تلك، والنجاحُ الحاصلِ في اختراقِ العقلِ الوطني الليبي يتجسِّدُ اليومَ من خلال المواقف والرؤى السياسية المتنافرة التي تصدرُ عن "الشركاء السياسيين" في وطنٍ باتَ طريحاً في دائرة الطباشيرِ القوقازية.
إن سبب الصراع اليوم هو ذاته منذ إسقاط نظام القذافي، لكن الأساليب تغيرت قليلاً في عصر حقوق الإنسان وحرياته، فبدل الاستيلاء بالقوة على ثروات ليبيا، أصبح الاستيلاء على العقول هو الطريق الأسلم للتسليم الذاتي للثروات الليبية برضا تام، وقناعة مطلقة، والإعلام الفاجر، هو السلاح الأمضى في هذه المعركة، ففي عصر العولمة حيث لا وقت للبحث عن المعلومة، ولا "قدرة" على تحليلها، يكتفي الإنسان بالمعلومة الجاهزة عرضاً وتحليلاً، بما لا يترك أمامه مجالاً للفهم والتمحيص من جهة، وبما يسمح من جهة أخرى بقيادة الجموع وهي "راغبة" في الاتجاه الذي يريده مالك وسائل التأثير البصري والسمعي، وهو ما يكثفه الخبراء بالقول: إن تعرض جهازنا الحسي لوابل مستمر من الصور سريعة الحركة، والموسيقى والمؤثرات الصوتية، يؤدي في نهاية المطاف إلى أن تصبح قدرتنا على اتخاذ قرارات عقلانية إزاء أي شيء أمراً صعباً.
وعلى الرغم من اتفاق الأغلبية النظري مع هذا الكلام، إلا أن الإنكار العملي هو الغالب، وهو ما يتجلى في ترداد الجميع المقولة ذاتها: هذا الكلام صحيح ولكنه ينطبق على الآخرين وليس عليّ أنا، وهنا تبدو المفارقة الساخرة في أعلى درجاتها حين يتنطع من يخضع يومياً لبث مباشر يتجاوز الثماني ساعات على الأقل، ليقول: إن الحقيقة هي ما يلي، أو بأن رأيي في هذا الأمر أو ذاك هو التالي، ليخرج السؤال الفيصل: حول مدى مساهمة وسائل الإعلام المأجورة في صياغة الوعي بالأزمة ذاتها من جهة، ودورها في التنميط والتوجيه، وصولاً إلى "تشكيل" عقل المواطن السياسي الليبي من جهة أخرى، بخاصة في هذه المرحلة التي جعلت من بعض الليبيين متابعين شغوفين لوسائل الإعلام المعادي. ومع الأسف، وكما يثبت واقع الانقسام، فالليبيون متابعون سلبيون في الأعم الأغلب، وهو ما يتبدى في طبيعة نقاشاتهم اليومية، حيث يمكن بجهد بسيط اكتشاف أن آراء كل طرف هي نتاج وسيلة الإعلام التي يتابعها، ليصبح الترداد الحرفي لمقولاتها وحججها هو ذخيرته الكبرى وزاده الأوحد، لكن المفارقة أو المأساة، أن هذا المتابع الذي صنعت وعيه هذه الوسائل الإعلامية، يصبح من مدمنيها الدائمين، ليس فقط لمعرفة جديدها، بل أيضاً كي يؤكد حجته، ويرسخ روايته التي منحته إياها سابقاً، بحثاً عن "الأمان" الفكري والاتساق النظري في "السردية" التي كوّنها عن الأحداث بسبب هذه الوسيلة ذاتها، وتلك صورة معبرة عن عملية الاستلاب المطلق والتام.
