ما كان يحدث داخل السجون التونسية وفي زنازين التعذيب السرّية زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، زمن التنكيل والملاحقة والتهجير والمحاكمات الباطلة، ما تزال هذه السراديب و ملفاتها مغلقة و إلى حدود اليوم، نقطة استفهام غامضة ،لم تكشف تفاصيل جرائمها بعد ،رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على ثورة 14 يناير، اليوم تعود هذه الأسئلة إلى واجهة الأحداث مع إعلان المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب عن أرقام مفزعة بخصوص حالات التعذيب بالسجون التونسية و بمناسبة اليوم الوطني الأول ضدّ التعذيب التي نظمته تونس يوم أمس الخميس 8 مايو و تزامن كل هذا مع وفاة رجل أعمال تونسي بعد ساعات من إطلاق سراحه من أحد السجون التونسية.
واقع التعذيب في تونس ما بعد ثورة 14 يناير
قالت رئيسة المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب المحامية راضية النصراوي أن المنظمة تلقت من سبتمبر 2012 إلى حد الآن حوالي 200 ملف حالة تعذيب وسوء معاملة في مراكز الاحتفاظ والسجون.
وأكدت على هامش الندوة التي نظمتها المنظمة بالعاصمة تونس حول موضوع "التعذيب وسوء المعاملة بين الواقع والتشريع" أغلب الحالات التي وردت على المنظمة اغلبها حالات تعذيب مسلط على الرجال مع تسجيل 5 حالات تعذيب ضد الأطفال.وبينت أن المنظمة تلقت 127 حالة تعذيب حسب تعريف القانون التونسي والدولي إلى جانب تلقي 22 حالة تهم ملفات انتقامية بمعنى أن بعض الذين تعرضوا للتعذيب وإطلاق سراحهم تم تلفيق إليهم قضايا للتعتيم على الشكاوى القضائية.
وأضافت النصراوي في السياق ذاته انه تم تقديم 40 شكوى قضائية منها 24 توجهت للبحث القضائي وان 3 حالات تم فيها قرار ختم البحث علاوة على ملفين اثنين أمام القاضي الابتدائي وملف واحد أمام محكمة الاستئناف بالإضافة إلى تلقي المنظمة لحالتي اغتصاب غير معروفة وحالتين صدر بشأنهما حكم الإعدام يتعرضان للتعذيب.ولاحظت رئيسة المنظمة أن 89 بالمائة من الملفات التي تلقتها من الاعتداءات موجهة ضد الرجال و 11 بالمائة موجهة ضد النساء كما ان 26 بالمائة من حصلت قبل 14 يناير 2011
كما أن 73 بالمائة من حالات التعذيب تمت بعد 23 أكتوبر 2012 و51 في المائة من الحالات تمت داخل مراكز الشرطة و 31 بالمائة داخل السجون و 16 بالمائة داخل مراكز الحرس و 2 في المائة من الحالات موزعة على الجيش والحرس الرئاسي والديوانة.ولفتت راضية النصراوي الانتباه إلى انه على مستوى الواقع المعاش لم يتغير الشيء الكثير في مجال التعذيب غير انه على مستوى التشريع تحققت بحسب رأيها مكاسب عدة من خلال تجريم التعذيب لا تسقط بمرور الزمن معتبرة انه مكسب هام لأنها جريمة بشعة وتصنف في خانة الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.
ونبهت إلى أن المنظمة لا تزال إلى الآن تتلقى الشكاوى يوميا من عائلات السجناء وعائلات الموقوفين وشكاوى من ضحايا عندما يتم إطلاق سراحهم إلى جانب تسجيل حالات وفاة في ظروف مسترابة في السجون ومراكز الاحتفاظ وفق اعتقادها،مشددة على أن طرق التعذيب المستعملة تعتبر أحيانا وحشية.وشددت من جانب أخر على انه لا يجب تعميم جرائم التعذيب وسوء المعاملة على كل الأمنيين داحضة الفكرة السائدة والعامة لدى عموم الناس بان كل أعوان الأمن والسجون يمارسون التعذيب.
