التطرق إلى الجانب المظلم لدى بعض مفكري الأنوار والرومانسية، خاصة اولئك الذين انبهرنا بـ"أنوارهم"، لا يعني بتاتا أنني أقلل من أهمية ما قدموه، خاصة لذويهم، أي للغرب، لكن قصدي هو تبيان التناقض الذي عاشوه بدءا بالتركيز على فكرة "التاريخ العالمي" المبهمة والمغلوطة والتي ما لبثوا يلوحون بها، تلك الفكرة التي تم الترويج لها إبان ما سمي بعصر الأنوار والتي مع الأسف أطرت ودعمت التطاول على العوالم البعيدة عن أوروبا. نعم، "التاريخ العالمي" الذي ما هو في حقيقة الأمر إلا تاريخ القارة العجوز فقط. لهذا وجب القول بكل وضوح :"التاريخ الأوروبي"، وليس العالمي. التاريخ الخاص بشعوب، قادتها سياساتها البدائية، وليست المتحضرة كما يعتقدون ويتوهمون وكما يريدون إيهامنا، فهاجمت شعوبا أخرى في قارات بعيدة عنها، ونفت عنهم تاريخهم بل إنسانيتهم أيضا باحتقار عرقهم. هكذا ينفضح تناقضهم. هو إذن تاريخ استعمار واستغلال. تاريخ له منظروه من ادباء ومفكرين و فلاسفة وفنانين وعلماء... تاريخ عنصريين وموالين لسياسة القهر والاستعمار. بعيدين عن الفكر الإنساني. كانوا مثقفين انتهازيين، أغلب أولئك "المستنيرين، يلهثون وراء سياسييهم من أجل الحصول على امتيازات. بل وكان البعض منهم يمتلك حصصا في شركات مختصة في التجارة المثلثة، تجارة العبيد. لم تكن لديهم شجاعة سقراط الذي فضل الموت عن تزحزحه عن مبادئه الفكرية التي كان يناقشها مع العامة. لهذا بدا البعض منهم متذبذبا. فمن جهة، مبادئهم الإنسانية كانت ربما تعذبهم، ومن جهة أخرى، مصالحهم الشخصية أو خوفهم من السياسيين، كانت تجعل منهم خاضعين ومستسلمين وتابعين وضاربين عرض الحائط تلك المبادئ الإنسانية التي ربما آمنوا بها فقط داخل الكتب. التناقض إذن كان ديدنهم.

لكن قبل أن نتعرف على أولئك المفكرين والفلاسفة والعلماء الخ...، لابد من الحديث عن ظاهرة واكبت تلك "الانوار" كما تواكب الظلمة جانب القمر غير المرئي. لابد من الحديث عن تجارة العبيد أو الرقيق التي عرفت ازدهارا، في زمن تلك الأنوار التي سطعت بأروبا، فنستحضر ما توصل إليه المهتمون بهذا الموضوع حيث رصدوا 3 أنواع من هذه التجارة، كما أوردتها ويكيبيديا:

أولا: هناك تجارة العبيد في العالم الشرقي أو العربي الإسلامي، والتي ازدهرت كثيرا عبر المحاور التجارية التي كانت تتحكم فيها الإمبراطورية الإسلامية العربية ثم التركية. وهكذا كانت القوافل المحملة بالعبيد تعبر الصحراء والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود والبحر الأحمر لتزود أسواق العبيد بشمال إفريقيا وبشبه الجزيرة العربية وبتركيا بالزنوج الذين تم القبض عليهم أو شراؤهم من إفريقيا جنوب الصحراء. لكن هذه التجارة همت أيضا العرق الأبيض فكان يتم القبض أو شراء بعض سكان آسيا الوسطى واوربا الصلافية خلال الغزوات التي كانت تتعرض لها هذه المناطق. كان العبيد يستغلون خاصة في الخدمات المنزلية لدى الأغنياء، وليس كأياد عاملة وهذا النوع من الاسترقاق هو الذي عمر طويلا، بل ومازال ربما موجودا إلى يومنا هذا.