إذاً هكذا وببساطة يتصدر جوقة الأخوان وتابعيهم من المطبلين الشاشات المشبوهة، التي تحاول إقناع المواطن الليبي، أن المرتزقة والمجرمين القتلة أنبياء، وأن اللصوص الذين سرقوا المنازل وأرزاق المواطنين الليبيين وغيرها ثوار! فخديعة الإعلام المأجور والموجه والمتواطىء تجعل القاتل المجرم نبياً أو خليفة نبي، واللص الخائن لوطنه ولأهل وطنه ثائراً يطالب بالعدالة... ليسجل التاريخ أبشع جريمة بحق ليبيا وبحق مواطني هذا الوطن. وهنا أسأل الساكتين عن هذا الإسفاف من مفكرين ومثقفين، أو من ساسة وقادة ومهتمين بسلامة الكون وساكنيه، كما أسأل هؤلاء الذين يقودون العالم الحر كما يدعون تحت عنوان حماية الأمن القومي لبلادهم، بل أسأل كل إنسان ذي عقل وفهم ومنطق:
إلى أي درجة يسهم هذا الإعلام العميل في تفشي حالة الفوضى الأخلاقية الاجتماعية التي يعيشها المواطن الليبي والتي دفعت إلى مزيد من حالات سوء التصرف الإنساني والمزيد من العجز الإنساني بتكريس احترام شرعة حق الإنسان بالاعتقاد والتفكير والتعبير، ولعله ليس جديداً أن نفهم دور العثمانية الجديدة والنظام الرأسمالي المتوحش، الذي يعمل تحت قيادتها في تأسيس هذه العلاقة السببية بين هذا الإعلام المأجور وبين أخلاقيات ما يسمى بالأخوان المسلمين والتكفيريين ليقع الشعب الليبي فريسة لمجموعة من المراوغين والانتهازيين واللصوص.
وهنا نستطيع أن نفهم الخطيئة، بل الجريمة التي ترتكبها القنوات التي تبث من تركيا ومن لف لفهم بقيامهم بتعهير الإعلام عن طريق تسخيره لخدمة الكذب المزخرف بأغراضه الخفية... فصار هذا الجيل الجديد، لا يميز بين مسيرة البطل المجاهد الشيخ عمر المختار، وبين تاريخ من العمالة والاجرام المأجور المرتزق للمجرم بلحاج مثلاً، وعليه بنى هذا الإعلام المأجور حملة من التزوير والتشويه والإساءة للقائد معمر القذافي قائد ثورة الفاتح من أيلول، الذي لم يرتبط اسم رئيس عربي بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر كما ارتبط اسم معمر القذافي به، فقد اعتلى القذافي السلطة في ليبيا عام (1969) بعد أن قاد ثورة الفاتح من أيلول، مع مجموعة من الضباط الذين أسماهم بالضباط الأحرار -أسوة بعبد الناصر- متبنياً في طروحاته الفكرية والثورية أهداف وطروحات واتجاهات الرئيس عبد الناصر، وهو ابن الستة والعشرين ربيعاً، مما جعل العالم العربي آنذاك ينظر إليه بإعجاب لكون عبد الناصر كان مكتسحاً الساحة القومية العربية رغم هزيمته في عدوان الخامس من حزيران عام 1967.
إن ما جرى ويجري في ليبيا، وجملة الهزائم التي لحقت بإخوان ليبيا وأتباعهم وأتباع تابعيهم، وطريقة تناولها من بعض وسائل الإعلام المعادي، تعكس درجة  غير مسبوقة من الانحطاط الأخلاقي اللامهني، وارتهان تلك الوسائل للبترودولار على حساب المهنية والمصداقية، وعدم احترام ميثاق الشرف الإعلامي، الذي يفترض أن يشكل حدوداً دنيا، على الأقل عند من يدعي المهنية والاحترافية والمصداقية، والموضوعية في تناول حدث مهم بمستوى الحدث الليبي، الذي يختصر في مضامينه حالة صراع بين قوى الخير وقوى الشر والإرهاب، بين من يدافع عن الحضارة والقيم الإنسانية وبين من يمارس كل أشكال التوحش والقتل وثقافة الدم.