من جانبه كشف زهير مخلوف عضو منظمة العفو الدولية بتونس أنّ عدد الوفيات السجون التونسية يتراوح سنويا ما بين 8 و 10 حالات، بينها حالات لمن يُعاني من أزمة صحية خطيرة، و أفاد ذات المصدر أنّ الإدارة العامة للسجون لا تتحمّل مسؤولية حالات الوفيات على غرار حادثة وفاة رجل الأعامل الجيلاني الدبوسي لأنّ المسؤول الأول هو لجنة العفو الخاص برئاسة الجمهورية و التي تُعاني على حدّ قوله من عدّة إخلالات حيث لا تُسارع في النظر في الملفات المعروضة عليها و لا تتعامل بالجدّية الكافية مع هذه الحالات على حدّ قوله.
شهادات حيّة تتحدث عن التعذيب
“لا شيء تغير بعد الثورة، كنا واهمين حين ظننّا أنّ التّعذيب و الإهانة ممارسات انتهت بعد سقوط نظام بن علي وودعناها بلا رجعة. لقد تعرضت لأبشع أنواع التعذيب خلال فترة إيقافي بسجن المرناقية. ضرب بالهروات وإهانة وشتم”.
هكذا تحدث نبيل العرعاري عن تعذيبه داخل أقبية سجن المرناقية. يصف نبيل عنف الأعوان وسوء المعاملة داخل السجن، فيقول ” خلال فترة إيقافي تم ضربي دون رحمة ، طلبت أكثر من مرة مقابلة الطبيب نظرا لشدة الآلام التي كنت أعاني منها جراء التعذيب، لكن دون جدوى. حرمت من التغطية الصحية رغم خطورة وضعي. لم أتمكن من معالجة طبية إلا بعد أن نفذت إضراب جوع دام ستة أيام”.
يغمغم نبيل قليلا قبل مواصلة الحديث، يحاول تذكر أفضع ما حصل له داخل السجن، ثمّ يقول “لم أكن أستطيع الوقوف والمشي على قدماي، لكن كان يتمّ جري يوميا للوقوف في الصف النّزلاء لتتمّ عمليّة عدّ المساجين الدّوريّة. عمليّة تتم يوميا أقف خلالها بالسّاعات رغم عدم قدرتي على ذلك”، يقول واصفا قسوة المعاملة التي عانى منها في سجن المرناقية.
خرج من السجن بعد ستة أشهر. إلاّ أنّه مازال يعاني مشاكل صحيّة حادّة جرّاء التّعذيب على مستوى الأذن والكتف الأيمن. تعرّض للتّعذيب والضّرب لكن لم توجّه له تهمة القتل، بل ضرب لمجرّد انتمائه لحزب العمّال واتهامه بتأجيج مظاهرات واحتجاجات بولاية سليانة (سمال غربي تونس).
وفاة رجل أعمال تونسي بعد ساعات من إطلاق سراحه
و في سياق متصل ،توفي فجر يوم أمس الخميس 8 مايو 2014 رجل الأعمال الجيلاني الدبوسي متأثرا بأزمة صحية تعرض لها بعد ساعات قليلة من الإفراج عنه من سجن المرناقية بالعاصمة.وأكد نجل المتوفي "سامى الدبوسي" في تصريحات إعلامية أن والده كان مصابا بفشل كلوي ويغسل كليته في السجن بإستمرار وأنه سبق وأن طالب وناشد السلطات التونسية بإطلاق سراحه لأسباب صحية إلا أنه لم يتم ذلك، مؤكدا أن والده بقي في السجن عامين ونصف كاملين دون أن تقع محاكمته.
