بدأت تركيا عمليتها العسكرية في شمال سوريا بعد أن وافقتها الولايات المتحدة عليها وذلك بغض الطرف عنها وسحب القوات الأمريكية من المنطقة الحدودية. ولتركيا 3 أهداف معلنة: الأول: أبعاد الأكراد السوريين (خاصة قوات سوريا الديمقراطية وتوابعها) الي أكثر من 30 كم في العمق السوري ــ وعلى طول قرابة 500 كم على امتداد الحدود السورية التركية. والهدف الثاني هو أجبار ربما مليوني لاجئ سوري (تركيا تدعي أنها تستضيف 3.5 مليون سوري وتدعى أنها تلقت قرابة 3 مليار يورو من الاتحاد الأوربي مقابل هذا وتطالب بالمزيد) على العودة وتوطينهم في تلك المنطقة أما الهدف الثالث المعلن هو تحويل تلك المنطقة الي منطقة عازلة بين سوريا (الأقلية الكردية) وتركيا بحيث تتم مراقبتها بذلك العمق مما يعطي تركيا ميزة الانذار المبكر وبوقت كافي للتصدي لأي تحرك عسكري قد يقدم عليه الأكراد أو الجيش السوري مثلا. الجيش التركي يقاتل الي جانبه حفنة من بقايا الجيش الحر وغيره من المرتزقة العملاء السوريين.
طبعا الدولة السورية ووفق القانون الدولي هي ضحية لعدوان خارجي في هذه الحالة وهذا العمل يعتبر انتهاكا لسيادتها وبالتالي لها حق الرد في أي وقت وبأي كيفية وواهما من يعتقد أن سوريا ستسكت على هذا العدوان الصارخ وان تأخر ردها. ولكن لنركز قليلا على العملية نفسها ونتائجها المحتملة.
تركيا واهمة ان كانت تعتقد ان القوات الكردية المسيطرة على المنطقة ما هي الا بضع مليشيات سرعان ما تتقهقر وتلوذ بالفرار. فقوات سوريا الديمقراطية ــ وأغلبها أكراد وبقيادتهم ــ تمرست في القتال وتلقت تدريبات وعتاد أمريكيين ومن نوعيات متقدمة جدا وساهمت بقوة وعلى مدى سنوات في الحرب على داعش وبالتالي فأن قادتها الميدانيين لا يقلون مقدرة ومعرفة من أي جنرال تركي. وبالتالي ففكرة هزيمتهم السريعة على يد الأتراك، أن وجدت، فهي وهم لا غير. أضف الي ذلك أن الأكراد، وخاصة أنصار عبدالله أوجلان المعتقل في تركيا منذ عقود، متمسكين جدا ليس فقط بالأرض بل بأوجلان نفسه وهذا وحده عامل محفز لهم ليطوروا طرقهم في القتال ويزدادون عزيمة وإصرارا في مواجهة العدو التركي الذي لم يريهم الا السحق في الماضي والمحق في الحاضر.
وعليه يمكن بسهولة القول إن الجيش التركي ربما يجد نفسه في ورطة قد تلحق به الهزيمة وتسئ كثيرا الي سمعته ويبدو ان أردوغان لا يمانع في اي من النتيجتين، اي الورطة أو الهزيمة، لأسباب داخلية ترتبط بموقفه من المؤسسة العسكرية التي يتهمها بمحاولة انقلاب العام 2015
و واهما أيضا من يعتقد أن المعرك ستكون سهلة أو سريعة والأكثر من هذا فأن استمرار تواجد القوات التركية في المنطقة العازلة ــ لأجل حمايتها ومراقبتها ــ يعني تواجد طويل الأمد نسبيا وبالتالي تصبح القوات التركية هدف سهل لعمليات ينفذها الأكراد في شكل هجمات خاطفة وسريعة غالبا لا تجيد الجيوش النظامية التصدي لها في حين تجيد المجموعات الصغيرة المقاتلة تنفيذها بأقل قدر من الخسائر.