ثانيا: تجارة العبيد في العالم الغربي، المعروفة بالتجارة المثلثة. انطلقت هذه التجارة في القرن الخامس عشر ابتداء من 1441 تحت إسم التجارة الأطلسية حيث أول العبيد كانوا يقتادون إلى شبه الجزيرة الايبيرية.في القرن الموالي بدأ البرتغاليون إرسال العبيد إلى جزر الكارايب وأمريكا الجنوبية. في القرن السابع عشر تطورت هذه التجارة بشكل كبير حيث تشكلت عدة شركات على الشواطئ الغربية الإفريقية وعرفت المدن الأطلسية الفرنسية مثل بوردو ونانت ولوهافر تطورا كبيرا في الصناعة التي لها علاقة بهذه التجارة، من معدات حربية وسفن متخصصة الخ... وهكذا أصبحت هذه التجارة مزدهرة بين أمريكا وإفريقيا واوربا إلى غاية أواسط القرن التاسع عشر...

ثالثا : تجارة العبيد الداخلية أو داخل إفريقيا. حسب الباحثين تبقى هي الأقدم لكنها غير معروفة كثيرا بسبب غياب الوثائق. يبدو أنها كانت نتيجة للحروب حيث كان الأسرى يستعبدون منذ القرن الحادي عشر. لكنها أزدهرت كثيرا أواخر القرن التاسع عشر بسبب قانون منع تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي. وشكلت هذه العبودية ذرائع انسانية لدى الأوروبيين لاستعمار بلدان إفريقية.

بعد هذا التحليق حول أنواع الاسترقاق، اتطرق لمواقف وآراء الفلاسفة والمفكرين والعلماء والأدباء ورجال الدين حيال هذه الظاهرة، خاصة وأنهم كانوا متشبعين بمبادئ التنوير التي تسعى إلى تحرير الإنسان من كل أنواع العقال.

أولا:فرانسوا اليكساندر فريدريك دو لاروشفوكو، سيد ليانكورت (1747-1827/ François Alexandre Frédéric)، رجل سياسة ذو تكوين عسكري وعالم فرنسي، كما تقدمه ويكيبيديا، وتركز على جانبه الإنساني ومحبته الخير للناس بكلمة( philanthrope)ما يوازي في ثقافتنا كلمة "محسن". مولع بالتقدم التقني، أسس الضيعة المثلى في ليانكورت سنة 1769والمدرسة الوطنية العليا للفنون والمهن سنة 1780 وصندوق باريس للتوفير و الحيطة سنة 1818 وكان أيضا عضوا بأكاديمية العلوم. فما هو موقفه من تجارة العبيد والعبودية؟ اترككم مع ما قاله حسب موقع لادوكراف(ladograve)في مقال تحت عنوان : فلاسفة الأنوار والعبودية:

"يجب الحفاظ على العبودية، وإلا سوف ينتج عن ذلك انهيار لتجارتنا وتصدع شامل في صناعتنا وركود لعملنا وفقر مدقع لسكاننا الذين لا يعيشون إلا على اليد العاملة للسلع الاستعمارية".

ثانيا: جورج كوفيي(1769-1832/George Cuvier)، عالم فرنسي مختص في علم الحيوانات، حصل على كرسي بكوليج فرنسا وكان عضوا باكاديمية العلوم وكذلك عضوا بمعهد العلوم. يعتبر من بين العلماء الذين لا يؤمنون بنظرية التطور، وإنما بنظرية الثبات، من المعارضين لنظرية شارل داروين. وبما انه كان مسيحيا بروتستانيا، فقد آمن بآدم و حواء وآمن بأن أصل الإنسان هو الإنسان الأبيض. لكنه يرجع ظهور الأعراق الأخرى إلى حوادث طبيعية، هي التي أدت إلى ظهور العرق الزنجي، الذي يسميه العرق الحبشي والى العرق الأصفر الذي يسميه العرق المغولي، اللذان عاشا في عزلة حسب اعتقاده، ما جعلهما على هذه الحالة. ومن هنا ظل مقتنعا بدونية هذين العرقين. وخلال حملة تحرير العبيد، ظل يدافع عن نظريته "العنصرية العلمية"، في كتاب خطاب حول ثورات على وجه الأرض(Discours sur les révolutions de la surface du globe, 220)،.إليكم هذا المقتطف منه:

