تسمع عائشة عمر صياح الحشود كلما اقتربت أكثر.كانت، مع أكثر من 100 لاجئ آخرين، تختنق بلهيب الحرارة في حاوية الشاحنة، التي تشق طريقها وسط العاصمة في طريق رحلة 400 ميل إلى بر الأمان. عندما توقفت الشاحنة عند نقطة تفتيش أمنية، كانت هناك حشود غاضبة في الانتظار.

"إنهم هناك. إنهم مسلمون"، تتعالى الأصوات من حولهم. "سنقضي عليهم". أمام الشاحنة، يقف شاب يرتدي قميصا فضفاضا وفي يده قنبلة يدوية. عندها حضنت عائشة ابنتيها، بدوية، 8 سنوات ومريم،21 شهرا، ثم رفعت ذراعيها بالدعاء.

إلى غاية السنة الماضية، كانت إحدى أكثر العواصم الإفريقية تهميشا، مدينة بانغي، تحتضن مائة ألف من المسلمين مقابل ما يقل عن ألف مرشحين بدورهم لمغادرة البلاد.

الهروب من جحيم العنف

خارج بانغي، تم ترحيل المسلمين من مدن بأكملها، كانت في السابق تستقطب حوالي 15% من مجموع الساكنة، التي اندمجت لأجيال عديدة مع جيرانها المسيحيين.

منازل محروقة، أجساد مقطعة أوصالها، وأخرى علقت فوق الجسور أو أحرقت داخل منازلها، تلك صور من العنف المتبادل بين الطرفين.

منذ أوائل فبراير وأسرة عائشة لا تنعم بالاستقرار، وقد أصبحت منطقة المسلمين في بانغي عرضة للعنف. فبمجرد سماع صوت إطلاق نار، يركض المئات من المسلمين للاحتماء داخل المسجد الكبير.

وفي هذا الوقت بالذات يهرع المقاتلون المناهضون للمسلمين لنهب المنازل وإحراقها. "وكأن شيئا لم يكن"، تقول عائشة، الأرملة ذات العينين الغائرتين والجسد النحيف.

"لقد ولدت هنا ونشأت هنا"، تضيف عائشة، "فقط لأننا مسلمون، يريدون منا الرحيل".

غرقت جمهورية افريقيا الوسطى في حالة الفوضى منذ عام

اتهم تحالف من جماعات متمردة، يتكون معظمها من مسلمين من شمال شرق البلاد والبلدان المجاورة خاصة تشاد والسودان، حكومة افريقيا الوسطى بالتراجع عن اتفاق سابق حول تقاسم السلطة. وعلى الرغم من أن هذه الجماعات، المعروفة باسم السيليكا، لا تتوفر على أجندة سياسية واضحة، فإنها استطاعت بقوة السلاح أن تسيطر على السلطة وتزرع الرعب في البلاد لشهور عديدة.

وفي الوقت الذي كان الجميع يعاني من هذا الوضع، شعر المسيحيون أنهم الأكثر عرضة للتهديد من غيرهم. ومن ثم بدأت ردود الفعل بواسطة ميليشيات "أنتي بالاك"، التي كانت قد شكلت في وقت سابق لمحاربة قطاع الطرق.

ونتيجة قلقهم تجاه الفوضى التي تهدد حدود بلدانهم، ضغط قادة الدول المجاورة على زعيم السيليكا ميشيل جوتوديا، الرئيس المؤقت للحكومة وهو مسلم، وأجبروه على التنحي في يناير كانون الثاني.

بدأت القوات التابعة لفرنسا والاتحاد الأفريقي في عملية نزع السلاح من أتباع جوتوديا، فأضحى المدنيون المسلمون المتهمون بدعم السيليكا أهدافا لعمليات الانتقام.

يظهر في شريط فيديو، انتشر على نطاق واسع، عناصر مناهضة للمسلمين تعد النار وتلقي فيها بجسد مواطن مسلم.

