كان واضحا منذ البداية أن الهشة التي أقرها مؤتمر برلين، لن تصمد طويلاً. المؤتمر، الذي علق عليه العالم أمالاً عريضة بإيجاد تفاهمات صلبة تطفئي فتيل الحرب في محيط العاصمة طرابلس، بدا نسخة رديئة من مؤتمر الصخيرات، الذي وإن فشل، إلا أنه خرج حينذاك باتفاق سياسي واضح، بل التقى فيه الطرفان وجهاً لوجه وتصافحا، عندما كان هناك بقية من ودّ ونقاط مشتركة يمكن البناء عليها لجمع الفرقاء، أما اليوم فالهوة أصحبت عميقة جداً، ولا يبدو أن تجسيرها ممكن في المدى القريب. وحدها البنادق قادرة على الحسم في الأمد القريب والمتوسط، أما الحوار، فيجب أن يكون بين مكونات المجتمع الليبي، الذي تعرض للتشظي خلال حوالي عشر سنوات من الحرب العبثية، لا بين الميليشيات والدولة.
فلم يمض وقت طويل على انفضاض شمل مؤتمر برلين، حتى انهارت الهدنة سريعاً. في البداية كان الأمر مجرد مناوشات بسيطة، جساً لنبض القوى التي فرضت الهدنة، ثم تطورت الأوضاع، لتصل إلى انزالات بحرية ومعارك طاحنة على أطراف العاصمة. فبعد أيام من الهدنة الهشة، كشف الناطق الرسمي باسم القيادة العامة للجيش، اللواء أحمد المسماري، عن إسقاط طائرة تركية مسيرة بعد إقلاعها من قاعدة معيتيقة الجوية، مشيرا إلى أنها كانت تحاول الإغارة على مواقع عسكرية تابعة له في طرابلس. في المقابل أعلنت القوات الموالية لحكومة الوفاق أنّ المطار تعرّض لقصف "بستة صواريخ غراد" أطلقتها قوات الجيش الوطني الليبي في "خرق جديد لوقف إطلاق النار" الذي تمّ التوصل إليه في 19 يناير بين الأطراف المتحاربة في ليبيا. وعقب هذا القصف علّقت إدارة مطار معيتيقة الرحلات لبضع ساعات.
بعد ذلك بأيام قليلة تطور الأمر إلى استئناف الجانب التركي لخطة الغزو التي بدأها منذ نهاية الماضي. فقد أكد الجيشرصده حمولة السفينة التركية التي قامت بإنزالها في ميناء طرابلس. ووصف أحمد المسماري، المتحدث باسم القيادة العامة هذه العملية بأنها" غزو تركي ينافي كل القوانين والأعراف الدولية، وينتهك وقف إطلاق النار في المنطقة الغربية". ونشر المسماري مقطع فيديو حول عملية تفريغ السفينة.
وما يؤكد هشاشة الهدنة، وفشلها حتى الان، ما أعرب عنه مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا غسان سلامة في كلمة توجه بها إلى مجلس الأمن الدولي نهاية يناير، عن "بالغ الغضب وخيبة الأمل" إزاء مسار تطور الأوضاع منذ انعقاد المؤتمر في ألمانيا. وأكد سلامة أنّه "وصل مقاتلون أجانب بالآلاف إلى طرابلس وانتشروا" إلى جانب قوات تابعة لحكومة الوفاق.وقال سلامة إن "طرفي النزاع واصلا تلقي كمية كبيرة من المعدات الحديثة والمقاتلين والمستشارين من جانب داعميهما الأجانب في انتهاك لحظر الاسلحة وكذلك للتعهدات التي قدمها ممثلو هذه الدول في برلين".