"العرق الزنجي منغلق على نفسه جنوب الأطلس، لون بشرته أسود، شعره مجعد، جمجمته مضغوطة، أنفه مفلطح. وجهه الناتئ وشفتاه الغليضتان تجعلان منه أقرب من القردة. الأقوام التي تشكل هذا العرق، ظلت دائما في وضعية بربرية(...). إنه العرق الأكثر تدهورا مقارنة بالأعراق الإنسانية الأخرى. شكله يجعل منه أقرب بكثير إلى الغاشم الذي لم يتطور ذكاؤه كي ينتظم تحت قيادة شرعية."

ثالثا: عالم الأحياء السويدي كارل فان ليني (1707-1778/Carl von Linné)، عالم النباتات ومصنفها. ورغم اهتمامه بالنباتات، لم يمنعه فضوله من الحديث عن سكان الأماكن التي كان يزورها. وهكذا تحدث عن الإنسان الأفريقي:

"الزنجي الأفريقي تتحكم فيه النزوة، بينما العادات هي المتحكمة في الإنسان الأوروبي" (systema naturae 1758).بطبيعة الحال، ما يفهم من هذه الثنائية : نزوة /عادات، هو غياب التاريخ، لما للعادات والتقاليد من روح ثقافية تضفي على من يمتلكها الطابع الإنساني، المتميز بذكائه، بما أن الإنسان كائن ثقافي، بينما النزوة تقربنا أكثر من الطابع الحيواني المتميز بالغريزة والفطرة، أي لا يتمتع بالذكاء.

رابعا: ديفيد هيوم: إسكتلندي، فيلسوف الأنوار ومؤسس التجريبية الحديثة، متأثرا في ذلك بالعالم الفزيائي نيوتن. فيلسوف و باحث في الإقتصاد والمال، الأسكتلندي ،يعتبر من بين عنصريي فلاسفة الأنوار حيث يقول في كتابه دراسة حول الطبيعة الإنسانية(traité sur la nature humaine vol III 1739-1740) : "أعتقد أن السود وبشكل عام كل الأنواع البشرية الأخرى، توجد وبشكل طبيعي في أدنى مستوى من العرق الأبيض. لم تكن هناك أبداً أمة متحضرة بلون غير اللون الأبيض ، ولم نسجل أنِ اشتهر فرد داخلها، بأفعاله أو بقدرته على التفكير ... لا توجد لديها معدات مصنعة ، ولا فن ، ولا علم. وبغض النظر عن مستعمراتنا ، هناك عبيد من الزنوج منتشرون عبر أوروبا ، لم نكتشف أبدا لديهم، أدنى علامة على الذكاء".

خامسا: إمانويل كانط، صاحب العقل الخالص، فيلسوف ألماني، وأحد منظري الكلاسيكية التنويرية، ونلاحظ مع الدارسين لفكره على ان كتاباته لا تخلو من تناقضات مظلمة من خلال مواقفه حول المرأة والخادم والطفل الطبيعي الخ... وطبعا من خلال ما قاله أيضا في حق الإنسان الأسود، في كتابه: ملاحظات حول الإحساس بالجميل والأغر(Observations sur le sentiment du beau et du sublime)،"لم يستفد سود إفريقيا من الطبيعة بأي شعور يعلو على الحماقة وقلة العقل(...). إن السود(...) ثرثارون جدا فلا حل معهم لعزل بعضهم عن بعض وتفريقهم سوى باستعمال العصا."