أملا في الحصول على مقاعد في رحلة خارج الجحيم، شقت عائشة صحبة ابنتيها وأبيها وأخيها طريقهم الشهر الماضي من المسجد إلى مخيم مؤقت للاجئين يقع عند الجناح العسكري من مطار بانغي، حيث تكدس الآلاف منهم في  حظيرة للطائرات والمروحيات الصدئة.

تحكي عائشة أن العيش هناك مع جيران أعداء هو بمثابة سجن، "إذا ذهبت إلى الجوار سوف يقتلونك".

قررت العائلة أن تجرب حظها وتغادر البلاد بواسطة سيارة أجرة إلى محطة العبور، ومن هناك عبر الشاحنة غربا في اتجاه الكاميرون، رحلة يقطعون فيها مئات الأميال.

وقبل يوم غادروا المطار في رحلة محفوفة بالمخاطر قد تكلفهم حياتهم.

كان خمسة رجال أعمال مسلمين قد حلوا بالمطار للسفر في رحلة إلى تشاد، لكن الطائرة كانت محجوزة ولم يسمح سوى لاثنين منهم بالسفر في هذه الرحلة.

توسل أفراد أسرة الثلاثة المتبقين وطلبوا منهم البقاء في المطار حتى رحلة أخرى. لكن الرجال أصروا على الرجوع، واثقين من أن لديهم حراسة مؤمنة حتى منازلهم.

وليس ببعيد عن بوابات المطار، هاجمهم مسلحون بالسكاكين والحجارة وألقوا القبض عليهم. توفي إثر ذلك اثنان منهم على الفور، وفر الثالث. قبل أن تعثر عناصر من الصليب الأحمر على جثته على بعد بضعة أميال. وقد اجتزت يديه و إحدى رجليه.

وعند مغادرة عائلة عائشة المطار في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، حذرتها قوات حفظ السلام من أن الخطر مازال قائما. حينها رغبت عائشة في العودة الى الوراء. لكن شقيقها أصر على المضي قدما.

وأخيرا أقنعوا سيارة أجرة أقلتهم، لكن سرعان ما واجهتهم مشكلة أخرى. فسائقو الشاحنات ينقلون الركاب مقابل 20 دولار للفرد الواحد، وهو أكبر بكثير من إمكانيات الأسرة المكونة من خمسة أفراد. وبعد سلسلة من المفاوضات، توصل شقيق عائشة إلى اتفاق مع أحد السائقين الذي قبل نقلهم مقابل نصف سعر الأول.

صعدت الأسرة الشاحنة، وكان والد عائشة ذو 68 عاما على متن رحلة إلى مسقط رأسه، الذي لم يزره منذ أكثر من نصف قرن.

انطلقت القافلة المكونة من 50 شاحنة وهي تئن من وطأة حمولة الخشب والركاب في اتجاه بلدة غاروا-بولاي على الحدود الكاميرونية، ترافقها فرقة من قوات حفظ السلام من بوروندي ومعهم صحفيين من مجلة التايمز مستقلين سيارة مستأجرة رباعية الدفع.

ويعد هذا الطريق المتعرج الشريان الذي يبقي الحياة الاقتصادية تتحرك في المنطقة.

لقد قضت قوات حفظ السلام أسابيع لتفكيك حواجز الطرق ونزع الأسلحة من الجماعات التي تفتك بالعربات المارة من هذه الطريق وتبتزهم وتتعقب المسلمين أينما كانوا.

كلما أشرقت الشمس الاستوائية، كلما ارتفعت درجات الحرارة الخانقة داخل الحاويات المكتظة باللاجئين وأغراضهم من الملابس والفرش والأواني. وعلى جنبات الطريق يصطف المسيحيون، يسبون ويشجبون:

" إننا نراكم"، يصيح البعض ساخرًا، "سنلحق بكم".

عانت القوافل السابقة من هجمات بالبنادق والقنابل اليدوية. مرة سقط أحد الركاب من الشاحنة التي كانت تقله فكان مصيره القتل على يد حشد من المقاتلين.

كانوا على بعد أقل من ساعة من نقطة الوصول، عندما استوقفوا عند حاجز في شمال بانغي. تعالت أصوات الشباب الغاضبين الذين صعدوا إلى الشاحنات وطالبوا السائقين بالمال مهددين بتفجير جميع من في الشاحنات.