أما في الجانب الأخطر للعملية التركية هي مقاتلي داعش وفكرة عودة التنظيم نفسه وربما بقوة أكبر مما كان. فالأكراد يحتفظون بقرابة 12 ألف مقاتل من مقاتلي الدولة الإسلامية في مخيمات اعتقال ــ وأسرهم في معتقلات منفصلة ــ وكلهم تقريبا من الأجانب وأغلبيتهم من خارج المنطقة ومنهم أعداد كبيرة من الأوربيين. وقد طالبت الأدارة الكردية الدول التي لها رعايا بينهم بأخراجهم الا ان مطالباتها لم تلق استجابة حقيقية حتى الآن وعدد الذين عادوا الي بلدانهم أو نقلوا الي العراق قليل جدا. وقد اشتكت الادارة الكردية مرارا عدة من قلة الموارد لديها للاهتمام بهؤلاء المقاتلين وأسرهم في المعتقلات أو مخيمات اللجوء.
والأكراد، وهم في مواجهة الترك، سيضطرون الي تقليص قواتهم المخصصة لحراسة مقاتلي الدولة الإسلامية المنحلة وقد يقدون الأكراد على أطلاق سراحهم ان ضاقت عليهم الدوائر أو ان يتمكن أغلبهم من الفرار الجماعي نتيجة انشغال الأكراد مقاتلين ومدنيين في المعركة ضد الأتراك
طبعا كل من يفر من مقاتلي داعش، وحين تنتهي الحاجة منه، سيجد طريقه الي ليبيا عبر تركيا المتورطة في الحرب الدائرة هناك حول العاصمة!
ولا ننسى ان الرئيس الأمريكي، في اعلانه سحب قواته من المنطقة، قد قال أن تركيا وافقت على ان تكون مسئولة عن مقاتلي الدولة الإسلامية ــ أن هي سيطرت على الأماكن المعتقلين بها ــ وهذا قد يعني ان تركيا ستخلي سبيلهم مما قد يشكل أحد النتائج لهذا التطور الخطير هو أن تتفاهم تركيا، ولها تاريخ سابق، مع قيادات داعش المحررة على تحالف مؤقت ــ علينا أن نتذكر أن تركيا كانت الممر الرئيسي لمقاتلي داعش الي سوريا وامتداداتهم. ليس لتركيا مصلحة في الاحتفاظ بمقاتلي داعش في سجونها ولكن لها كل المصلحة في استخدامهم ضد الأكراد والجيش السوري، متى دخل المعركة، على حد سوى. وقد يتطور الأمر ويتحول مقاتلي التنظيم الي مرتزقة (أغلبيتهم كذلك) يحرسون المنطقة العازلة الي جانب القوات التركية التي ستجد صعوبات كثيرة في الاستمرار لفترة طويلة. وقادة داعش كقادة قوات سوريا الديمقراطية: في حين يحس الأكراد أن أمريكا طعنتهم في الظهر يحس قادة داعش أن تركيا فعلت بهم ذات الأمر بعد أن كانت ممرا أمنا لهم وسوقا مفتوحا لنفطهم المهرب من سوريا.
ولعل الأخطر أيضا الهدف الثاني للعملية التركية وتحديدا أعادة ربما مليوني لاجي سوري الي المنطقة العازلة المزمع أنشاؤها. فالمنطقة من كوباني غربا الي دريك والحسكة شرقا أغلبية سكانها من الأكراد وبالنظر الي الحساسيات التي ظهرت بين الأكراد وسواهم من المكونات الأخرى، خاصة العربية، فأن استقرار هذا العدد من المدنيين العائدين من تركيا ــ وأغلبهم عرب ــ في تلك المنطقة سيويد من التوثر وربما يتحول الي صراع مفتوح بين الأكراد واللاجئين العائدين لأن وجود عدد كبير من العرب سيغير الديمغرافيا في المنطقة. كما ان أعادة هؤلاء، عودة قسرية، لن يجعلهم في مأمن وستزداد أوضاعهم الاقتصادية والصحية والإنسانية صعوبة ومع مرور الوقت وسوء أحوال المعيشة سيتحولون الي مشاريع مقاتلين قابلين للتجنيد على يد داعش أو سواها.
