تصدح أنغام الموسيقى الإفريقية في أروقة مركز الإيواء بمدينة مدنين في جنوب تونس، لكن نزلاء المركز، على رغم هذا الحنين الواضح الى بلادهم، لا يريدون العودة إليها، بل لا يزالون يحلمون بركوب البحر للوصول الى أوروبا.
ومركز إيواء المهاجرين التابع للهلال الأحمر التونسي والمتواجد وسط حيّ سكني بمدينة مدنين هو مركز الإيواء الوحيد للمهاجرين في تونس التي ترفض رفضا باتا أن تكون مركزا لاستضافة أو لإنزال مهاجرين. وقد سمحت على مضض قبل أسابيع برسو سفينة الشحن "ساروست 5" وإنزال أربعين مهاجرا غير قانوني منها "لأسباب إنسانية" وبعد أن أمضوا أياما طويلة في البحر.
ويجمع نزلاء المركز بدورهم على أنهم لا يريدون البقاء في تونس، بينما يروون رحلاتهم البحرية المحفوفة بالخطر، وكيف حط بهم الرحال في تونس.
وتجلس جورجي نداب (21 عاما) القادمة من الكاميرون في غرفة صغيرة داخل المركز تضمد جرحا سببه التهاب جلدي لابنها موسى ذي الثمانية أشهر فوق سرير متواضع وضع إلى جانب أسرة أخرى تستأثر بمعظم مساحة المكان بين جدران بدأت أجزاء من طلائها تتآكل.
وتقول نداب التي تركت دوالا منذ منتصف تشرين الأول/اكتوبر الفائت في اتجاه نيجيريا ثم النيجر وصولا الى ليبيا وتونس، "أمضيت ثمانية أشهر سجنا في ليبيا.. أريد الذهاب الى أوروبا لأضمن تعليما جيدا لابني".
وتصر المهاجرة التي وصلت الى مركز الإيواء قبل وقت قصير على مغادرة تونس قائلة "شكرا تونس، لكن الوضع هنا ليس جيدا ووجهتي أوروبا... فرنسا بالتحديد".
ويتكدس المهاجرون في المركز الذي لم يكن معدا لاستقبال كل هذه الاعداد، إذ يتقاسم 247 مهاجرا 110 أسرة، بحسب المشرف على المركز المنجي سليم الذي يشير الى سعي الى توسيع المكان وزيادة قدرته على الاستيعاب في ظل تمويل محدود.
ويلازم فرنسيس ليلي (32 عاما) غرفته طيلة اليوم. يروي أنه غادر الكاميرون منذ سنتين هربا من الاوضاع السيئة والاضطرابات في بلاده وتوجه نحو ليبيا حيث عمل وتعرض للخطف وانتهى به المطاف فوق سفينة "ساروست 5".
ورفض في البداية كأغلب من كان في المركب النزول في الأراضي التونسية، لكنه عاد ووافق بعد أن "وعدتنا السلطات التونسية بعلاجي من الفتق الحجازي الذي أعاني منه وتقديم العون".
ورست "ساروست 5" في مطلع آب/أغسطس في ميناء جرجيس بالجنوب التونسي بعد أن رفضت كل من إيطاليا وفرنسا ومالطا استقبالها. وكان بين الركاب امرأتان حاملان، وفقا لبيان أصدرته منظمات تونسية غير حكومية آنذاك.
ويتابع الشاب الذي ينتظر بفارغ الصبر إجراء عملية جراحية "يعطوننا فقط كيلوغراما من الأرز وثلاث علب من السردين وقارورة حليب لكل شخص لمدة أسبوع". ويتابع بنبرة غاضبة "كل مرة أطلب إجراء عملية جراحية، يقولون إن الجراح غير موجود ويجب ان أنتظر... يكذبون".
وعن الطعام، وضح مدير المركز "نحن لا نقدم الفخامة، نقدم الطعام وفقا لمعايير تستند لعدد الحريرات".
وللمهاجرين مهلة تفكير تمتد على ستين يوما منذ وصولهم المركز، ليطلبوا اللجوء في تونس او ليعودوا طوعا الى بلدانهم... لكن معظمهم لا يريدون هذا ولا ذاك، وينتهي الأمر ببعضهم بالبقاء في المركز والبحث عن عمل بشكل غير قانوني.
ويمارس العديد من المهاجرين من نزلاء المركز مهنا بسيطة داخل مدينة مدنين. ويقول المنجي سليم إن عملهم "غير قانوني"، مشيرا في الوقت نفسه الى أنهم مطلوبون في الأعمال التي تتطلب بنية جسدية قوية مثل أعمال البناء.
ويقول فرانسيس ليلي "لا يمكن لتونس أن تكون منصة استقبال مهاجرين لانها لا تعتني بالمهاجرين مقارنة بإخوتنا الذين يتمتعون بالرفاه وخصوصا الصحة في أوروبا".
وتعاني تونس بدورها من الهجرة غير القانونية، إذ يحاول عدد كبير من الشباب التونسي عبور البحر المتوسط بحثا عن عمل في دول اوروبية، وهربا من الوضع الاقتصادي الصعب. وفي بعض الاحيان، تنتهي رحلتهم بمأساة على غرار حادثة غرق مركب مهاجرين قبالة جزيرة قرقنة (شرق) مطلع حزيران/يونيو الفائت والتي أسفرت عن مصرع 87 شخصا غالبيتهم من التونسيين.
وتم توقيف 2659 مهاجرا حاولوا عبور المتوسط حتى حزيران/يونيو الفائت مقابل 564 شخصا في الفترة نفسها من العام 2017، استنادا الى أرقام رسمية. ويقول خبراء إن دافع الهجرة مرده ارتفاع نسبة البطالة في تونس الى 15,4 في المئة، إضافة الى بلوغ نسب التضخم معدلات هامة في حدود 7,5 في المئة وتراجع عملة الدينار أمام اليورو والدولار.
وأُحدث مركز الايواء في تونس سنة 2013، ويستقبل المهاجرين الذين يصلون إلى تونس إجمالا إما بعد توقيفهم على الحدود التونسية الليبية خلال محاولتهم العبور الى ليبيا سعيا للوصول الى أوروبا، وإما بعد قدومهم من ليبيا قصد التوجه أيضا نحو السواحل الأوروبية بحرا، وإما بعد إنقاذهم في البحر من غرق مراكبهم.
ويوضح المشرف على المركز أن تونس ستواصل استقبال المهاجرين الذين يتم توقيفهم او إنقاذهم في مياهها الاقليمية، لكنه يؤكد "أن موقف الحكومة التونسية واضح، وهو أن تونس ترفض أن تكون منصة استقبال للاجئين. لا الحكومة ولا الشعب التونسي يقبلان بهذه الفكرة".
ويقول المهاجر المصري علي ابراهيم النادي (26 عاما) وقد كان بدوره ضمن مجموعة المهاجرين على متن "ساروست 5" بنبرة ساخرة، "الأوضاع في تونس ليست جيدة لكي نبقى. الكل يحاول الذهاب ومغادرة البلاد. نحن كذلك نريد الذهاب... يجب الخروج والعمل لكي نستطيع شراء أكل جيد".