من يعد إلى التاريخ فقط ليتغنى به، أرى أنّه يخرج نفسه من حركة التاريخ، لأنّ حركة التاريخ لا تتوقف ولا تعود إلى الوراء، وعجلة الحياة في اندفاع دائم إلى الأمام، أما من يعد إلى التاريخ ليستقي العبر ويستخلص الدروس، فهو بلا شك يثبّت خطواته على مسار مستقبل آمن، لا يثمر إلا التقدم والنجاح والازدهار، فالبون شاسع وعميق بين من لا يستطيع أن يضيف شيئاً على ما فعله الأقدمون، ولا يمتلك القدرة حتى على الحفاظ عليه، وبين من يتخذ من إنجازات الماضي قاعدة يبني عليها، ومنطلقاً ينطلق منه نحو بناء مستقبل شامخ متين يتماهى ومفردات العصر وتطوره ومكتشفاته، ويُغني ما بناه السلف بأعمال إبداعية خلاقة تساهم في التأسيس لأعمال أكثر إبداعاً وأكثر فاعليةً وتأثيراً في الزمن اللاحق، الذي ستختلف حكماً ظروفه وأحكامه وقوانينه ومشاربه العلمية والفكرية عن ظروف وأحكام هذا الزمن الذي بدوره كان مختلف الظروف والأحكام والمشارب عن الزمن الذي سبقه...
وهذا بالطبع يدفعنا إلى عمل جادّ ودؤوب للبحث عن رؤى وأفكار وإبداعات واختراعات جديدة تنعكس تطوراً ورخاءً وتقدماً على الإنسان بكل جوانبها الفكرية والمعاشية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية، وتمكننا من أداء دورنا في كسر نمطية الماضي التي أصبحت عائقاً أمام طموحاتنا وآمالنا وعشقنا لحياةٍ أكثر انفتاحاً تتجدد فيها طرائق تفكيرنا وأساليب عملنا ومفاهيم علاقتنا مع الطبيعة والمجتمع والإنسان، وتتطور معها عقولنا التي أصابها من صدأ الجهل والجهلاء ما أصابها فعكّر عليها صفاء الرؤية وأحدث خللاً في موازينها، وبدلاً من أن يحفزها إلى معرفة الحقيقة غيّبها عن نورها وأوقعها أسيرة الأوهام والأضاليل، ودفعها إلى التفاخر بما قدم الماضون لا بما قدمت هي، والإشادة والإطناب بما أنجزوا لا بما أنجزت، والتقديس والعصمة لما وضعوا من مقدمات ونتائج لا لما وضعت.
وإذا كان من الوفاء والأخلاق بمكان ألا ننكر على رجال الأمس تأملهم وإبداعاتهم واختراعاتهم التي نالوا بها محبة الشعوب وإجلالها واحترامها، فإنّه من الواجب والضرورة أن نقوم بدورنا ونؤدي واجبنا، في إكمال مسيرتهم ورفدها بما نقدر عليه من أفكار وقيم وأحكام تتماهى وطبيعة العصر الذي نعيشه، والحياة التي نحياها، ولا أظنهم منزعجون، إذا فقناهم علماً ومعرفة ودراية وبحثاً وتفكيراً، مثلهم مثل الآباء الذين يفرحون لتفوق أبنائهم عليهم وامتلاكهم كلّ أسباب القوة والنجاح التي ربما لم تكن متوافرة لديهم، إلا أنّ الحقيقة المرة تكمن في عجز بعض رجال اليوم عن محاكاة رجال الأمس وبخاصة المتصدين لقيادة المجتمع الذين يختزلون أسرار الوجود وتعريف الحقيقة وفهم الحياة في أقوال وكتيبات، صلحت في زمن ما إلا إنها في هذا الزمن غير قادرة على الإجابة عن مستجدات العصر وما تخلفه هذه المستجدات من أسئلة كثيرة ليس لها جواب في تلك الكتب أو الكتيبات... الأمر الذي يدفع بهؤلاء الذين يظنون أنفسهم قيادات اجتماعية إلى محاربة أي فكر خلاق يعري عجزهم ويكشف ضعفهم ويسلبهم هذه الصدارة التي نالوها بغفلة من الزمن بعد أن ركبوا موجة الجهل التي لما تزل قوية في بعض المجتمعات، وهنا ينطبق عليهم مثال البخيل الذي يتغنى بكرم أبيه والجبان المتباهي بشجاعة جده، والجاهل المتفاخر بعلم ابن عمه والأحمق المستشهد برجاحة عقل خاله، والمرتاب المتوسل بإيمان أخيه وهكذا دواليك ناسين أو متناسين قول الشاعر:
إنّ الفتى من يقول ها أنذا ليس الفتى من يقول كان أبي
وفي الختام نقول: إذا كان الوقوف على الأطلال لا يثير فينا حميّة السبق لمن أفلوا ولا يدفعنا إلى نظم روائع الشعر ولا يُنخينا لامتطاء جواد المعرفة والتحليق في سماء المجد وتقلّد سيف الحق لنزهق به الباطل، ولا يؤجج في داخلنا رغبة التفوق في المكرمات والعطاءات، فإنه من الأجدى لنا أن نعترف بأن وقوفنا هذا ما هو إلا هروب من مواجهة الحياة، وإعلان عجز عن البناء والمشاركة في رسم خارطة مستقبل جديد تنتشر في سمائه رائحة الحياة المفعمة بالعطاء والتقدم والارتقاء إلى مصاف الأمم والشعوب التي سبقتنا عشرات السنين.
كاتب صحفي من المغرب.