سادسا: الفيلسوف الألماني جورج ويلهلم فريديريتش هيغل (1770-1831) في مقتطفات من نص طويل مأخوذ من مقدمته: العقل في التاريخ (جورج ويلهلم فريديريتش هيجل: مقتطفات من نص لهيجل حول إفريقيا. نشرته جريدة لوموند الديبلوماسية، نونبر2007. يشكل جزءا من مقدمته: العقل في التاريخ، لمؤلفه الضخم : دروس في فلسفة التاريخ 1837). هذا النص مخصص لإفريقيا، التي قسمها إلى 3 مناطق : إفريقيا الشمالية، ومصر التي يلحقها بالشرق، ثم إفريقيا بجنوب الصحراء. وحديثه هنا عن الأفارقة السود، اي المتواجدين جنوب الصحراء التي اعتبرها بمثابة بحر، عزلت إفريقيا السوداء عن "التاريخ العالمي"، اي الأوربي. بينما يلحق جغرافيا بلدان شمال إفريقيا بإسبانيا، من غير أن يعتبر البحر الأبيض المتوسط حاجزا. للإشارة، لم يسبق له أن زار إفريقيا، ومن أجل كتابة نصه هذا اعتمد طبعا على كتابات المستعمرين الأوربيين و الدعاة والتبشيريين المسيحيين وعلى كتابات المؤرخ الإغريقي هيرودوت. أترككم مع ترجمتي لبعض المقتطفات. يقول هيجل:

"ما يميز فعلا السود، هو بالضبط أن وعيهم لم يصل إلى درجة تأمل موضوعية قوية، مثل موضوعيتي الرب أو القانون. موضوعية، قد تستطيع إرادة الإنسان الانخراط فيها، ومن خلالها يستطيع الإنسان الوصول إلى بداهة جوهره الخاص".(...)

"خلال الوقت الذي سمح لنا بمعاينة الإنسان الإفريقي، رأيناه في حالته الهمجية والبربرية، واليوم أيضا لا زال على نفس الحال. إن الأسود يمثل الإنسان الطبيعي في اوج بربريته وفي مرحلة غياب الانضباط. من أجل فهمه، علينا التخلي عن كل عاداتنا الأوروبية التي ننظر من خلالها للأشياء. لا يجب علينا التفكير في إله روحي ولا في قانون أخلاقي؛ علينا أن نتخلى عن كل روح الاحترام والأخلاق، عن كل ما نسميه عاطفة، إذا نحن اردنا أن نلمس طبيعته. كل هذا، بطبيعة الحال، غير موجود لدى الإنسان الذي يكون في مرحلة الراهنية: خاصيته هذه، فارغة مما يتناغم مع ما هو إنساني". (...)

"ما يحدد طبيعة السود هو غياب الكابح. إن ظروفهم ليست قابلة لأية تنمية وأية تربية (...). من أراد التعرف على تجليات طبيعة الإنسان الرهيبة قد يجدها بإفريقيا. أقدم المعلومات التي بحوزتنا حول هذا الجزء من العالم، تقول نفس الشيء. لذلك يمكن القول إنه ليس لإفريقيا تاريخا بالمعنى الدقيق للكلمة. "(...).

سابعا: الكاتب و الفيلسوف الفرنسي فولتير(1778-1649)، الذي أتحفنا بعدة إنتاجات فلسفية وفكرية وادبية تنويرية، والذي يبدو موقفه غامضا حول مشكل العبودية. لكن اخترت إحدى مقولاته التي تبرز على ما اعتقد عنصريته :"الإنسان الأبيض أسمى من هؤلاء السود، كما هم السود مقارنة بالقردة وكما هم القردة مقارنة بالمحار.


روائي، شاعر ومترجم مغربي