و أكد"سامي الدبوسي" في ذات السياق أن والده وبعد خروجه من السجن الذي قضى به أكثر من سنتين لم يكن الوحيد المستهدف بإيداعه السجن بل منطقة الشمال الغربي التونسي برمتها،مضيفا أنهم توجهوا بعديد المراسلات والشهائد الطبية التي تفيد أن والدهم مصاب بالقصور الكلوي، وأن عملية التصفية لا يمكن أن تتم في أي سجن في العالم لكنهم تجاهلوا مطالبهم ونداءات الهيئة العليا لحقوق الإنسان،متعللين -والكلام دائما لسامي الدبوسي- بأنه توجد في سجن المرناقية الإمكانات للقيام بعملية التصفية.
وأكد نجله سامى الدبوسي، في تصريح إعلامي، أن والده يملك العديد من الحقائق ضد القيادات البارزة حاليا في تونس وهو ما دفع الباجي قائد السبسي إلى وضعه في السجن قبل الانتخابات بالتعاون مع عدد من المسؤولين وعند تسلّم حركة النهضة دواليب الحكم في تونس، واصلت سجنه وعملت بمقولة “لا يرد فاس على هرواة” وفق تعبيره.و قد طالب عدد من نشطاء المجتمع المدني في تونس و بعض الأحزاب بفتح تحقيق في ملابسات وفاة رجل الاعمال "جيلاني الدبوسي" واتهمت الحكومات المتعاقبة منذ الثورة بالتورّط في قتله بطريقة ممنهجة بسبب تجاهلهم لحالته الصحية وعدم محاكمته.
و قال الأمين العام لنقابة السجون و الإصلاح « حبيب الراشدي » انه سيطالب بفتح تحقيق في وفاة رجل الأعمال « الجيلاني الدبوسي »، مشيرا إلى أنّه سجن حوالي ثلاث سنوات دون محاكمة تضمن له حق الدفاع عن نفسه، فضلا عن اشتكائه قبل وفاته من حرمانه من العلاج خاصة انه يعاني من مرض مزمن.ويذكر أن « الجيلاني الدبوسي » أصيل مدينة عين دراهم (الشمال الغربي التونسي) وهو أحد رجال الاعمال وصاحب مصحة خاصة كما أنه الرئيس السابق لبلدية طبرقة قبل سقوط النظام السابق.
الدولة تعتذر لضحايا التعذيب
قدم رئيس الجمهورية التونسية،محمد المنصف المرزوقى خلال تظاهرة انتظمت صباح يوم أمس الخميس 8 مايو، بقصر الضيافة بقرطاج بمناسبة الاحتفال باليوم الوطنى ضد التعذيب "اعتذار الدولة" لضحايا التعذيب طيلة 50 سنة ولعائلاتهم .
و أشار المرزوقي الى أن المعركة ضد التعذيب ليست عملا موسميا بل معركة متواصلة لا تنتهى مؤكدا على ضرورة إيجاد آليات مجتمعية لرصد هذه الظاهرة ولاجتثاثها وأضاف "القوانين لا تكفى وحدها لاجتثاث هذه الظاهرة بل يتطلب الأمر تطويرا و إصلاحا فى العقليات ومجتمعا مدنيا قويا يواجه هذه الآفة".
و طالب رئيس الجمهورية ،من مكونات المجتمع المدني ان تراقب اداء الدولة قائلا "لا تصدقوا الدولة لأنها يمكن أن تسقط في أيادي غير آمنة لذلك أدعو المجتمع المدني أن يراقب الدولة وقاوموا كل دولة تمارس التعذيب لأنها لا تستحق المواصلة".
وشدد المرزوقي في اختام كلمته ، على مواصلة مقاومة ظاهرة التعذيب "نعمل على تشخيص دقيق للوضع لاجتثاث التعذيب وهذا سيأخذ وقتا طويلا، هي حرب متواصلة ومعركة لا تنتهي سخرت حياتي وسأواصل في ما تبقى منها لمقاومة التعذيب".