"إذا كان هناك مسلمون داخل الشاحنات سنقضي عليهم"، يصيح رجل بقميص أسود وصليب ذهبي ثقيل حول رقبته.

يتدخل على إثر ذلك رجل آخر يرتدي زيا محليا في محاولة لضبط الموقف، فيبدأ في إبعاد الحشد عن الشاحنات ويصرخ، مطالبا الجميع السماح للقافلة بمواصلة طريقها. ولكن قوات حفظ السلام لم تنتبه إلى بعض الشبان الذين اقتربوا من ظهر الشاحنات وهم يحملون قنابل وقضبان معدنية مخبأة. توجه أحدهم نحو الشاحنة التي تقل عائشة.

في الداخل، أسرع الركاب وجمعوا بعض المال.

وبمجرد ما ظهر الشاب، دفعوا له رزمة من الأوراق النقدية، كانت كافية لتراجعه دون مشاكل.

خارج بانغي، حل مكان الشوارع والأسواق المزدحمة سابقا فضاء تملؤه الغابات والمراعي. تمر الشاحنات بسرعة بجوار منازل من الطوب، الكثير منها متفحم وبدون سقف.

تقف مجموعات من المقاتلين بملابس مدنية وعسكرية يحملون على أكتافهم بنادق قديمة أو مناجل ويتأملون الشاحنات المارة من أمامهم.

في السابق كانت المنطقة تضم جماعات مختلفة. كان السكان المسيحيون متفرقين بين مجموعة من البلدات القروية ذات النشاط الفلاحي وبعض المدن حيث يشكل المسلمون فيها طبقة التجار.

الرعاة الرحل أيضا في غالبيتهم من المسلمين، يتنقلون بقطعان ماشيتهم في المنطقة. كانت علاقتهم بجيرانهم المسيحيين متوترة. فالمزارعون الفقراء مستاؤون من ثروة التجار المسلمين ويشتكون من كون الماشية تفسد محاصيلهم. وفي المقابل يتهم الرعاة الرحل المزارعين بسرقة أبقارهم. هذا وقد أضرمت قوات السيليكا النار في العديد من القرى وأطلقوا النار بشكل عشوائي على السكان عند انسحابهم في يناير الماضي، بحسب شهادة بعض الناجين .

وبعد أن انقلبت الأدوار، هوجمت المنازل والمساجد والمحلات التجارية وأرغم المسلمون على الهروب والاحتماء في الأدغال. حتى  الأبواب والمسامير وإطارات النوافذ لم تسلم من بطش القشاشين الذي حلوا بالمكان بعد الدمار الذي أصابه.

وكتب أحدهم بحروف سوداء على باب أحد المساجد المنهوبة عبارة "قاعة رقص للشباب". مرت القافلة على أشخاص يحملون نصيبهم من لحم الأبقار التي كانت بحوزة الرعاة المسلمين، على دراجاتهم الهوائية أو فوق رؤوسهم.

وفي منتصف الرحلة تقريبا، توقفت القافلة عند مدينة بوسمبتيل، ليهرع عشرات من المسلمين الذين كانوا يحتمون في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية للبلدة نحو الشاحنات في محاولة للرحيل.

العديد منهم ينتمون لجماعة الفولا العرقية، وهم من الرعاة والرحل المسلمين المسنين وضعاف البنية، لم يتمكنوا من الرحيل مع القوافل السابقة. ولحسن حظهم هذه المرة، تقدم  قس من البلدة لمساعدتهم.

وقف مقاتلون من "أنتي بالاكا" على مقربة منهم، أعناقهم ومعاصمهم مغلفة بتمائم يعتقدون أنها تحميهم وتصنع منهم رجالا لا يقهرون. إنهم يتهمون المسلمين الفارين بموالاة السليكا.

"يجب أن يعودوا أدراجهم إلى تشاد والسودان"، يصيح مقاتل قوي البنية اسمه سينغوب زايكو، مضيفا، "ما داموا هنا، سوف تكون هناك مشاكل".