ولم يتوقف الأمر عند انهيار الهدنة، ولو بشكل غير معلن، بل ان عمليات تدفق المرتزقة من الجانب التركي، لم تتوقف، كما أقر مؤتمر برلين، على العكس تماماً، تضاعفت أعداد الواصلين إلى طرابلس من عناصر الفصائل السورية الموالية لتركيا.وكشف المرصد السوري لحقوق الإنسان، عن نحو 64 مقاتلاً من ضمن الذين توجهوا إلى ليبيا، باتوا في أوربا، كما وثق المرصد السوري مزيداً من القتلى في صفوف الفصائل الموالية لتركيا في معارك طرابلس، ليرتفع عدد القتلى جراء العمليات العسكرية في ليبيا إلى 72 مقاتل من فصائل “لواء المعتصم وفرقة السلطان مراد ولواء صقور الشمال والحمزات وسليمان شاه”، ووفقاً لمصادر المرصد فإن القتلى قتلوا خلال الاشتباكات على محاور حي صلاح الدين جنوب طرابلس، ومحور الرملة قرب مطار طرابلس بالإضافة لمحور مشروع الهضبة، فيما يتم إسعاف الجرحى والقتلى إلى كل من 3 نقاط طبية، تعرف باسم مصحة المشتل ومصحة قدور و ومصحة غوط الشعال.
قال المرصد إنه يواصل مواكبة ورصد ومتابعة عملية نقل المقاتلين التي تقوم بها تركيا من الأراضي السورية إلى داخل الأراضي الليبية، حيث تتواصل عملية تسجيل أسماء الراغبين بالذهاب إلى طرابلس بالتزامن مع وصل دفعات جديدة من “المرتزقة” إلى هناك، إذ ارتفع عدد المجندين الذين وصلوا إلى العاصمة الليبية “طرابلس” حتى الآن إلى نحو 2900 “مرتزق”، في حين أن عدد المجندين الذي وصلوا المعسكرات التركية لتلقي التدريب بلغ نحو 1800 مجند، وسط استمرار عمليات التجنيد بشكل كبير سواء في عفرين أو مناطق “درع الفرات” ومنطقة شمال شرق سورية والمتطوعين هم من فصائل “لواء المعتصم وفرقة السلطان مراد ولواء صقور الشمال والحمزات وفيلق الشام وسليمان شاه ولواء السمرقند”، وذلك بالتزامن مع استمرار الاستياء الشعبي الكبير من عملية نقل المرتزقة إلى ليبيا.
وكان المشاركون في مؤتمر برلين قد طالبوا بـ "تجنب التدخل في النزاع المسلح في ليبيا أو في شؤونها الداخلية وحث كل الأطراف الدولية (...) على القيام بالمثل". والطريف أن هؤلاء المشاركين اجتمعوا وبحثوا مصائر ليبيا والليبيين دون أي مشاركة ليبية. وفي نقطة ثانية التزم المشاركون بـ "احترام حظر الأسلحة (المفروض في 2011) وتنفيذه تنفيذا تاما". وأردف البيان الختامي للمؤتمر: "ندعو كل الأطراف إلى الامتناع عن كل عمل من شأنه أن يفاقم النزاع (...) بما في ذلك تمويل القدرات العسكرية أو تجنيد مرتزقة" لصالح مختلف الأطراف في ليبيا.ودعا المشاركون إلى تطبيق عقوبات مجلس الأمن الدولي بحق أولئك الذي "ينتهكون بدءا من اليوم" الحظر.
يبدو واضحاً أن مقررات مؤتمر برلين، وعلى رأسها الهدنة والكف عن ارسال المرتزقة والسلاح، قد أصبحت أمراً من الماضي، بلا جدوى ولا قيمة. ويبدو أيضاً أن طرفي النزاع في ليبيا قد وصلا، ومنذ أمد، إلى نقطة اللاتلاقي، فالصراع الدولي حول ليبيا منذ 2011، لم يترك مجالاً لأي حل سلمي، وأصبحت مسألة الحسم العسكري السريع، الحل الأقل كلفة في الوقت الراهن، بعد أكثر من تسع سنوات من الفوضى وغياب الدولة.