لقد ألفنا خروج عدة قنوات مأجورة، للترويج لإخوان ليبيا كخلفاء، وهؤلاء القتلة، يصلحون كخلفاء لمن...؟ للأنبياء...!؟ معاذ الله هؤلاء خلفاء الشياطين والأبالسة... والمؤكد، أن هذه الوسائل الإعلامية المأجورة، لم تعدم صك البراءة التقليدي في هذا المجال، والذي تختصره جملة تمر خجولة على لسان إعلامييها: "لم يتم التحقق من الفيديو الذي تم عرضه من مصدر مستقل"، فهل تكفي هذه الجملة لتبيان البراءة لمؤسسات قامت بنشر ما لم تتأكد منه على أوسع نطاق ممكن، ثم من هو المصدر المستقل الذي تطلب تأكيده، مع الأخذ بعين الاعتبار اللعبة التي أصبحت مفضوحة للعارفين: يضع البعض أي "فيديو" يريدونه على الشبكة العنكبوتية، فتأخذه وكالة أنباء عالمية وتوزعه، فيعود ذات الأشخاص لاعتماده كمصدر من الوكالة، ثم ينتشر باعتباره حقيقة دامغة مدعومة باسم وكالة أنباء كبرى. وإذا كان هذا جزءاً مما يتكشف لنا يوماً إثر آخر، فإن الهدف الحقيقي القريب، وليس البعيد، من كل ذلك، ليس سوى خدمة أجندة معينة: تعميم الفوضى الخلاقة عن طريق نشر ثقافة العنف بين جميع فئات الشعب الليبي، فيعود الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان بحسب "هوبز"، وهو ما يوضحه الخبراء، مرة جديدة، بلغة أخرى: نتيجة لكل العنف الذي نشاهده على الشاشة، فإننا نفقد الحساسية لطبيعة العنف الحقيقي، مما يؤدي إلى نزعة لدى البعض لممارسة العنف من أجل حل المشاكل.
ولأن الأسئلة اليوم مفتوحة على مصراعيها، فإن الأجوبة يجب أن تكون على موازاتها ومساواتها على الأقل، فالمعركة اليوم هي معركة فاصلة، وتستهدف ما بقي من "العقل الليبي" الذي كان الغائب الأكبر عن الوجود منذ سنوات، لذلك فإن عملية استعادته أصبحت أمراً مصيرياً لبقاء "إنساني" وإلا سيستمر بالطبع وسيبقى، ولكنه مجرد استمرار  فيزيولوجي لمجموعة "بشرية" خارج التغطية!
خلاصة الكلام: هو "نداء" موَّجهٌ اليوم لكل الليبيين الأحرار، ليبيا اليوم أشبهُ بسفينةٍ تغرق في منطقةٍ كثُرت فيها أسماك القرش، ركَّاب هذه السفينة والعاملون عليها مُنقسمون لفرقٍ شتى، ففريقٌ يعملُ على إصلاح الفجوة ليوقفَ تسربَ المياه، وفريقٌ يعكفُ على دراسةِ الأسباب التي أدت إلى وقوعِ الكارثة، وفريقٌ يكتفي بتوجيهِ اللوم لطاقم القيادة ويتهمَه بالوقوفِ وراءَ العَطَب، وفريقٌ يتاجرُ بأطواقِ النجاة وأرزاقِ الركَّاب، وفريقٌ آخر يتصلُ بكل قراصنة المحيطات ويدعوهم للاستيلاء على السفينة شريطة تنصيبه قبطاناً، على حين شرعَ فريق آخر باقتلاعِ الخشب من جسمِ السفينةِ كي يضمنَ لنفسه النجاة - ولو إلى حين - من القروش المتلهفة لافتراسِ الجميع، وثمة فريق يتسقطُ أخطاءَ هؤلاء جميعاً ليظهر بعد وقوع الكارثة على ظهر حاملة طائرات أو في ردهة فندق خمس نجوم مخاطباً الناجون - هذا إن بقي ناجون - بالقول "لقد حذّرنا من هذا منذ البداية".
*كاتب صحفي من المغرب.