بعد التحاق الركاب الجدد، ينطلق السائقون من جديد بسرعة. وكانت بعض الشاحنات قد تعطلت، لتبقى في الخلف وتواصل القافلة لتسلك طريقها.

بمرور الوقت، أصبحت الغابة أكثر كثافة ولم تعد هناك قرى على الطريق إلا نادرا. كان الجميع تقريبا يحمل السلاح،  بمن فيهم الأطفال.

ومع حلول الظلام، قامت مجموعة من أطفال قرويين يحملون الأقواس والسهام، لا تتعدى أعمارهم التسع سنوات، بإيقاف الشاحنات التي تخلفت عن القافلة.

لقد جاؤوا ليحذروا المسافرين من خطر الطريق وانعدام الأمن فيها.                

وغير بعيد، يجلس زعيم إحدى الميليشيات تحت شجرة، يحتسي القهوة في كوب بلاستيكي ورجاله، ومن بينهم امرأة على الأقل، يعدون أسلحتهم وذخائرهم. حيث كانوا يخططون لمهاجمة الرعاة المسلمين تلك الليلة، يقول الزعيم، لكنهم وعدوا أن تكون الشاحنات في مأمن عند مرورها بهذه القرية. لكن الركاب الذين كانوا يراقبون الوضع من داخل الشاحنات، لهول ما رأوا وسمعوا لم يصدقوا ذلك. و بحلول الظلام، أدركوا مدى وحشتهم في ذلك المكان.

وفيما هم يفكرون فيما يجب القيام به، لاح ضوء في الأفق. فإذا بها شاحنة تابعة لقوات حفظ السلام البوروندية كانت في مهمة مساعدة شاحنتين تعطلتا في الطريق، ولحسن الحظ تزامن ذلك مع مرور قوات حفظ السلام.

مرت القافلة بطريق ترابي مليء بالحفر، وبدأت الشاحنات تبذل جهدا مضاعفا لمواصلة الرحلة وسط سحب كثيفة من الغبار، غمرت جميع الركاب. وفي عتمة الظلام تجاهد عائشة لأخد نَفَسها وهي تبحث عن وشاح لدرء الغبار عن فمها وأنفها.

بعد إحدى عشرة ساعة مضت على مغادرتهم بانغي، تتوقف الشاحنات ليلا في إحدى الكليات العسكرية السابقة في مدينة بوار النائية، وقد أضحت الآن قاعدة لقوات حفظ السلام.

نزل المسافرون من الشاحنات وافترشوا حصائر من القش في العراء. وأثناء إعدادهم الطعام، كان ضوء النيران التي أشعلوها يعكس توهجا غريبا على وجوههم.

لم يكن لدى عائشة وعائلتها أي طعام. لذا أدوا الصلاة وخلدوا للنوم، وإن لم تكن عائشة  تفكر في النوم في مثل هذه الظروف.

"ما زلت هنا في افريقيا الوسطى"، تحكي عائشة، و" لن يهدأ لي بال حتى أخرج من هنا".

قبيل الساعة السابعة صباحا، طلبت قوات حفظ السلام من اللاجئين أن يعودوا للشاحنات لتنطلق آخر مرحلة من الرحلة.

عند الظهر تقريبا، عبرت القافلة الحدود، لتترك المئات من اللاجئين في بلد استقبل عشرات الآلاف من اللاجئين في وقت سابق.

يتم إيواء الوافدين الجدد داخل المساجد والكنائس، بل حتى في الملاعب الرياضية. يسارع  عمال الإغاثة في إعداد الملاجئ والمحطات الصحية والمراحيض وغيرها من المرافق. وفيما تكفلت بعض الأسر المحلية بمجموعة من اللاجئين، لبث الآخرون في العراء.

وقد حرص قائد القافلة البوروندية على الإشراف على دخول الشاحنات الحدود الكاميرونية حتى آخر شاحنة.

ثم عاد ليهتم بالشاحنات المحملة بالمساعدات والبضائع، استعدادا لرحلة العودة إلى بانغي، حيث الكثير من اللاجئين ينتظرون دورهم لمغادرة جحيم افريقيا الوسطى.