ثم ــ وهذا ربما هدف تركي على المدى الطويل ــ يجب أن نتذكر أن أردوغان منح أكثر من 30 ألف لاجئ سوري الجنسية التركية في الأعوام الخمس الماضية ــ بما مكنهم من التصويت في انتخابات العام 2014 التي أتت به رئيسا. فلماذا لا يكرر الأمر ذاته مع عدد اخر من الذين ينوي أعادتهم الي سوريا قسرا؟ ومع مرور الوقت سيتحول هؤلاء الي مواطنين أتراك وان كانوا يقيمون في سوريا! ومن المفيد أن نتذكر أيضا أن لواء الأسكندرون أرض سورية محتلة من قبل تركيا منذ العام 1939 ــ ولاتزال سوريا تعتبره المحافظة التاسعة عشر ــ فما المانع ان تتحول المنطقة العازلة الي أسكندورن جديد؟
في كل الآحوال التواجد التركي في شمال سوريا لن يكون سهلا ولن يهنأ به أردوغان كما أنه لن يحل مشكلة تركية الكردية التي عجزت تركيا عن حلها بالقوة رغم كل ما فعلت على مدى العقود الماضية.
وفي الجانب الأمريكي فقد أنتقد جمهوريون نافدون، من أكثر مناصري ترمب أخلاصا في مجلس الشيوخ، قراره بسحب القوات الأمريكية وأطلاق يد أردوغان فيها. وعلى خلفية محاولات الديمقراطيين عزله يحتاج الرئيس ترامب الي كل صديق ومؤيد من الجمهوريين وهنا يبرز ليس فقط خطأ القرار بل خطأ توقيته أيضا. صحيح انه من غير المحتمل أن يتخلى عنه الجمهوريون في موضوع عزله نتيجة موقفه في سوريا ولكن الصحيح أيضا انهم لن يكونوا بنفس حماسة تأييده السابقة وأن دافعوا عنه علنا. كما ان كل من كان لديهم القدرة على تغيير رأي ترامب من أركان ادارته قد غادروا البيت الأبيض وبالتالي وجود من يستطيعون دفعه الي تغيير رأيه الآن انحسرت كثيرا ولهذا فأقدامه على تغيير موقفه ومنع العملية التركية أو الحد منها أصبح أمرا صعبا رغم تهديداته الجديدة والقديم بـ "محو" الاقتصاد التركي أن هي تجاوزت حدودها في سوريا حسي أخر تغريدة له.
الموقف الأمريكي أيضا يشير الي تخبط وفشل في السياسة الخارجية الأمريكية ولهذا فأن عدد من مختصي السياسة الخارجية الأمريكية ــ بمن فيهم نيكي كيلي مندوبة أمريكا السابقة في الأمم المتحدة واحد المدافعين المخلصين، السابقين، عن الرئيس ترمب ــ أنتقذوا قراره بخصوص سحب القوات الأمريكية من المنطقة. صحيح ان ترمب يرى نفسه ينفذ وعدا انتخابيا بإخراج أميركا في مناطق الحروب الا ان هذا القرار قد يكون القشة التي ستكسرــ سياسيا وعسكريا ــ ظهر البعير الأمريكي في المنطقة بالخروج منها وهذا ما يصب في مصلحة سوريا وحلفائها مثل إيران وروسيا وحزب الله وحتى الحشد الشعبي العراقي الذي لا يقل مقدرة عسكرية وفعالية سياسية داخل أروقة القرار في بغداد خاصة إذا ما تذكرنا ان الحشد قد لعب دورا حاسما في هزيمة الدولة الإسلامية وربما لولاه لبقيت تسيطر على جزء من أراض العراق. وفي أثناء ذلك متهم بممارسات مقيتة في حق الأهالي في المناطق السنية.
وظروف العراق الحالية تشبه كثيرا ظروفه في العام 2014 حين سيطر داعش وبسهولة على أجزاء واسعة منه، بما فيها الموصل أحد أكبر مدنه، وفي وقت قصير جدا. فالعراق اليوم كما كان حينها يعاني تشتت سياسي وضعف الحكومة المركزية الذي عرته الأحتجاجات الأخيرة حتى من ورقة التوت. ومن أحد أسباب الاحتجاجات اهمال الحكومة العراقية للمناطق التي تم تحريرها من داعش اذ لايزال سكانها أما في الخيام في الصحراء او في بقايا بيوتهم المهدمة يفتقدون لأبسط مقومات الحياة. ولا ننسى أن تلك كانت بعض الأسباب التي أدت الي ظهور داعش في المقام الأول.
وكرديا دائما: عملية "نبع السلام" قلّصت خيارات الكرد السوريين الي الحد الأدنى والمنطقي، بالماصدفة، هو ضرورة أن يعودوا الي دمشق لتتفاهم معها اد بها الحل والربط قبل أن ينالهم ما نال سواهم من أبناء جلدتهم ولكن هل يتداركون الامر الآن؟