يمضي المغرب قدما في سياسة تحصين شعبه، وأيضا شعوب المنطقة المجاورة، ضدّ التعصّب الديني والغلو والتطرّف، وذلك عبر إطلاق خطط وبرامج تسلتهم من مبادئ المذهب المالكي السائد في المملكة وتفعيل الفكر الأشعري الذي لا يقبل التكفير وحياد المساجد بالنسبة إلى التيارات السياسية.

ضمن هذا النهج، ترأس العاهل المغربي، الملك محمد السادس، الجمعة الماضي، مراسم تقديم “خطة دعم” تعنى بإصلاح وتأهيل الحقل الديني وتقوم على توعية المواطنين دينيا وتحصين المساجد وضمان حيادها التام.

تأتي هذه الخطوة في سياق دعم برنامج إصلاح الشأن الديني، الذي انطلق منذ حوالي عشر سنوات، برعاية الملك محمد السادس للتصدي لظاهرة الغلو والتطرف التي عانت من تبعاتها المملكة على غرار التفجيرات الإرهابية التي هزّت مدينة الدار البيضاء عام 2003.

وكشف أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، عن الخطوط العريضة لهذه الخطة قائلا إنها تهدف إلى تحصين المساجد من أي استغلال والرفع من مستوى التأهيل لخدمة قيم الدين الإسلامي، ومن ضمنها قيم المواطنة، حسب بيان صادر عن الديوان الملكي.

أيضا تسعى هذه الخطة، التي أعدّها برنامج “خطة دعم” في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى، إلى توسيع تأطير الشأن الديني على المستوى المحلي، بواسطة جهاز تأطيري يتكون من 1300 إمام مرشد، موزعين على جميع أقاليم (محافظات) المملكة المغربية.

تحدد هذه الخطة معالم المرحلة الجديدة من التأطير الديني على الصعيد المحلي، حيث ترتكز على تعزيز التدابير الوقائية والتنموية، وتعزيز التجهيز والتأطير لتحصين النظام الديني العام، علاوة على دورها في تحسين برنامج محو الأمية.

ومن أجل ضمان التواصل بين الأئمة المرشدين، أحدثت وزارة الأوقاف منظومة معلوماتية مندمجة تضم شبكة ومعدات معلوماتية وبوابة، تربط بين خمسة أطراف هي المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية والوزارة ومندوبيات الشؤون الإسلامية والأئمة المرشدون وذلك عبر الإنترنت.

وتتكون البنية التحتية للمنظومة من مركز معلوماتي ومعدات معلوماتية ثابتة للتحكم في المحتويات، و160 حاسوبا لدخول المجالس والمندوبيات، و1300 حاسوب محمول لدخول الأئمة المؤطرين، إضافة إلى بوابة تتوفر فيها قواعد المعطيات المتعلقة بالشأن الديني والعاملين فيه، وتضم مكتبة علمية موضوعة رهن إشارة جميع الأئمة وإمكانات الاتصال البريدي.

وتم اختيار الأئمة المرشدين على أساس معايير أهمها أن يكونوا “حاصلين على شهادة الإجازة من الجامعة، ويحفظون القرآن الكريم كاملا، وتلقوا تكوينا شرعيا تكميليا وتكوينا مهنيا عماده الالتزام بثوابت الأمة”، وفق البيان الذي نقلته وكالة أنباء المغربي العربي.

ويعمل المغرب، منذ سنوات على نشر قيم التسامح والاعتدال التي يحث الدين الإسلامي على التحلي بها بعيدا عن كل مظاهر التطرف والغلو الآخذة في الانتشار في منطقة الساحل والصحراء وشمال أفريقيا خاصة بعد “الربيع العربي” الذي جعل دولا مثل ليبيا وتونس تقع فريسة التعصب الديني، بسبب غياب القدرة على ضبط المنظومة الدينية التي تسيطر على جزء كبير منها اليوم قوى متشددة.

ويبذل في سبيل ذلك مجهودات أشادت بها مختلف الجهات العالمية، فعقد مؤتمرات تهدف إلى مواجهة التشدّد الديني عبر إقامة الحجة الدينية، فضلا عن خطة تأهيل الأئمة والوعاظ والتي جعلت من المملكة نموذجا يحتذى به في المنطقة، ما دفع بالعديد من الدول إلى اللجوء إلى تكوين إطارات دينية تنهل من عمق التجربة المغربية.

ومن أبرز القطاعات الدينية التي طالها الإصلاح في المغرب قطاع الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجالس العلمية ودار الحديث الحسنية ورابطة علماء المغرب والتعليم العتيق والمساجد، والإرشاد الديني والخطابة والإعلام الديني. وواكب عملية إصلاح الحقل الديني سنّ مجموعة من القوانين والتشريعات في مجالات مختلفة من الشأن الديني كدور العبادة والتعليم العتيق والوعظ والإرشاد وتعيين الأئمة والخطباء والقيمين الدينيين والفتوى.

ولم يقتصر مشروع تأهيل الحقل الديني في عهد الملك محمد السادس على حل إشكاليات التطرف من الناحية العقدية والفقهية والسلوكية، ولكن أيضا شمل إدماج الفعالية الدينية في دينامية التنمية والبناء الحضاري وهو ما تجسد بوضوح في مبادرة تطوير وظيفة المسجد وإدماجه في التنمية من خلال برنامج محاربة الأمية في المساجد والعناية بالمرأة التي أصبحت فاعلة في كل مبادرات التأهيل.

هذه التجربة الرائدة جعلت المغرب محط أنظار المحيط العربي والأفريقي وأيضا العالمي، في ظل تمدد الجماعات الإسلامية وتصاعد خطر ظاهرة الجهاديين في سوريا، التي تشكل اليوم أحد أبرز التحديات لكثير من دول العالم.

وقد رحّبت دول عديدة في المنطقة بالتعاون مع المغرب في مجال تكوين الأئمة وإصلاح المنظومة الدينية بها بما يحميها من خطر المتشدّدين والمتطرّفين. ونجاح التجربة المغربية جعل عديد الدول مثل مالي وتونس وليبيا وجمهورية غينيا كوناكري والغابون والنيجر والكوت ديفوار وغيرها تتقدم بطلب التعاون مع المملكة في هذا الشأن.

وقد تعهد الملك محمد السادس بتكوين أئمة هذه الدول ومساعدتها في تكريس نهج الاعتدال والتسامح الديني، في تأكيد جديد على انفتاح المملكة على محيطها الخارجي ورغبتها في تكريس أواصر العلاقات مع دول المنطقة.

في هذا السياق عبر سفير مالي لدى الأمم المتحدة سيكو كاسي عن امتنان حكومة بلاده للملك محمد السادس بخصوص مبادرة تدريب وتأهيل حوالي 500 إمام من مالي في المغرب. ووصل بالفعل تسعون إماما من هذا العدد إلى الرباط في نوفمبر الماضي، وذلك في إطار البرنامج التأهيلي السالف ذكره.

*عن العرب اللندنية